القومية بين البناء الحضاري والتشويه الإقصائي
د. محمود عباس
إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة.
ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم 'سجاد تقي كاظم' من نقد وملاحظات حول مقالي السابق: "بين عباءة الإسلام وقناع القومية") إليه حول الدولة القومية في الشرق الأوسط يلقي الضوء على جوهر المشكلة: أنماط من التفكير والقيم التي استمرت لعقود، بل قرون، والتي كانت ترتكز على إلغاء الآخر تحت شعارات الأخوة في الدين أو الوطنية، بينما كانت تُخفي وراءها بذور الحقد والكراهية.
فما يفعله اليوم أردوغان يمثل تجسيدًا حيًا لعقلية الإقصاء القومي التي تختبئ خلف شعارات دينية أو أيديولوجية. فرغم رفعه شعار الإسلام والدعوة إلى الوحدة الإسلامية، فإنه يمجد القومية التركية على حساب الشعوب الأخرى، الكورد حصرا، حروبه الخارجية، في سوريا والعراق، وجله صراعاته الداخلية في شرق تركيا موجهة لطمس القضية القومية الكوردية، ويستخدم هذا التمجيد كوسيلة لتكريس سلطته وتوسيع نفوذ القومية التركية المختفية تحت عباءة الإسلام. هذه السياسة تُذكّر بما فعلته الأحزاب القومية العروبية، وأبرزها حزب البعث الذي قاده صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا، وقبلهما جمال عبد الناصر في مصر. كل هؤلاء قادوا شعوبهم بشعارات قومية أُخرجت من سياقها الحضاري الإنساني، لتحول القومية إلى أداة قمع وسيطرة، تبرر الإقصاء وتفكك المجتمعات.
أما أئمة ولاية الفقيه في إيران، فقد ساروا على النهج نفسه، لكنهم أضافوا بعداً دينياً تحت غطاء التشيع لتمجيد الفارسية وفرضها كهوية مهيمنة، ما أدى إلى تهميش الهويات القومية الأخرى داخل إيران، مثل الكورد والعرب والأذريين والبلوش. هذه السياسات لا تختلف في جوهرها عما فعله البعثيون والقوميون في العالم العربي، حيث تم سحق الهويات المتعددة وإلغاء التنوع الثقافي تحت شعارات قومية ودينية فارغة.
على الجانب الآخر، يمكن مقارنة هذه الأمثلة بأمثلة أكثر إيجابية تُظهر كيف يمكن لمفهوم القومية أن يكون بناءً. في أوروبا، نجحت دول مثل ألمانيا وفرنسا في تجاوز عصور القومية الإقصائية التي أدت إلى حروب كارثية، لتتحول إلى دول قومية تحترم التعددية وتضمن حقوق جميع المواطنين. ألمانيا، التي عانت من ويلات النازية، أعادت تعريف القومية لتصبح أداة للبناء الاجتماعي والاقتصادي، مع احترام الحقوق الفردية والجماعية، وقبول الآخر.
وفي جنوب إفريقيا، مثّل نيلسون مانديلا نموذجاً مختلفاً تماماً. فرغم عقود من نظام الفصل العنصري الذي فرض هيمنة الأقلية البيضاء، لم يسعَ مانديلا للانتقام أو الإقصاء. بل أسس مفهومًا جديدًا للوطنية، يقوم على التسامح والمساواة، ونجح في بناء أمة متعددة الأعراق تحت راية العدالة والمساواة.
بالمقابل، العقلية الإقصائية كما يتجلى اليوم في سياسات أردوغان أو قادة القومية العروبية، تستمر في تشويه مفهوم القومية وتحويلها إلى أداة تخدم مصالح الأنظمة الحاكمة. فهي ليست سوى انعكاس لثقافة السيطرة التي تسعى إلى تعزيز نفوذها بإلغاء الآخر، وهو ما يجعل هذه الأنظمة عاجزة عن بناء مجتمعات متماسكة ومستقرة.
ختامًا، القومية يمكن أن تكون قوة إيجابية إذا ارتبطت بالقيم الإنسانية واحترام التعددية، لكنها تتحول إلى أداة قمع عندما تُستخدم لتبرير الهيمنة والإقصاء. التجارب التاريخية تُظهر بوضوح الفرق بين القومية الإقصائية التي تمزق المجتمعات، والقومية التنويرية التي تُوحّدها وتبنيها.
لا شك أن الجميع يرفض المفاهيم القومية التي تغرق في الإيديولوجيات العنصرية الضيقة، والتي غالباً ما تُنتج الكراهية والانقسام، بدلاً من بناء أوطان متماسكة تحتفي بتنوعها وتعددية شعوبها. إن الطموح المشترك بين الشعوب والمجتمعات المتحضرة هو تأسيس أوطان تقوم على أسس حضارية، وأنظمة سياسية واجتماعية تحترم حقوق الإنسان وتصون كرامته بغض النظر عن انتمائه القومي أو المذهبي أو الديني.
هذا الطموح ليس مجرد مثاليات نظرية، بل هناك أمثلة ملموسة تجسد إمكانية تحقيقه. سويسرا، على سبيل المثال، تعد نموذجاً ملهماً لدولة متعددة القوميات واللغات، حيث يتعايش فيها الناطقون بالألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والرومانية. ورغم هذا التنوع اللغوي والثقافي، نجحت سويسرا في بناء نظام ديمقراطي يحترم حقوق الجميع، ويعتمد على مبادئ الفيدرالية واللامركزية لتحقيق العدالة والمساواة.
