حكاية الكورد الفيليين مع البنك المركزي العراقي
ياسر عماد/ لقد ترك الكورد الفيليون صفحات ناصعة البياض في تاريخ العراق الحديث، وفي مختلف المجالات التي عملوا بها فهم معروفون بالأمانة والنزاهة والوفاء لمن يعملون له، وهم أصحاب سمعة طيبة لدى من اختلط وتعايش معهم.
في هذه الصفحات أودُّ أن أقصُّ على القارئ حكاية الحمّالين الكورد الفيليين في البنك المركزي العراقي بمطلع الثمانينيات من القرن المنصرم وقبل ذلك ينبغي أن اتحدث عن هذه المهنة الشريفة، فالبعض يُعيب علينا (الحمالة) ويقول لنا: إن من آبائكم واجدادكم كانوا حمّالين، نعم كانوا كذلك، ونحن نفتخر بهم لما قدموه لأسرهم اولاً: فأولادهم اصبحوا فيما بعدُ أكاديميين في مختلف المجالات العلمية، وسياسيين، وموظفين مهمين في الدولة، وثانياً لما قدموه لمجتمعهم إذ ضربوا مثالا للنزاهة بأروع صورها، والأهم من ذلك كلِّه صفة عزة النفس التي كانوا يتحلون بها فهم عملوا بعرق جبينهم، ولم يمدوا ايديهم ولا سرقوا ونهبوا مثلما هم تعرضوا له في حملة التسفير والتهجير الظالمة.
وعودا على بدء هنا اسرد لكم حكاية جدّي (أسد فيض الله) حيث كان في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات (باش حمّال) في البنك المركزي العراقي في شارع الرشيد بمدينة بغداد، وينقل والدي وأعمامي عن أبيهم المرحوم أنهم كانوا يعملون بكلِّ جد ومثابرة مع قُرابة 30 حمّالاً جميعهم من الكورد الفيليين، وكان المسؤولون في البنك آنذاك يثقون بهم أيما ثقة، فهم لا يقبلون أن يدخل شخص غريب بينهم، وأن تقتصر المهنة على هذه الشريحة من المجتمع دون غيرهم.
ويروي والدي واعمامي وأبناء عمومتهم ايضا بداية المأساة مع هؤلاء الكادحين والتي بدأت مع حملة التسفيرات فقد بدأ الحمالون الذين هم بالعشرات ينقصون واحدا تلو الآخر حتى لم يبقَ منهم سوى أفراد قلة يعدون بالأصابع، وبدأ الألم الشديد والغصة والحزن تعتري "الباش حمّال" حتى بدأت تنهار قواه ويمرض ويصبح طريح الفراش على ما فقد من حمّالين يمتازون بالأمانة والثقة، فقد كانوا سنداً ومعيناً له في رفع صناديق القطع النقدية المعدنية الثقيلة في ذلك الوقت من دون أن ينقص منها ولو فلس واحد.
وفي بداية مرضه الذي استمر أكثر من 40 سنة ويفارق الحياة، زار نائب محافظ البنك المركزي شخصيا بيت جدّي وطلب منه العودة الى العمل إلا أنه قد اعتذر بفعل حالته الصحية حسبما ترويه جدتي المرحومة الحاجّة "سعدية نامدار الملكشاهي"، وبدأت حالة (الباش حمّال) تتفاقم يوماً بعد آخر ليصل به المطاف إلى أنه يطلب من أُسرته الذهاب معه إلى المنظمة الحزبية في حي جميلة شرقي بغداد - محل سكانه - وأن يسقط الجنسية العراقية عن أفرادها ويلتحق بركب رفاقه ممن أُلقيوا على الحدود بين العراق وايران آنذاك إلا أنهم رفضوا ذلك بشدة.
وكشاهد على الثقة والأمانة والنزاهة التي كان يتمتع بها أولئك الحمّالون، وبحكم عملي الصحفي انتهزت الفرصة في يوم من الأيام وخلال حديث دار بيني وبين السيد مظهر محمد صالح مستشار رئيس مجلس الوزراء للشؤون المالية الذي اقضى سنوات عديدة من عمره في البنك المركزي العراقي لأذكِّره بأولئك الرجال، ليبادر الرجل فورا وبكل صدق، وبعد ذكر اسمائهم بالثناء عليهم افضل الثناء وقال لي: الله كم كانوا رائعين هؤلاء الرجال بينهم المرحوم أسد (الباش حمّال)، ومن بعده شقيقه المرحوم (فرمان) الذي تسلم المهمة، هو وأولاده كانوا جميعهم قمّةً في النزاهة والأمانة والتفاني بالعمل رحم الله الراحلين منهم وأمدّ في عمر الباقين.
وهنا وقبل ختام هذه الأسطر قد يقول قائل فرضاً: ما هو الإنجاز والميّزة في أن ينقل مجموعة من الأشخاص بضائع أو أي أشياء أُخرى، كلا الأمر ليس كذلك فهؤلاء كانوا ينقلون يومياً الصناديق الحديدية من القطع النقدية المعدنية الذي يناهز وزن الواحد منها 70 كيلوغراماً بصدقهم وعفّتهم وأمانتهم قبل أكفهم وظهورهم، فثُقل الأمانة أشد وطأة عليهم من ثقل الاوزان، وهذه الصناديق كانت في يوم من الأيام عصب الحياة، والشريان الأساسي لاقتصاد العراق.