كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟
أ.د. محمد الربيعي
(الحلقة 6)
التجربة اليابانية
اليابان، المعروفة بتنظيمها الاجتماعي وثقافتها الغنية، تعد واحدة من اكبر الاقتصادات في العالم. بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت اليابان نهضة اقتصادية هائلة، حيث تحولت من بلد مدمر الى قوة اقتصادية عالمية. هذا التقدم الاقتصادي كان مدفوعا بالتصنيع السريع والابتكار التكنولوجي والاستثمار في البنية التحتية.
التعليم كان ولا يزال حجر الزاوية في هذا التقدم. النظام التعليمي الياباني يتميز بمعاييره الاكاديمية العالية، التركيز على الانضباط والاخلاق والاهتمام بالتعليم الشامل الذي يشمل الانشطة اللامنهجية. هذه العوامل مجتمعة ساهمت في اعداد قوة عاملة ماهرة ومؤهلة، قادرة على قيادة الابتكار والنمو الاقتصادي.
علاوة على ذلك، تستثمر اليابان بشكل كبير في البحث والتطوير، مما يعزز من قدراتها التكنولوجية والاقتصادية. التعليم في اليابان ليس فقط وسيلة لاكتساب المعرفة، بل هو ايضا اداة لتعزيز القيم الاجتماعية والاخلاقية، مما يساهم في بناء مجتمع متماسك ومنتج.
هذه العلاقة الوثيقة بين التعليم والتقدم الاقتصادي تجعل من اليابان نموذجا يحتذى به في كيفية استخدام التعليم كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، وعليه من الضروري علينا في الدول العربية تعلمه.
ادناه اهم وابرز السمات التي تجعل نظام التعليم الياباني فريدا ومتميزا على مستوى العالم.
الهيكل والمدة:
نظام التعليم الياباني منظم بدقة لضمان رحلة تعليمية شاملة ومتوازنة للطلاب. يبدا التعليم بالمدرسة الابتدائية التي تستمر لمدة ست سنوات، حيث يتعلم الاطفال المواد الاساسية مثل اللغة اليابانية والرياضيات والعلوم، بالاضافة الى التعليم الاخلاقي والانشطة التي تعزز المهارات الاجتماعية. بعد ذلك، ينتقل الطلاب الى المدرسة الاعدادية لمدة ثلاث سنوات، حيث يتعمقون في المواد الدراسية ويبداون في التحضير لامتحانات القبول في المدارس الثانوية. في المدرسة الثانوية، التي تستمر ايضا لمدة ثلاث سنوات، يتم اعداد الطلاب للتعليم العالي او سوق العمل من خلال مجموعة متنوعة من المواضيع والانشطة اللامنهجية. التعليم الالزامي في اليابان يستمر لمدة تسع سنوات، مما يضمن حصول جميع الاطفال على تعليم اساسي مجاني. الانشطة اللامنهجية مثل الاندية الرياضية والثقافية تلعب دورا كبيرا في حياة الطلاب، مما يعمق الروابط المجتمعية والشعور بالمسؤلية. النظام التعليمي الياباني يركز على التطوير الاكاديمي والشخصي، لغرض اعداد افراد متوازنين ومستعدين لمواجهة تحديات المستقبل.
المعايير الاكاديمية العالية:
يتميز الطلاب اليابانيون بأدائهم الاستثنائي في التقييمات الدولية، خاصة في العلوم والرياضيات. في تقييم PISA لعام 2022، حصل الطلاب اليابانيون البالغون من العمر 15 عاما على متوسط 536 نقطة في الرياضيات و547 نقطة في العلوم، وهو اعلى بكثير من متوسط مجموعة الدول الغربية. في الرياضيات، تم تصنيف 23% من الطلاب اليابانيين كاداء عالي، حيث حققوا المستوى 5 او 6، مما يظهر مهاراتهم التحليلية المتقدمة. في العلوم، ويعكس الاداء العالي فهمهم القوي للمفاهيم العلمية وقدرتهم على تطبيق هذه المعرفة في المواقف العملية. تساهم عدة عوامل في هذه المعايير الاكاديمية العالية، منها المنهج الدراسي الصارم والمعلمون المخلصون والتركيز الثقافي على التعليم والدعم اللامنهجي. المنهج الياباني شامل وصعب، مما يضمن ان يطور الطلاب فهما عميقا للمواد الاساسية. المعلمون اليابانيون يحظون باحترام كبير ويخضعون لتدريب صارم، وهم ملتزمون بنجاح طلابهم.
التعليم ذو قيمة عالية في المجتمع الياباني، وهناك تركيز ثقافي قوي على العمل الجاد والانضباط والمثابرة. يحضر العديد من الطلاب مدارس الجوكو (مدارس التقوية) بعد ساعات الدراسة العادية لتعزيز فهمهم للمواد والاستعداد للامتحانات. المعايير الاكاديمية العالية في اليابان لا تعد الطلاب فقط للنجاح في التعليم العالي، بل تزودهم ايضا بالمهارات اللازمة للنجاح في اقتصاد عالمي تنافسي. كما ان الاداء القوي للطلاب اليابانيين في العلوم والرياضيات يعزز الابتكار والتقدم التكنولوجي، مما يساهم في النمو الاقتصادي والتنافسية العالمية للبلاد.
