ماكرون في أربيل.. لماذا؟
شوان زنكَنة
ماكرون رتّبَ مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، ورَعاه، وكان الاسم البارز فيه، السبب:
* هناك تبادلُ مواقعٍ بين أمريكا وفرنسا في الشرق الأوسط، ليبيا، شرق البحر الأبيض المتوسط، سوريا ولبنان، العراق وإيران.. الانسحاب التدريجي لأمريكا من الشرق الأوسط، ستَملأُه القوّتان الإقليميّتان المُتصاعِدتان، تركيا وإيران، برعايةٍ فرنسية، تضبط الإيقاعَ، وتمنع التوتّرَ.
* يسعى ماكرون إلى خلق حالة من الوِئام بين النظام الإيراني والأنظمة العربية في المنطقة، وذلك من خلال تهيئة الأجواء لإنجاح محادثات فيينا من جهة، وصياغة سبُلٍ للسلام الإقليمي في المنطقة من جهة أخرى.. رياحُ ماكرون هذه تهبُّ بما تشتهيه سفنُ إيران، ولكن بحذرٍ، فالنظام الإيراني يرغب في إحياء الاتفاق النووي مع أمريكا، ويدعو باستمرار إلى سلام إقليمي، ولكن كل ذلك، يجب أنْ يكون على هواهُ، وبدون رعايةٍ غربيةٍ، أو أجنبيةٍ.. ومِعيارُ هذه المعادلة مرهونٌ بقُدرةِ ماكرون وإبراهيم رئيسي على صياغة تفاهم يحقّق مرامَ الطرفين من جهةٍ، ويؤدي إلى الاستقرار المنشود من قبلهما من جهةٍ أخرى.. ويأتي هذا السعيُ من ماكرون على النقيض من مشروع صفقة القرن الذي حشّدَ الدولَ العربية ضدّ إيران، وهو مشروع قد سقط برحيل ترامب ونتانياهو عن السلطة، أو لنقل: بزوال سلطة التيار القومي اليميني عن إدارة الدولة العميقة، واستلام تيار العولمة اليساري زمام السلطة فيها.
* الأكراد.. سببٌ في غاية الأهميةِ لتواجد ماكرون في العراق، بل لنَقُلْ في أربيل، لأن بغداد ليس إلا بابا للولوج، وليس مقصدا أساسيا لماكرون، فبغداد في نظر ماكرون هي بوابة دخول إيران إلى العالم العربي، أما أربيل، فهي المحور الذي دار حوله رحى كل الأنظمة الحاكمة في فرنسا طيلة الخمسين سنة الماضية.
* تَبنَّتِ الأنظمةُ الحاكمة في فرنسا القضيةَ الكرديةَ، ودعمتْها بالقدر الذي تسنّى لها، وآخرها نظام الرئيس ماكرون.. الذي زج بنفسه وبنظامه في مشروع استراتيجي، يقضي بأخذِ زمام المبادرة لقيادة الاتحاد الأوربي، وبسطِ النفوذ في الصراع الدولي، لديمومَةِ الوحدة الأوروبية، وتحقيق مصالحها القومية والعقائدية، ولا يخفى على أحدٍ ذلك الكم الهائل من المصالح الأوروبية عمومًا، والفرنسية خصوصًا، في الشرق الأوسط، الذي كان بعض اجزائه في زمن ما مُستعمَرًا من قبلها، وتُعَدُّ القضيةُ الكردية، ملفًا ساخنًا من ملفات ذلك المشروع الاستراتيجي.
هذه الأسباب تُضفي على العلاقة الفرنسية الكردية طابعًا مختلفًا عن سابقاتِها، كونها واقعة في قلب المشروع الاستراتيجي الفرنسي في الشرق الأوسط من جهة، وأنها تأتي مع تراجُعِ الدّور الأمريكي في المنطقة لصالح قوّتين اقليميّتين، تركيا وإيران، اللتين تُعانيان من أزمة الملف الكردي من جهة أخرى.
هناك نَمطان غربيّان من العلاقة مع الكرد:
النمطُ الأمريكي، الذي لا يزال قائما رغم التراجع الأمريكي في المنطقة، ويتلخّصُ هذا النمط، في أن الأمريكان يسعون إلى توحيد الجهات السياسية الكردية السورية تحت شمسية واحدة، وإعطائها شخصية مستقلة، وفصلها عن سلطة وإرادة حزب العمال الكردستاني التركي، وذلك برعاية ودعم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتهيئة الأجواء لصياغة اتفاق استراتيجي كردي-تركي، يُفضي إلى بسطٍ مشترَكٍ للنفوذ في المنطقة، ويأتي هذا النمط، لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، وضمان أمن إسرائيل، بحدود آمنة، وعاصمة اسمها القدس (أورشليم).
ويُعاني هذا النمطُ من عدة عوائق؛ يأتي تَشتُّتُ الاكراد، وصعوبةُ لَمِّ شملهم في مقدمتها، وقيادةُ التيار القومي التركي المحافظ للدولة العميقة في تركيا، واستحواذُه على مركز القرار في انقرة، تعتبر عائقا مهما آخر امام هذا النمط من العلاقة، كما أن إيران ستقف حجر عثرة أمامه ايضًا.
