التضخم في إيران: غلاء معيشة يتحول إلى أزمة بنيوية تهدد الاستقرار الاجتماعي
صورة: وكالة تسنيم
شفق نيوز- طهران
لم يعد التضخم في إيران مجرد مؤشر اقتصادي يقاس بالأرقام، بل تحوّل إلى واقع يومي يطال تفاصيل الحياة الأساسية، وفي مقدمتها الغذاء والمسكن والصحة. فأحدث بيانات مركز الإحصاء الإيراني تكشف عن دخول الاقتصاد الإيراني مرحلة تضخم مرتفع ومزمن، تتجاوز آثاره الجانب المالي لتصل إلى البنية الاجتماعية والصحية للمجتمع.
أرقام صادمة
وفق البيانات الرسمية، بلغ معدل التضخم السنوي في إيران 40.4%، وهو أعلى مستوى يسجّل خلال العشرين شهرا الماضية، فيما اقترب التضخم السنوي المقارن (نقطة إلى نقطة) من 49.4%. هذه الأرقام تعني عمليا أن الأسرة الإيرانية تحتاج إلى إنفاق يقارب 50% أكثر من دخلها مقارنة بالعام الماضي، فقط للحفاظ على الحد الأدنى من مستوى المعيشة.
أما التضخم الشهري، فقد استقر عند 3.4%، وهو مستوى يعد خطيرا من الناحية الاقتصادية، إذ يمنع أي تراجع فعلي في التضخم السنوي ويبقي موجة الغلاء في حالة إعادة إنتاج مستمرة.
الغذاء في قلب الأزمة
اللافت في موجة التضخم الحالية هو انتقال مركز الثقل إلى المواد الغذائية، فقد سجلت أسعار الغذاء تضخما شهريا بلغ 4.7%، وتضخما سنويا مقارنا وصل إلى 66%، فيما بلغ التضخم السنوي للغذاء 46.1%.
هذا التطور يشير إلى أن الغلاء لم يعد يقتصر على السلع الثانوية أو الكمالية، بل بات يطال الاحتياجات الأساسية المرتبطة مباشرة بصحة السكان وبقائهم.. فارتفاع أسعار الخبز والحبوب بنسبة تجاوزت 100%، وارتفاع أسعار الفواكه والمكسرات بأكثر من 108%، يعني أن حتى الحد الأدنى من الأمن الغذائي بات مهددا.
بعض السلع شهدت قفزات غير مسبوقة، إذ ارتفع سعر الفاصولياء الحمراء بنسبة 255% خلال عام واحد، والأرز الإيراني بنسبة 155%، والبطاطا بأكثر من 80%. هذه الأرقام تعكس تحول سلة الغذاء من مصدر للتنوع الغذائي إلى مجرد وسيلة للبقاء.
تفاوت جغرافي يعمّق عدم المساواة
لم يعد التضخم في إيران ظاهرة وطنية موحدة، بل بات يحمل بعدا جغرافيا واضحا؛ فقد أظهرت البيانات تفاوتا يصل إلى 17 نقطة مئوية بين المحافظات.
محافظة لرستان سجلت أعلى تضخم شهري في البلاد بنسبة 5%، تلتها أذربيجان الغربية وسمنان. وتعد هذه المحافظات من المناطق الأقل دخلا، ما يجعل تأثير التضخم فيها أكثر حدة مقارنة بالمراكز الاقتصادية الكبرى.
في المقابل، سجلت محافظات مثل طهران وهمدان أقل معدلات تضخم شهري، وهو ما يعزى إلى تركز البنية التحتية، وسهولة الوصول للأسواق، وقوة أدوات الرقابة والتنظيم.
أما على مستوى التضخم السنوي، فقد تصدرت سمنان المشهد للعام الحادي عشر على التوالي، بنسبة بلغت 45.6%، في حين بقيت طهران ضمن المحافظات الأقل تضخما نسبيا. هذا التفاوت يعكس إعادة إنتاج للفجوة التنموية بين المركز والأطراف.
الألبان مؤشر انهيار صامت
تظهر تطورات أسعار الحليب ومشتقاته جانبا خطيرا من الأزمة. فرفع أسعار الألبان دفع العديد من الأسر إلى تقليل استهلاكها أو حذفها من النظام الغذائي اليومي، رغم أهميتها الصحية، خصوصا للأطفال وكبار السن.
وصول سعر عبوة الحليب إلى قرابة 40 ألف تومان، والجبن إلى حدود 100 ألف تومان، جعل شراء هذه السلع قرارا حسابيا لا يوميا؛ هذا التحول ينذر بنقل الأزمة من الاقتصاد إلى الصحة العامة، مع احتمالات ارتفاع معدلات سوء التغذية والأمراض المزمنة على المدى المتوسط.
إلى جانب الغذاء، تشهد أسعار الإيجارات في العديد من المحافظات، ومنها لرستان، ارتفاعا متسارعا بفعل نقص المعروض وانتقال الضغوط التضخمية من المدن الكبرى إلى المدن المتوسطة؛ ارتفاع الإيجارات يلتهم جزءا متزايدا من دخل الأسر، ويقلّص قدرتها على الإنفاق على الغذاء والتعليم والعلاج.
كما ساهم ارتفاع تكاليف الخدمات الأساسية، مثل النقل والتعليم والعلاج، في تعميق الضغط المعيشي، ما يعني أن التضخم لم يعد محصورا في سوق السلع فقط.
في الوقت الذي تشير فيه بعض التصريحات الرسمية إلى أن مستوى الأسعار في بعض المحافظات أقل من المتوسط الوطني، تظهر مؤشرات التضخم السنوي والمقارن واقعا مغايرا، حيث سجلت بعض هذه المحافظات معدلات تضخم أعلى من المتوسط العام للبلاد.
هذا التناقض يعكس فجوة بين المؤشرات الإحصائية المجردة وتجربة المواطنين اليومية، إذ يتشكل “إحساس التضخم” أساسا من أسعار السلع التي تشترى يوميا، لا من المتوسطات الحسابية.
أثر اجتماعي طويل الأمد
النتيجة المباشرة لهذه التطورات هي تقلّص موائد الأسر، خصوصا في الشرائح ذات الدخل المحدود. تشير البيانات إلى أن الشرائح الدنيا تنفق الجزء الأكبر من دخلها على الغذاء، ما يجعل أي ارتفاع سعري تهديدا مباشرا لبقائها المعيشي.
حتى الطبقة المتوسطة بدأت تشهد تراجعا في جودة الاستهلاك، حيث ما زالت تشتري، ولكن بكميات أقل وجودة أدنى. هذا التآكل التدريجي ينذر بآثار اجتماعية وصحية عميقة، خاصة على الأطفال، الذين يعدّون الفئة الأكثر تضررا من تراجع جودة التغذية.
ما يجري في إيران يتجاوز كونه موجة غلاء عابرة، ليشكّل أزمة بنيوية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وصحية. التضخم المرتفع، والتفاوت الإقليمي، وتآكل القدرة الشرائية، كلها عوامل تعيد تشكيل الحياة اليومية للإيرانيين، وتطرح تحديات جدية على الاستقرار الاجتماعي في واحدة من أهم دول الإقليم.
ترجمة خاصة: شفق نيوز/ عن تسنيم الايرانية