مظفر يرحل بعيدا عن شريعة النواب
مؤيد عبد الستار
كان الشعر الشعبي منتشرا في وسط وجنوب العراق حتى ذهب البعض إلى أن الشعراء في العراق عدد نخيله، وكان لون الابوذية على كل لسان وشفه يتغنى بها وتصاغ بها الحكم والامثال والمديح بسهولة كبيرة ويتنافس او بالاحرى يتبارى الشعراء بها بين جمهور المقاهي والمضايف في ليالي السمر صيفا وشتاء.
وكانت القصيدة الشعرية الشعبية منتشرة وسط النخبة وبين المعنيين بالشعر والأدب الشعبي ولكنها كانت تقليدية تنحصر بمواضيع معروفة مثل الغزل والمديح والهجاء.. الخ
واتيحت لنا الفرصة في الاطلاع على شعر مظفر النواب حين كان في سجن العمارة، بعد انقلاب 1963، إذ كان مسجونا مع مجموعة من السياسيين من مدينة الكوت اذكر منهم عمران عيسى والمعلم موسى وهما من ابناء الكرد الفيليين من معارفنا، وحين كان يقوم بعض الأقارب بزيارتهم كانوا ينقلون لنا اخبارهم وبعض قصائد مظفر النواب والتي كانت ذات أسلوب جديد ولغة معبرة وصور جميلة لذلك كانت تنتشر بين الشباب ويزداد الاعجاب بها.
فيما بعد انتشرت قصيدة براءة وسرت بين الناس سير النار في الهشيم وعلى الأخص الوسط التقدمي واليساري، واذكر ان جريدة بغدادية نشرتها - لا اتذكر اسمها - فنفذت الجريدة من الأسواق وقيل ان شرطة الأمن جمعتها من أكشاك بيع الصحف، ولكن تداولها الناس بشتى الاشكال وصارت ايقونة مقاومة الاعتقال والتعذيب والاضطهاد الذي كانت تفرضه قوى الأمن على المعتقلين اليساريين والتقدميين والشيوعيين الذين قاوموا انقلاب 8 شباط 1963.
اختفى مظفر النواب من الساحة الادبية والسياسية الا ان اخباره وقصائده ظلت تتناقل بين الشباب وعلى الأخص قصيدته البراءة والريل وحمد وصويحب وحن وآنه احن. وكانت المجاميع تغنيها سوية في الحفلات التي تنظمها المنظمات اليسارية مثل اتحاد طلبة العراق ورابطة المرأة والشبيبة الديمقراطية المنبثقة من الحزب الشيوعي العراقي.
وقد ابدع العديد من الفنانين في ترديد وتلحين قصائد النواب مثل الفنان الراحل جعفر حسن والفنان سامي كمال والفنان الراحل حميد البصري والملحن محمد جواد اموري والملحن الراحل كمال السيد .
وأذكر حين حان موعد سفري ومغادرتي العراق مكرها عام 1979 استعرت ديوان الريل وحمد من أحد الاصدقاء بتكتم وحرص كبيرين ونقلته كاملا في دفتر حملته معي مغامرا الى الخارج لانه كان ممنوعا من التداول .
وشاءت الظروف ان اتنقل في العمل بين عدة بلدان فالتقيت بمظفر النواب في طرابلس / ليبيا عام 1989 ، وكان لقاء قصيرا لانه كان على وشك الرحيل الى سوريا وانا على وشك مغادرة ليبيا الى السويد . وحصل ان زار السويد اواسط التسعينات من القرن الماضي فالتقيت به في مدينة مالمو مدينة لوند . وكان لقاء في ندوة انشد فيها من شعره قصائد مشهورة هزت ضمائر الحضور .
استطاع مظفر نقل الشعر الشعبي العراقي الى مستوى رفيع من الاحاسيس الجياشة واستخدم التعابير الشفافة التي تهز المشاعر مثل تعبيره عن الحنين بقوله :
حن وآنه أحن / نسحن الدمعه ونمتحن
مرخوص بس كت الدمع / شرط الدمع حـد الجفن
حـن بويــــه حــن
ولو تناولنا قصيدته الشهيرة الريل وحمد والتي يقول فيها
مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل
سنجد انه نقل القطار الى مكان محدد يعشقه المناجي الذي يستقل القطار ، فالمكان هو مرابع الحبيب ودياره ، وهو ما اعتاد الشاعر الوقوف عليه والسلام على ديار الحبيب / الحبيبة ، فالديار والاطلال هي منطلق لقصائد الشعر العربي ومن اشهر ماقيل على لسان مجنون ليلى : أمـر على الديار ديار ليلى / أقبل ذا الجدار وذا الجدارا ..
حـدد مظفر النواب مكان القطار بما يوحي بشوق دافق للحبيب ، كما حدد زمن حركة القطار عند مروره بديار الحبيب وهو وقت ساحر، فاضاف الليل الى القطار - واحنا بقطار الليل - مما كثف الايحاء الساحر لمكان وزمان القطار ...
هذا عن مطلع القصيدة فقل انت عن بقية الابيات .
واذا استذكرنا بعض ما قيل في القطار فسنتذكر الرصافي في قصيدته : وقاطرة ترمي الفضا بدخانها / وتملأ صدر الارض في سيرها رعبا . فسنجد الفرق الشاسع بين العاطفة النوابية والتقريرية الرصافية .
وان بحثنا في التراث الغنائي العراقي فسنعثر على اغنية شهيرة تقول : أنعل ابونو القطار / لا بو حركاتو / اوي اوي دلال ..فلا مجال للمقارنة بين رقة قطار النواب ولعنة قطار الاغنية التراثية .
كما أجاد في توظيف الشعر الشعبي في السياسة الحديثة ، وانتقل الى الشعر الفصيح في التعبير السياسي وكان سيفا مصلتا على رؤوس الحكام العرب وقرعهم بقصائد شاعت بين الشباب في المجتمعات العربية ، ونالت قصيدته القدس عروس عروبتكم قصب السبق لما فيها من تحد واحتقار للمسؤولين الذين باعوا القدس بثمن بخس .
اشتهرت قصائد النواب وغناها كبار المطربين وترددت على شفاه المتمردين على الظلم والذل والاضطهاد ليصبح النواب كأنه علمٌ في رأسه نار .