وبالمثل، تُظهر الهند كيف يمكن لدولة متعددة الأعراق والديانات أن تتبنى ديمقراطية راسخة، رغم التحديات الكبيرة. الهند، التي تضم مئات اللغات وآلاف الثقافات، وضعت دستوراً يضمن المساواة لجميع مواطنيها، بغض النظر عن اختلافاتهم. ورغم تعقيداتها، استطاعت الهند أن تحافظ على وحدتها من خلال احترام التنوع الثقافي والديني.
في المقابل، تُظهر التجارب المؤلمة التي مر بها الشرق الأوسط خطورة المفاهيم القومية العنصرية. الدول التي قامت على إقصاء الآخر، سواء بسبب قوميته أو مذهبه، عانت من صراعات داخلية وانقسامات أضعفتها. على سبيل المثال، السياسات التي تبنتها بعض الأنظمة في المنطقة، والتي كانت تقوم على تهميش الأقليات أو فرض هوية قومية واحدة، أسهمت في تفاقم الصراعات الطائفية والمذهبية، مما أدى إلى إضعاف النسيج الاجتماعي وتراجع التنمية.
إن بناء الأوطان على أسس حضارية يتطلب التخلي عن الإيديولوجيات القومية المتطرفة، والتوجه نحو تبني مفاهيم تعزز المواطنة المتساوية. من هنا، يمكن أن يكون النموذج الكندي مثالاً يُحتذى به في بناء وطن يتبنى التعددية كقيمة أساسية. كندا، التي تستقبل مهاجرين من مختلف أنحاء العالم، جعلت من احترام حقوق الإنسان والتنوع الثقافي أساساً لنهضتها واستقرارها.
للمقارنة، عند دراسة تطور الدول القومية في أوروبا، نرى أن هذه الدول قامت على أسس مستمدة من عصر التنوير. لقد تجاوزت أوروبا العديد من صراعاتها القومية والدينية عبر التمسك بقيم الحرية والمساواة واحترام الآخر. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي ألمانيا وإيطاليا، اللتان شهدتا حركات قومية متأخرة نسبياً في القرن التاسع عشر، لكنها قامت على مفاهيم الوحدة الوطنية وبناء الدولة الحديثة، وليس على إلغاء الآخر. ألمانيا على سبيل المثال، بعد توحيدها، أصبحت نموذجاً لدولة قومية تساهم في الحضارة العالمية، رغم كبواتها في بعض الفترات التاريخية.
لا شك أن القومية بذاتها ليست المشكلة، بل في طريقة تناولها وتفسيرها، فالدكتاتوريات والأنظمة الشمولية في أوطاننا هي التي أفسدت المجتمعات ومنهجية القوميات، وشوهت الثقافات والمفاهيم وليس العكس. القومية التي تحمل في جوهرها حب الوطن والهوية هي قوة إيجابية تُعزز البناء والتقدم. أما القومية الملوثة بثقافات الاستبداد والتملك وكراهية الآخر، فهي التي تتحول إلى مرض ينخر في المجتمعات.
مثال آخر على القومية المتناغمة مع الحضارة هو تجربة الولايات المتحدة الأمريكية، التي رغم تأسيسها على مبادئ قومية، إلا أنها استطاعت أن تدمج مفاهيم التعددية الثقافية واحترام حقوق الأقليات، مما ساهم في بناء دولة قوية ومتقدمة.
أما في الشرق الأوسط، فإن التناقض بين رفض التقسيمات الاستعمارية مثل سايكس بيكو من جهة، والتمسك بالحدود التي رسمتها هذه الاتفاقيات من جهة أخرى، يعكس عمق الإشكالية الثقافية. إنه تناقض ينبع من ثقافة الإقصاء والاحتكار، حيث تُغيب مفاهيم الحوار والشراكة.
لا يكمن الحل في رفض القومية كفكرة، بل في إعادة صياغتها لتكون أداة للسلام والبناء، وليست أداة للإقصاء والصراع. إن حب الوطن والعمل على بناء دولة قومية لا يعني أبداً كراهية الآخر، بل يتطلب شراكة حقيقية معه في بناء مستقبل مشترك يحترم الجميع.
الأوطان التي تُبنى على الاحترام المتبادل والعدالة الاجتماعية، وتحتضن الجميع دون تمييز بناءً على انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الثقافية، هي الأوطان التي تضمن السلام الداخلي والتنمية المستدامة. هذا هو الطموح الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا، بعيداً عن الإيديولوجيات التي تضيق الأفق الإنساني وتحصر الانتماء في إطار قومي عنصري، كما فعلت الدولة التركية منذ عهد أتاتورك وحتى أردوغان، وكما مارسته الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة في سوريا والعراق، بدءاً من هيمنة حزب البعث على مقاليد الحكم إلى يومنا هذا. تلك الإيديولوجيات، التي تتجاهل القيم الإنسانية المشتركة التي توحدنا، لم تكن سوى أداة لتفكيك المجتمعات ونشر الكراهية والفرقة، بدل أن تكون وسيلة للبناء والتقدم المشترك.