أما النمط الفرنسي، الذي بدأ بالفعل منذ تبنّي ماكرون سياسته الاستراتيجية في خوض غِمار الصراع العالمي على النفوذ، منذ تَولّيهِ السلطةَ عام 2017م، واستقباله السيد نيجيرفان البارزاني في نفس العام، بعد نكسة 16 أكتوبر، ويتلخّصُ هذا النمط في سعي ماكرون شخصيًّا إلى تخفيض التوترات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني، أملًا للوصول إلى اتفاق مستقر ودائم، ومن ثمَّ التنسيقُ بين التيارات الكردية، العراقية والسورية، والنظام الإيراني، وذلك للوصول إلى صياغة اتفاق استراتيجي كردي إيراني، يفضي إلى استقرارٍ وسلامٍ استراتيجي في المنطقة، وتُساهم في تناغُم الوجود الإيراني داخل المَحضَن العربي من خلال أربيل وبغداد.
ويعاني هذا النمط من عدة عوائق، فهو يتعارض كليا مع المشروع الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، وستقف تركيا ضده بكل ما لديها من قوة، حتى العسكرية منها، لأنها تعتبره مشروعا فرنسيا لضرب مصالح تركيا في الشرق الأوسط، خاصة وأن فرنسا بدأت منذ سنوات بمنافسة تركيا في ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، وفي الملف الكردي، بل بالغت فرنسا في استفزاز تركيا، من خلال دعمها للرسوم المسيئة للإسلام، واستخدامها المستمر لعبارة " الإرهاب الإسلامي" المشينة.
الطرفُ الكردي الرسمي المعني بهذين النمطين من العلاقة، هو إقليم كردستان العراق، الجهة السياسية الرسمية الدستورية، والذي يمثله رئيسه السيد نيجيرفان البارزاني، هذا من الناحية الرسمية والأعراف الدبلوماسية، أما من الناحية الشخصية المتعلقة برئيسه، السيد نيجيرفان البارزاني، فإنه يتمتع بعلاقة شخصية فريدة وممتازة بكل من السيد عمانويل ماكرون، والسيد جو بايدن، كما انه يحتفظ بعلاقة اخوية صميمية مع السيد رجب طيب إردوغان، إضافة إلى أن السيد إبراهيم رئيسي قد أمر بفرشِ البساط الأحمر له، ورفعِ علم كردستان حينما تم استقباله في مطار طهران قبل أسابيع، مما يجعل التعامل مع هذين النمطين من العلاقة من قبله يجري بسلاسة وكياسة أكبر.
ولكنه يقف اليوم، على المحكِّ، وفي مفرق طريق، أكثرَ حساسيةً من ذي قبل، حيالَ صيغة التعامل مع هذين النمطين من العلاقة، بصفته الرسمية كرئيس للإقليم، وبصفته الشخصية كصديق ودود لكافة الجهات المعنية.
المضي في الطريقين معا صعبٌ جدا، واختيار أحدهما انتحار جَليٌّ، لعدم الوثوق باستمرارية الأنظمة، أو عدم قدرتها على الدفاع في ظل ظروف معينة، أو حدوث تغيير في السياسات، أو لأن السياسة نفسها تستوجب الحذر.
امام السيد نيجيرفان البارزاني خياران:
أحدهما؛ ترك الحبل على الغارب، والانشغال بالأعمال اليومية الروتينية المعتادة، وعدم استقراء الأوضاع التي تجري في العالم، وعدم تبني نهج استراتيجي يحقق مصالح الإقليم ويحافظ على سلامته، وهذا يعني حتما، وقوع الإقليم تحت سلطة ونفوذ القوى الإقليمية، قهرا ورغما عنه، وغرق سفينة الإقليم في خضم الأمواج العاتية في أعماق بحار الصراعات الدولية والتنافس على بسط النفوذ.
وثانيهما؛ هو صياغة شكل من اشكال التفاهم والمراوسة في أحد شِقَّين؛
الشقّ الأول: صياغة اتفاقِ تفاهمٍ وصداقة استراتيجية مع إيران، والمراوسة مع تركيا، من خلال تفاهم أمني واقتصادي، يضمن سلامة الأراضي التركية، ويحقق مصالحها الاقتصادية.
عيوب هذا الشق، هي أن إيران صاحبة مشروع استراتيجي في المنطقة، وأنها تنظر إلى العراق، وكردستانه على أنه جزء منها، وواقعٌ تحت نفوذها، وأي اتفاق معها لا يعدو كونه عقد اذعان بين طرف قوي وآخر ضعيف، كما أنها ستستخدم الإقليم في خرق الحصار، وهذا يجعل الإقليم عرضة للعقوبات الامريكية، كما أن تركيا لا تثق بهذا النمط من التفاهمات الأمنية، ولديها تجارب فاشلة سابقة بهذا الخصوص، ناهيك عن أن إيران ستطلق يد حزب العمال الكردستاني في الإقليم، لأنه يعمل بإخلاص لا مثيل له في حفظ أمن إيران وفي محور المقاومة.
الشق الثاني: صياغة اتفاقِ تفاهمٍ وصداقة استراتيجية مع تركيا، والمراوسة مع إيران، من خلال صيانة حدود إيران المتاخمة لكردستان العراق، وتأمين احتياجاتها أثناء الحصار الأمريكي، بالقدر المستطاع.
عيوب هذا الشق، هي اعتراض إيران الشديد عليه، وتحريك حزب العمال الكردستاني ضده، وقيامه بالتنسيق مع التيار القومي اليميني التركي القابع في الدولة العميقة في تركيا ضده، كما أن هذا التيار سيقف حجر عثرة امام أي اتفاق كردي تركي، لأنه يعتقد أن ذلك سيؤول إلى الانفصال، كما أن فرنسا لن تكون راضية بهذا الاتفاق.
وتقع على عاتق رئيس الإقليم ومؤسساته الرسمية، وضع المعايير التي تضبط الخيارات والترجيحات المتعلقة بالشقّين أعلاه، وبيان سبل تجاوز العوائق والمحددات التي تضبط ايقاعات التعامل مع القوى الإقليمية والعالمية.