هل آن الأوان لإحداث ثورة في التعليم العالي؟
أ.د. محمد الربيعي
تمهيد
في خضم التحديات التي يواجهها نظامنا التعليمي، تتسلل الى نفوسنا احيانا شعور بالاحباط. ولكننا نؤمن بأن الازمات تحمل في طياتها فرصا للنهوض والتغيير. فبينما نودع عاما اخر ونستقبل عاما جديدا، تتجدد امالنا بتغيير جذري في منظومتنا، وبناء نظام تعليمي عالي الجودة، قادر على تلبية تطلعات مجتمعنا وتحديات المستقبل.
مقدمة
يشكل التعليم العالي ركيزة اساسية للتنمية المستدامة، الا ان نظام التعليم العالي الحالي يعاني من تدهور ملحوظ، مما يؤثر سلبا على قدرة الجامعات على اعداد خريجين مؤهلين لسوق العمل وتلبية طموحاتهم وتطلعاتهم المهنية. فكيف يمكننا تحويل تحديات التعليم العالي الى فرص؟ وكيف يمكننا بناء نظام تعليمي قادر على انتاج اجيال من المبدعين والمبتكرين؟ ان الاجابة على هذه الاسئلة تتطلب جهدا جماعيا ووضع استراتيجيات شاملة لاصلاح التعليم العالي، بما في ذلك تحديث المناهج الدراسية وتطوير الكوادر الاكاديمية والاستثمار في التقنيات الحديثة وتعزيز البحث العلمي النزيه وبناء شراكات فعالة مع الجامعات العالمية.
مقترحات
المقترحات التي نقدمها قد تبدو صعبة المنال، لكنها ضرورية كالهواء لانقاذ تعليمنا العالي من الانهيار. وقد تبدو طموحة، ولكنها وحدها القادرة على اطلاق العنان للإبداع والابتكار في جامعاتنا. لا مجال للتسويف او التردد، فالتحديات التي تواجهنا تستدعي حلا جذريا وشاملا. وبتطبيق هذه الرؤية، سنعيد لجامعاتنا مجدها، ونضمن لأجيالنا القادمة مستقبلا أفضل:
تعيين القيادات الجامعية على اساس الكفاءة وتفكيك نظام المحاصصة بالكامل. لابد من اعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، وانتهاج اسلوب لجذب الاكاديميين المتحمسين والمؤهلين الى مناصب ادارية عليا في الجامعات.
التخلص من اصحاب الشهادات الزائفة والفاسدين والمتقاعسين في الجامعات، واتخاذ اجراءات حاسمة مثل تشديد الرقابة على منح الشهادات، وتطبيق عقوبات رادعة على المزورين والمرتشين، وتطوير اليات فعالة لتقييم اداء الموظفين، وابعاد غير الاكفاء منهم. كما يجب العمل على تعزيز قيم النزاهة والشفافية والمساءلة في جميع المؤسسات.
تشكيل مجالس امناء للجامعات، تضم خبراء من مختلف المجالات، لتعزيز الحوكمة المؤسسية وتحسين أداء الجامعات. تقوم مجالس الأمناء، بصفتها هيئات مستقلة، بوضع الخطط الاستراتيجية للجامعة والموافقة على الميزانية وتعيين القيادات العليا وتقييم الأداء وبناء الشراكات. من خلال هذه المهام، ستساهم مجالس الأمناء في تعزيز الشفافية والمساءلة وتحسين جودة التعليم والبحث العلمي وجذب الاستثمارات، مما يجعل الجامعات أكثر قدرة على مواجهة التحديات المعاصرة وتلبية احتياجات المجتمع. كما ستساهم الخبرة المتنوعة لأعضاء مجالس الأمناء في ضمان اتخاذ قرارات استراتيجية تتناسب مع احتياجات الجامعة والمجتمع على حد سواء.
اتباع نهج جديد في التعليم يركز على تطوير مهارات التوظيف لدى الخريجين، من خلال تبني منهجيات مبتكرة تستثمر في القدرات الإبداعية والتفكير النقدي. ويجب أن تتضمن المقررات الدراسية بشكل مباشر المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل، مثل التفكير النقدي، البرمجة، حل المشكلات، القيادة، التنظيم، المرونة، التوثيق، التواصل، والأخلاق المهنية، وذلك لضمان خروج خريجين مؤهلين لسوق العمل ومتسلحين بالمهارات اللازمة للنجاح.
