دهاليز التاريخ والأوطان الثلاث!
كفاح محمود كريم
منذ عدة عقود تعرضت مجموعة مجتمعات في شرقنا الاوسطي الى تغييرات فوقية اما بسبب الصراعات السياسية البينية او نتيجة حروب قاسية أحدثت تشويهات غائرة فيها، ناهيك عن فقدان قود الدولة وهيبتها امام تكوينات أخرى بديلة لها او مدسوسة في جسدها كما يحصل في لبنان واليمن وسوريا والعراق حيث يفقد المجتمع عذريته في الامن والسلم الأهلي، وتنهار أواصر النسيج الرابط بين مكوناته فينحدر الفرد تحت طائلة الخوف والبحث عن السلام الى بدائل لوطنه بحثا عن الحماية والشعور بالأمان، ويبدو ذلك جليا في هذه المجتمعات ومثيلاتها منذ تكوين أنظمتها السياسية، خاصة تلك التي خاضت صراعات سياسية واجتماعية حادة بسبب الانقلابات العسكرية والتناحر السياسي الدموي على السلطة، حيث فقدت عذريتها السياسية والأمنية والاجتماعية وتحولت الدولة الى اللا دولة بغياب قانون متفق عليه لتفاصيل الحياة، فتقزّم المجتمع وانكمش إلى مجموعة اوطان تحتضن افراده وتوفر لهم الأمان الذي افتقدوه بغياب الجامع الوطني، تلك الملجئيات الجزئية أو الأوطان البديلة التي التجأ اليها الفرد تكمن في القبيلة والدين والمال.
وفي هذه الطوابق الثلاث من الأوطان البديلة: القبيلة والدين والمال، ينكفئ فيها الفرد متحصنا بها في غياب مفهوم المواطنة والانتماء الجامع لوطن ولدولة تنظم حركة الحياة وحدودها وترسم خارطة القوانين ومؤسساتها، هذا الهروب يضطر فيه الفرد الخوض في دهاليز التاريخ والموروثات الاجتماعية في العادات والتقاليد وتركيباتها في محاولة للبحث عن السلام وتهدئة روعه وارتباكه النفسي إزاء فقدان الدولة للقانون الأساس وتطبيقاته في حياة تلك المجتمعات القلقة، وفي خضم هذا الارتباك النفسي والاجتماعي يفقد المجتمع ذلك النسيج الوطني المنتج للمواطنة ويتحول الى مجموعة تكوينات غير متناسقة لا يجمعها مشترك لا تشعر بحاضرها البائس ولا ترى بصيص امل في القادم من الأيام وسرعان ما تنحدر الى دهاليز التاريخ في محاولة للبحث عن البدائل او حقائق الأحداث لاستنباط ما يخرجها من ازمتها.
وفي صفحات التاريخ سرعان ما تصطدم بأوجه المدونات التاريخية للأحداث، تلك المدونات التي أكدت الأيام انها كتبت برؤى مختلفة وأمزجة متناقضة، بل ومواقف معادية أو متحالفة مع الحدث وعناصره وأسبابه ومسبباته، وهي بالتالي تحتاج إلى أدوات ووسائل غاية في الدقة والمهنية والتحقيق، لأن الحفر في التاريخ بمعاول مثلومة، ربما تقودنا إلى دهاليز معتمة، أو تفاجئنا بأحداث تعيد ذاكرتنا إلى ما لا يشتهيه البشر، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن التاريخ ليس صفحات مقدسة أنزلتها الملائكة من السماء، إنما هي أحداث وثّقها بشر مثلنا، تتحكم فيه الغرائز والعواطف والحب والكره والانفعالات، وهو في الآخر يكتب من خلال زاويته التي ينظر منها إلى الأحداث، على خلفية معلوماته أو مشاعره تجاهها، وكيف يراها حسب تلك الميول، ومن هنا ندرك أن التاريخ ليس كتاباً مقدساً لا يخضع لتلك العوامل، وهو بالتالي مجموعة احداث يراها كاتبها في تلك اللحظة التي وثّقها، ولذلك علينا أن نتوخى الدقة في قراءتها، والاهم قراءة صاحبها الذي دونها؛ لذلك أرى أن الطريق الأقصر في بناء مجتمع معاصر بعيداً عن دهاليز أولئك الذين سجلوا تلك الوقائع تحت ضغط أمزجتهم، سواء أكانت تلك الصفحات معتمة أم مضيئة، أن نؤسس بنياننا على العلم الحديث والاستنتاجات بثقافة نقدية استنتاجية لكل ما سطره الأولين في توثيق الأحداث التي ورثت تداعياتها هذه المجتمعات، لكي نصل إلى مجموعة معطيات نبني على أساسها مجتمعاتنا الحديثة، وكلما تعلمنا أكثر، تعلم أبناؤنا وبناتنا أكثر، دونما العودة الببغائية والصنمية إلى التاريخ وصفحاته، فمن يبني حاضراً جميلاً لن يحتاج العودة إلى الماضي لكي ينظر إلى المستقبل.