من سيقود العالم في السنوات القادمة
د. محمود عباس
أصبحت جدلية متداولة في أمريكا أكثر مما هي في الخارج، أن من يجلس في البيت الأبيض يحكم العالم، وأمريكا في الواقع الفعلي لا زالت في يد العرق الأبيض، حتى ولو أن الحديث في هذا المجال بشكل علني مرعب التطرق إليه، لكن الكل يعلم وهو صامت، ولا خلاف على أن (دونالد ترامب) ممثلهم، بل ممثل الشريحة الأكثر تطرفا في الحزب، ولم يتمكن من التغطية على هذه الحقيقة بعد الطلقة التي كادت تؤدي بحياته. ففي نهاية مؤتمر الحزب وبعدما دفع به استراتيجييه على رفع شعار أنه يريد أن يكون ممثل الشعب الأمريكي عامة وليس لطرف واحد، عاد ليكمل كلمته على سجيته الحقيقية بعد منتصفها، وبها وربما بدون تخطيط، جمع الطرفين في الحزب، الطامح إلى بلوغ البيت الأبيض مع المتكالب على الهيمنة العرقية.
ففي مؤتمر الحزب الجمهوري، الذي استمر ثلاثة أيام وأنتهى البارحة، تكرر مقولة رئيس العالم، وأمريكا العظمى، وغيرها من مصطلحات التباهي التي عكست العنجهية المسنودة عليها دونالد ترامب أمام مؤيديه، وجلهم ما يعرفون بأبناء الريف الأمريكي، وفي الواقع هم الشريحة البيضاء والتي ترى ذاتها العرق الأفضل، حتى ولو أنهم لا يتجرؤون على قولها، لأن القانون الأمريكي يحكم على الفرد سنوات ثلاث من السجن وأكثر عند إثبات أية صيغة أو موقف عنصري، والقانون في هذا الاتجاه صارم جداً. لكن هذا لم يمنع من أن تظهر الشريحة العنصرية بألبستها، وطباعها، ومطالبها، وراياتها، وهؤلاء هم من اقتحموا الكونغرس عام 2020 عندما خسر في الانتخابات، وهي الطاغية في الحزب، حتى ولو كانت هناك مجموعات من السود أو عرق أمريكا اللاتينية في الحزب الجمهوري يعدون أيضا من أشد مؤيديه لكن خلفيات التأييد مختلفة. الأولى عرقية، والثانية اقتصادية وسياسية.
دونالد ترامب في حربه ضد إدارة بايدن، يركز على نقاط مختلفة، تبدأ من التهكم بشخصيته، إلى إتهام إدارته بأنها دمرت الإمبراطورية الأمريكية ذات القطب الواحد، بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، ولم تعد تتحكم بالعالم، من البعدين الاقتصادي والسياسي، وأن قوتها العسكرية المتواجدة في أكثر من 190دولة من أصل 206، تخدم العالم قبل أن تخدم الشعب الأمريكي. وبالمقابل يستند على تقليص الهوة بين أمريكا والمنافسين لها كروسيا والصين، وحتى بعض الدول الصغرى، لكنها يدعي بأنه يحافظ على مستويات الحد من إستراتيجية الهيمنة لديها، ولا شك لا نتطرق إلى القضايا الخلافية الأخرى ما بين الحزبين والتي تعكسها خطابات ممثليهما أثناء حملاتهما الانتخابية.
وبهذه التهم تمكن دونالد ترامب، من تصعيد الصراع على البيت الأبيض إلى مستويات غير مسبوقة، وبأساليب لم يتم تداولها سابقا، ورغم الفرق الواسع بين لغتي الممثلين، تمكن ترامب من الريادة حتى الأن.
لكن هذا لا يعني أن الشعب الأمريكي توقف هنا ولا يبحث عن معرفة من سيكون في البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، فهناك شريحة واسعة من المحايدين يرفضون انتخابهما، وحججهما مقنعة، وهي ما بين تأثير العمر الزمني لجو بايدن وقدراته الذهنية، والسمعة الملوثة لدونالد ترامب، حتى ولم تم تبرأته، لكن الشريحة المعنية لن تبرأه، بعكس المؤيدة له والتي لا تهمها حتى ولو دخل السجن، ففي نظرهم سيظل منقذ أمريكا. ولذلك فما يجري حاليا سيكون له تبعات على قادم أمريكا داخليا، وخارجيا على العديد من الأمم والشعوب، وعلى العلاقات الدولية، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام.
لا شك بعد المناظرة التي تم قبل شهرين، إلى لحظة محاولة اغتيال دونالد ترامب، تزايدت شعبيته ليس لأنه يقدم الأفضل، بل لتراجع شعبية بايدن على خلفية الأخطاء المتكررة، وهيئته عند الظهور أما جماهيره.