الانضباط والاخلاق:
في اليابان، يولي نظام التعليم اهمية كبيرة للانضباط والاحترام والتعليم الاخلاقي. الطلاب يشاركون في تنظيف القاعات الدراسية والممرات وساحات المدرسة يوميا، مما يعزز الشعور بالمسؤولية والفخر ببيئتهم. ويعتبر التعليم الاخلاقي جزء رسمي من المنهج الدراسي، حيث يتعلم الطلاب القيم مثل الصدق والاحترام والتعاطف من خلال القصص والمناقشات والانشطة التمثيلية. المعلمون يقودون بالقدوة ويعززون ثقافة المدرسة التي تشجع على النظام والانضباط. الانشطة اللامنهجية، مثل الاندية الرياضية والثقافية، تساعد الطلاب على تطوير مهارات تنظيمية وشعور بالمسؤولية من خلال توليهم ادوارا قيادية. المدارس اليابانية تتفاعل مع المجتمع المحلي، حيث يشارك الطلاب في مشاريع خدمة المجتمع، مما يعزز قيم الانضباط والمسؤولية. هذا التركيز على الانضباط والاخلاق يعد الطلاب ليكونوا افرادا محترمين ومسؤولين واخلاقيين يمكنهم المساهمة بشكل ايجابي في المجتمع.
امتحانات القبول:
تعد امتحانات القبول في اليابان جزءا محوريا من نظام التعليم، حيث تلعب دورا حاسما في تحديد المسارات التعليمية والمهنية للطلاب. امتحانات القبول للمدارس الثانوية تشمل مواد مثل اللغة اليابانية والرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية والانكليزية، وتكون المنافسة شديدة خاصة للمدارس المرموقة. اما امتحانات القبول الجامعية فهي اكثر تنافسية، وابرزها اختبار المركز الوطني للقبول الجامعي المعروف بـ "الاختبار المركزي". يتطلب القبول في الجامعات المرموقة مثل جامعة طوكيو التفوق في الاختبار المركزي بالاضافة الى امتحانات القبول الخاصة بالجامعة. يستعد الطلاب لهذه الامتحانات من خلال حضور مدارس التقوية (الجوكو)، والمشاركة في الامتحانات التجريبية، وتشكيل مجموعات دراسية. النجاح في هذه الامتحانات يفتح ابوابا للمدارس والجامعات المرموقة، مما يؤدي الى فرص مهنية افضل. ومع ذلك، فان الضغط الشديد لتحقيق اداء جيد يمكن ان يكون مرهقا، مما يبرز الحاجة الى نهج متوازن في التعليم يدعم رفاهية الطلاب.
التوحيد والمساواة:
في اليابان، تم توحيد المنهج الدراسي على مستوى البلاد لضمان ان جميع الطلاب يتلقون تعليما مشابها بغض النظر عن موقعهم. وزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتكنولوجيا مسؤولة عن وضع وتحديث المنهج الدراسي الوطني بشكل دوري لمواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية واحتياجات المجتمع. على سبيل المثال، في عام 2020، تم ادخال تعديلات لتعزيز تعليم البرمجة واللغات الاجنبية في المدارس الابتدائية. يتم تدريس نفس المفاهيم في الرياضيات والعلوم في جميع المدارس اليابانية، مما يضمن تعلم الطلاب الاساسيات بشكل متساو ويسهل انتقالهم بين المدارس دون فقدان اي جزء من المنهج. توحيد المنهج يضمن حصول جميع الطلاب على نفس الفرص التعليمية، مما يقلل الفجوات بين المناطق الحضرية والريفية ويسهل على المعلمين اعداد الدروس وتبادل الموارد التعليمية. هذا التوحيد يساهم في تحقيق نتائج تعليمية متميزة على المستوى الوطني والدولي، حيث يحقق الطلاب اليابانيون اداء عاليا في التقييمات الدولية مثل PISA وTIMSS، مما يعكس جودة التعليم الذي يتلقونه ويعزز الشعور بالانتماء الوطني والوحدة بين الطلاب.
الانشطة اللامنهجية:
الاندية والانشطة اللامنهجية جزء لا يتجزا من الحياة المدرسية في اليابان، حيث تساعد الطلاب على تطوير مهارات واهتمامات متنوعة خارج المنهج الاكاديمي. تشمل الاندية الرياضية مجموعة متنوعة من الرياضات مثل كرة السلة وكرة القدم والبيسبول والتنس والسباحة والعاب القوى، وتحظى بشعبية كبيرة في المدارس اليابانية. الاندية الثقافية تشمل انشطة مثل الفرق الموسيقية والفنون والحرف اليدوية والمسرح والموسيقى الشعبية، بالاضافة الى اندية تركز على الثقافة اليابانية التقليدية مثل ترتيب الزهور وحفل الشاي والخط الياباني. على سبيل المثال، نادي الكندو يعلم الطلاب تقنيات القتال بالسيف ويعزز الانضباط والتركيز والشجاعة، بينما يوفر نادي المسرح فرصة لتطوير مهارات التمثيل والاخراج والانتاج. في نادي الكمبيوتر، يتعلم الطلاب البرمجة وتطوير الالعاب وتصميم المواقع الالكترونية، مما يساعدهم على اكتساب مهارات تقنية حديثة. تساهم هذه الاندية والانشطة في تطوير شخصية الطلاب بشكل شامل، وتعزز المهارات الاجتماعية والعمل الجماعي، وتساعد في اكتشاف المواهب والاهتمامات الشخصية، وتوفر بيئة داعمة لبناء صداقات قوية وتطوير شعور بالانتماء للمجتمع المدرسي.