التأكيد على اهمية اشراك أرباب العمل والوزارات المعنية والهيئات المهنية في تصميم وتقييم البرامج والمقررات الدراسية. يمكن تحقيق التعاون من خلال تأسيس مجالس استشارية تضم ممثلين عن جميع الأطراف المعنية، وتنظيم ورش عمل ومؤتمرات دورية لمناقشة التطورات في سوق العمل ومتطلبات المهارات. كما ستتيح الاستفادة من الخبرات الدولية في تطوير المناهج الدراسية ورفع جودتها.
ادماج ضمان جودة المناهج كمسؤولية مشتركة بين المؤسسات التعليمية وهيئة تنظيمية مستقلة لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي. يتطلب ذلك التعاون بين وزارة التعليم العالي وهيئة ضمان الجودة لتطوير معايير وطنية لضمان جودة المناهج، وتبادل الخبرات والممارسات الجيدة، وتأسيس شبكات وطنية لدعم الجودة في التعليم العالي.
تطوير نظام تقييم شامل للبرامج الدراسية والكوادر الأكاديمية، يعتمد على معايير دولية متفق عليها. يساهم هذا النظام في ضمان جودة التعليم وتحسين اداء المؤسسات التعليمية، ورفع تنافسيتها على المستوى الإقليمي والدولي. وبالاضافة للتقييم الدوري للمناهج الدراسية يجب ان يشمل التقييم أداء أعضاء هيئة التدريس ورضا الطلاب ومخرجات التعليم. كما يجب ان يتم تقييم الكفاءات والمؤهلات العلمية لأعضاء هيئة التدريس بشكل دوري، وتوفير برامج تدريبية لتطوير قدراتهم. من خلال هذا النظام، يمكن تحديد نقاط القوة والضعف في البرامج والكوادر وتوجيه الجهود نحو تطويرها وتحسين جودة التعليم بشكل عام.
توفير برامج تدريبية مستمرة ومتخصصة للأكاديميين، تغطي احدث التطورات في مجالاتهم، وذلك لضمان تحديث معارفهم ومهاراتهم، وتمكينهم من تقديم تجربة تعليمية غنية ومواكبة للمتغيرات العالمية.
ادخال مشاريع وبحوث التخرج كشرط للحصول على الشهادة. واعتماد القدرة على التحدث بلغة اجنبية اساسا للحصول على شهادة التخرج.
الانتقال من النمط التقليدي للتلقين الى بيئة تعلم ديناميكية تشجع على التفكير النقدي والابداع، وتتيح للطلاب الوصول الى مصادر معلومات متنوعة، مما يمكّنهم من بناء معرفة متينة ومهارات تفكير عالية.
التخلي عن النظام الحالي في قبول الطلبة بناء على نتائج البكلوريا فقط، واستبداله بنظام قبول متعدد المعايير يعتمد على تقييم شامل لقدرات الطالب وميوله واهتماماته، بالاضافة الى ادائه. يمكن تحقيق ذلك من خلال إجراء اختبارات قدرات متنوعة، وربط التقييم بمعايير محددة لكل تخصص. ومع ذلك، يجب الحرص على توفير الدعم اللازم للطلاب الذين يواجهون صعوبات في التكيف مع النظام التعليمي الجديد، وتطوير برامج تدريب مهني لمساعدتهم على اكتساب المهارات المطلوبة في سوق العمل وذلك باضافة سنة تحضيرية الى سنوات الدراسة الجامعية.
الغاء الازدواجية في القبول الجامعي والمتمثلة في تعدد القنوات والفرق في معدلات القبول بين الجامعات الحكومية والاهلية، وضمان تكافؤ الفرص بين جميع المتقدمين.
تأكيد مبدأ مجانية التعليم والبحث العلمي في الجامعات الحكومية، وتجسيد هذا المبدأ على ارض الواقع من خلال إلغاء جميع الرسوم الدراسية والإدارية والبحثية المفروضة على الطلاب. تقع على عاتق الدولة مسؤولية توفير الميزانيات اللازمة لتمويل الجامعات الحكومية وتوفير البنية التحتية اللازمة وتوفير الأجهزة والمعدات والمواد اللازمة للدراسات وللبحث العلمي.
اخضاع الجامعات الاهلية لحوكمة خاصة تضمن تحقيق اهداف غير ربحية بحيث يتم اعادة استثمار اي فائض مالي في الجامعة نفسها لتطوير البنية التحتية، وتوفير برامج جديدة، ورفع رواتب اعضاء هيئة التدريس، وغيرها من الانشطة التي تعود بالنفع على الطلاب والمجتمع.