إلى جانب ما نوهنا إليها هناك (المناظرة الفاشلة لجو بايدن، العمر، القدرة الذهنية) هناك عوامل أخرى ركز عليهم إستراتيجيي الحزب الجمهوري في مؤتمرهم، وبها تمكنوا من رفع مستوى احتمالات النجاح، وتفوق مرشحهم، ومنها:
1- تحريك إشكالية الرهائن اليهود الأمريكيين الذين هم بيد حماس، والتي لم تتمكن إدارة بادين حتى الأن من إطلاق سراحهم، وهي حالة مشابهة لما تم في 4 نوفمبر عام 1979 في طهران أثناء ثورة الخميني، واحتجازهم للمثلي السفارة الأمريكية وعدم قدرة إدارة (جيمي كارتر) من إنقاذهم، حينها استند ممثل الجمهوريين (رونالد ريغن) في حملته الانتخابية عليها، وأصبحت من أهم عوامل نجاحه.
2- محاولة اغتياله، فكما يقال الطلقة التي لا تقتلك تقويك، وبالحادثة تم في المؤتمر وخارجه التلاعب بمشاعر شريحة واسعة من الشعب الأمريكي.
3- تبيان ترامب الجد والأب الفاضل، من خلال ظهور أبناءه وأحفاده من على منصة المؤتمر، وهم يتحدثون عنه كشخص ورب عائلة مثالي، وليس كسياسي، أو كما عرف على أنه مدان بقضايا أخلاقية واقتصادية وقانونية.
4- على أنه لا يحتاج إلى الشهرة فهو يملكها، بل يحارب لإنقاذ أمريكا من الانهيار.
هذه وغيرها من الطروحات، بدأت تعوم احتمالية نجاح دونالد ترمب، خاصة وأن الديمقراطيين أصبحوا مشتتين ما بين دعم ممثلهم والطلب منه بالتنازل، الإشكالية التي أرى بأنها لن تخرج الحزب الديمقراطي من المأزق، لعدم وجود الممثل المناسب لمنافسة دونالد ترامب، فنائبة الرئيس (كاملا هاريس) شعبتيها ضعيفة بين الشرائح المحايدة، والإتيان بممثل أخر، ربما لا يملك الفترة الزمنية الكافية من: أولا، جمع الأموال اللازمة للحملة. ثانيا، الدعاية وتعريف الشعب الأمريكي على ذاته.
مع ذلك لا يزال للحزب الديمقراطية حظا من النجاح، على خلفية التطرف الذي برز على أسسه أسم دونالد ترامب، بل وأصبح يعرف بأنه يمثل الوجه العنصري، وعلى أثرها تجمع حوله الشريحة المتطرفة، والتي تقابلها شريحة متطرفة في البعد الديمقراطي، وهي لا تقل عن الأولى قوة ونسبة. إلى جانب أن سمعة ترامب في الحضيض لدى نسبة غير قليلة من الشعب الأمريكي، حتى ولو تم تبرئته.
وبالتالي فالحزبين لهما إشكاليات، حتى ولو كانت على أوجه مختلفة، والتنافس لن يكون على جماهير الحزبين، لأن أعضاءهما أصبحوا كمريدي الأديان يتوارثون التبعية جيل بعد جيل، لن يغيروا من مواقفهم أي كان ممثلهم، لذلك سيستمرون بالاعتماد على الولايات المحايدة، ومن بينها ولاية أوهايو، وهو ما أدى بالجمهوريين على تعيين السناتور الجمهوري (د ج فانس) أبن الـ 39 عاما والمتزوج من محامية والديها من مهاجري الهند، في منصب نائب الرئيس، وبه كسبوا عدة أوجه، إشكالية العمر، وجمهوره من الولاية المحايدة، وربما الجالية الهندية والتي ليست بقليلة، لولا أنها تنحاز إلى جانب (كاملا هاريس) وأمها هندية أيضا.
فيمكن القول، رغم ما يتبجح به الحزب الجمهوري، وتصاعد مكانة دونالد ترامب، والمتوقع أن يكون الرئيس الأمريكي القادم وللمرة الثانية، والتي ليس لها سابقة مماثلة في التاريخ الأمريكي، لا تزال احتمالات النجاح والخسارة متأرجحة، قد تتغير المعادلة قبل أو أثناء مؤتمر الديمقراطيين في 19 أب القادم، وعادة يخلق المؤتمر ضجة إعلامية صارخة، وكثيرا ما تغيرت المعادلات بعد مؤتمراتهم.