معدلات التسرب المنخفضة:
معدل التسرب في اليابان منخفض جدا، حيث تصل نسبة الالتحاق بالتعليم الالزامي والمدارس الثانوية الى ما يقرب من 100%. هذا يعكس التزام اليابان بتوفير تعليم شامل وعالي الجودة لجميع الطلاب. نسبة التسرب في المدارس الثانوية تبلغ حوالي 1.27% فقط، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالعديد من الدول الاخرى. تساهم عدة عوامل في هذا النجاح، منها الدعم القوي من الحكومة والمجتمع، والاهتمام الكبير بالتعليم من قبل الاسر اليابانية. توفر المدارس اليابانية بيئة تعليمية داعمة تشمل برامج ارشاد ومساعدة للطلاب الذين يواجهون صعوبات اكاديمية او اجتماعية. يتمتع المعلمون في اليابان بمستوى عال من التدريب والتاهيل، مما يساهم في تقديم تعليم عالي الجودة. تشجع الانشطة اللامنهجية مثل الاندية الرياضية والثقافية الطلاب على تطوير مهاراتهم واهتماماتهم خارج المنهج الاكاديمي، مما يعزز شعورهم بالانتماء للمجتمع المدرسي.
التعليم الخاص:
تلعب المدارس الخاصة دورا كبيرا في النظام التعليمي الياباني، خاصة في مراحل التعليم قبل وبعد الالزامي. في مرحلة التعليم قبل الالزامي، تشمل المدارس الخاصة رياض الاطفال والمدارس التمهيدية التي تقدم برامج تعليمية متقدمة تركز على تطوير المهارات الاجتماعية والاكاديمية للاطفال. في مرحلة التعليم الثانوي، توفر المدارس الخاصة برامج تعليمية متخصصة تهدف الى اعداد الطلاب للامتحانات الجامعية، مثل مدارس “كايو” و"واسيدا" التي تشتهر ببرامجها الاكاديمية القوية. الجامعات الخاصة مثل “جامعة كايو” و"جامعة واسيدا" و"جامعة صوفيا" تلعب دورا مهما في التعليم العالي، حيث تقدم برامج تعليمية متنوعة تشمل العلوم الانسانية والعلوم الطبيعية والهندسة والاعمال. تساهم المدارس الخاصة في تقديم تعليم عالي الجودة بفضل التمويل الخاص الذي يمكنها من توفير بيئة تعليمية متقدمة تشمل مرافق حديثة وبرامج تعليمية متخصصة.
الخلاصة
نظام التعليم الياباني هو نموذج يحتذى به عالميا بفضل خصائصه الفريدة. يبدا الطلاب رحلتهم التعليمية في نظام منظم يتكون من ست سنوات من التعليم الابتدائي، وثلاث سنوات من التعليم الاعدادي، وثلاث سنوات من التعليم الثانوي، مع تسع سنوات من التعليم الالزامي. يتميز الطلاب اليابانيون باداء مذهل في التقييمات الدولية، خاصة في العلوم والرياضيات، مما يعكس المعايير الاكاديمية العالية التي يلتزمون بها.
الانضباط والاحترام جزء لا يتجزا من الحياة المدرسية، حيث يشارك الطلاب في تنظيف قاعات التدريس وساحات المدرسة، مما يعزز الشعور بالمسؤولية والانتماء. امتحانات القبول للمدارس الثانوية والجامعات تنافسية للغاية وتحدد بشكل كبير مستقبل الطلاب التعليمي والمهني. المنهج الدراسي موحد على مستوى البلاد، وبما يضمن حصول جميع الطلاب على تعليم مماثل بغض النظر عن موقعهم.
الانشطة اللامنهجية تلعب دورا حيويا في تطوير مهارات واهتمامات الطلاب خارج المنهج الاكاديمي، مما يجعل الحياة المدرسية تجربة شاملة وممتعة. معدل التسرب منخفض جدا، حيث تصل نسبة الالتحاق بالتعليم الالزامي والمدارس الثانوية الى ما يقرب من 100%. المدارس الخاصة تلعب دورا كبيرا، خاصة في مراحل التعليم قبل وبعد الالزامي، وتوفر برامج تعليمية متقدمة بتمويل خاص.
وعلى الرغم من شهرة النظام التعليمي الياباني بصرامته، إلا انه يشجع على الابتكار والابداع، وهو ما نحتاج إليه في عالمنا العربي المعاصر لتطوير حلول مبتكرة للتحديات التي تواجهنا.