بناء عدد من النماذج الرائدة لتزويد الطلاب بالوسائل والادوات اللازمة للتعلم الفعال من خلال توفير الفصول الدراسية الذكية، والمكتبات الرقمية، والمساحات المشتركة للتعلم التعاوني، مما يشجع على التفكير النقدي والابداع، وتبني مبادرات مبتكرة مثل برامج التبادل الطلابي، وبرامج التدريب المهني، ومبادرات التعليم مدى الحياة لغرض توسيع افاق الطلاب، وتزويدهم بالمهارات والمعارف اللازمة للنجاح في عالم متغير باستمرار.
تحويل الجامعة الى مؤسسة مجتمعية متكاملة، تقدم خدمات متنوعة تلبي احتياجات المجتمع المحلي. يمكن تحقيق ذلك من خلال إشراك المجتمع في الأنشطة الجامعية، وتقديم الخدمات الاستشارية للمؤسسات الحكومية والخاصة، وتنظيم الفعاليات الثقافية والعلمية وتساهم في حل المشكلات التي يعاني منها المجتمع المحلي، وبناء شراكات قوية مع المؤسسات الحكومية والخاصة والمنظمات غير الحكومية. من خلال هذه الشراكات، يمكن للجامعة أن تلعب دوراً محورياً في التنمية المستدامة للمجتمع.
تحسين القدرة على البحث العلمي النزيه باعتباره امرا بالغ الأهمية لحل المشكلات المجتمعية المعقدة. من خلال الاهتمام بالعمليات والرقابة والتقييم، يمكن ضمان موثوقية النتائج ودقتها. كما يمكن للبحث العلمي النزيه ان يساهم في تطوير حلول مبتكرة ومستدامة للمشكلات التي تواجه المجتمع، وتحسين جودة حياة الناس. كما لابد من العمل على تعزيز ثقافة النزاهة في الأوساط البحثية والأكاديمية، وتوفير الدعم اللازم للباحثين لتمكينهم من إجراء ابحاث عالية الجودة والموثوقية.
اعادة هيكلة نظام الترقيات لجعله اكثر عدالة وشفافية، بحيث يعكس المساهمات الفعلية للباحثين في تطوير المعرفة وخدمة المجتمع. فقد ادى التركيز المفرط على النشر العلمي في نظام الترقيات الى جعل الجوانب الأخرى من العمل الأكاديمي، مثل التدريس والتوجيه وخدمة المجتمع، ثانوية. يمكن تحقيق ذلك من خلال فصل الترقية العلمية عن الترقية الوظيفية، وتطوير معايير تقييم جديدة تأخذ في الاعتبار جودة البحث وتأثيره، بالاضافة الى المساهمات في تطوير التدريس والتوجيه وخدمة المجتمع.
الحد من الجمود الهيكلي في نظام التعليم العالي ومنح الجامعات استقلالية ادارية واكاديمية واسعة الصلاحية، مما يتيح لها تطوير برامج دراسية مبتكرة تلبي احتياجات المجتمع وتساهم في التنمية المستدامة.
اعادة هيكلة الجامعات لتشجيع التكامل بين التخصصات المختلفة، وتعزيز التعاون بين الباحثين، وتقليل التكرار في البرامج الدراسية. ان التجزئة المفرطة للكليات والأقسام والتوسع اللامعقول في الاختصاصات قد ادى إلى تشتت الموارد وتقليل التعاون بين الباحثين والأكاديميين. من خلال دمج الكليات والأقسام المتشابهة، وتوحيد البرامج الدراسية المتكررة، وتشجيع التعاون بين الباحثين، يمكننا بناء جامعات أكثر كفاءة وقدرة على مواجهة التحديات المعاصرة.
التاكيد على اهمية الحريات الاكاديمية واحترام حرية الراي كركيزة اساسية للتقدم العلمي والابداع، بحيث يسمح للباحثين والاكاديميين بحرية التفكير والتعبير عن ارائهم دون قيود.
ختاما، تحسين واصلاح التعليم العالي والجامعات في العراق هو عملية مستمرة تتطلب التزاما طويل الاجل من قبل الحكومة والجامعات والمؤسسات المعنية. من خلال اتخاذ الخطوات المذكورة اعلاه، يمكن للعراق ان يبني نظام تعليم عالي قادر على انتاج اجيال من الخريجين المؤهلين لسوق العمل، والمساهمة في التنمية المستدامة للبلاد.