مدافع البيشمركة وأزمة الثقة!
كفاح محمود كريم
في سبعينيات القرن الماضي، وفي معارك البيشمركة مع جيش النظام السابق أسقطت قوات البيشمركة عدة طائرات عمودية ومقاتلة، مما أفقد النظام وإعلامه توازنهم، وأوقعهم في هيستريا ثقافة المؤامرة التي دفعتهم لاتهام ايران وإسرائيل وأمريكا بتزويد البيشمركة بمدافع متطوّرة مضادة للطائرات، وأفردت وسائل إعلامهم في حينها مساحاتٍ واسعةً من الدعاية السطحية الساذجة متناسية أن تلك القوات كانت تقاتل لأجل قضية وطنية مقدسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشرف الشخصي للمقاتل، وانتمائه للوطن والشعب، ولذلك كانت تقاتل بضراوة، وتحقق انتصارات باهرة بأسلحة جداً اعتيادية لا يصدّق النظام وأمثاله أنها تفعل فعلتها في تحقيق الهدف، لسبب بسيط أنه بأيدٍ تدافع من أجل أبنائها وبناتها وتحافظ على عوائلها، وليست أجيرة أو مجندة بالقوة، أو بالقوانين، بل كانت تطوُّعية، يحمل فيها المتطوِّع قلبَه على كفّيه وهو يقاتل من أجل زوجته وأمه وأبيه وأولاده، ويبدو أن هذا هو الفرق بينهم وبين الذين أخزاهم الله وأذلهم عبر التاريخ.
لقد تأملنا خيراً بانتهاء حقبة الاحتراب ومحاولة إلغاء الآخر أو إذلاله بعد 2003 لكن للأسف يبدو وخلال عقدين من الزمان، إن تلك الفيروسات البشرية ما تزال تعشش في عقول وقلوب تلك المجاميع المصابة بالهوس العنصري والطائفي، وما زالت تنشد (احنا مشينا للحرب) لتحرق في ماكينة حروبها الأخضر واليابس، متناسية ما انتهت إليه مثيلاتها في 2003 وما قبله، حيث تساقطت كل الأنظمة التي حاربت، وعادت كوردستان وأهلها، وانتصر الكورد، ورُفِع غطاء الكذب والادّعاء والدعايات الرخيصة عن منجزات هذا الشعب العظيم، الذي حقق في أقل من عقدين من زمن الحرية المحدودة ما عجزت عن تنفيذه كلُّ الأنظمة العراقية منذ تأسيس كيان العراق الملكي، وحتى نظام الميليشيات الحالي، حيث أصبحت كوردستان عروس العراق وملاذه الآمن المزدهر الذي يرى فيه العراقي وجوده وكرامته وحريته.
قوات البيشمركة تأسست بقرار من الشعب، وليس من شخص أو دولة أجنبية أو حكومة، قوات من الثوار حملوا قضية شعبهم وحريته وكرامته على أكتافهم منذ قرابة المائة عام، تصدّت خلالها لأعتى الأنظمة الاستبدادية وأكثرها مالاً وسلاحاً وعدداً، وانتصرت دائماً لأنها كانت تمتلك سلاحاً آخرَ افتقدته تلك الجيوش المعادية ألا وهو سلاح البسالة والإيمان بقضية هذا الشعب دون مقابل أو هدايا أو تكريم، البيشمركة قوات نظمت نفسها بأروع تنظيم وحرمت عليها وعلى مقاتليها أي نوع تصرف خارج منظومات قوانين الحرب والفروسية في التعامل مع العدو ومخرجاته من الجرحى والأسرى، ويشهد الذين وقعوا في أسر تلك القوات كيف كانت تتعامل معهم البيشمركة، وكيف كانت تلك القوات تُخلِي جَرحى العدو قبل جرحاها لتعالجهم حتى الشفاء وتخيّرهم بين البقاء معزّزين مكرمين مع البيشمركة في المناطق المحررة أو العودة سالمين الى ذويهم.
هذه القوات التي لم يسجل عليها عبر تاريخها أية عملية إرهاب أو اغتيال أو تفجير وسط مدنيين أو عمليات خطف أو تصفية حتى للأعداء خارج حالات المعارك، بل كانت تذعن لأي نداء لإيقاف الحرب، ومنح القوات المتحاربة هدنة الاستراحة، ووقف إراقة الدماء لسبب بسيط لا يفقهه العدو، وهو أن واجبها ليس الحرب بل الدفاع عن السلام والحرية والكرامة، ولعل الكثير يتذكر كم هدنة وافق عليها أو طلبها الزعيم ملا مصطفى البارزاني في أوقات كان القوات العراقية في أتعس ظروفها وأضعفها، وكان يعترض العديد من قادة البيشمركة على تلك الهدنة بسبب ضعف القوات المقابلة، لكن البارزاني كان يؤكّد بأننا لم نقاتل من أجل القتال بل من أجل السلام، التفاوض والحوار ألف عام افضل من القتال لساعة واحدة!
منذ 2005 والحكومة العراقية تتعامل مع هذه القوات بذات عقلية الأنظمة السابقة، ومنعت عنها رواتب أفرادها بل ومنعت عنها التسليح والتدريب وبقية الأمور رغم أن الدستور ينصُّ على اعتبارها جزءاً مهماً من المنظومة العسكرية الوطنية، ولا تنسى هذه القوات مواقف البعض من تأخير تسليم الأسلحة التي كانت تمنحها إياها الولايات المتحدة والتحالف الدولي في مخازن التاجي في أدق أيام الصراع مع داعش، كانت تحرمها من الذخيرة والأسلحة الممنوحة لها، ولعل صفقة الأسلحة الأخيرة وهي (مدافع هاوتزر عيار (105) ملم) التي اعترض عليها أفراد من بقايا مجموعة (علي كيماوي) خير مثال على هذه السلوكيات المنحرفة، صفقة كانت قد عُقدت قبل سبع سنوات، وتم حجزها وتأخير تسليمها لحد قبل شهرين من اليوم، ولولا الضغط الأمريكي وحكومة الإقليم لما تم تسليمها قبل شهرين، وحينما سلمت وبعد شهرين فاق (نايمين الضحى) من المتسلقين على أكتاف الميليشيات، واعترضوا عليها أملًا في ولوج مناصب بروتوكولية!
فعلاً كما قلناها في مقالنا السابق: احذروا أيها العراقيون الأصلاء من عجيان السياسة، فهم آفة الفساد والإفساد!