قصة: على هامش الحياة

قصة: على هامش الحياة

امير الداغستاني

2025-05-15T09:17:02+00:00

قد يتعلق أحدنا بأماكن معينة، على الرغم من افتقارها لمقومات الجاذبية؛ من نظافة أو ترتيب وأبهة، بل على العكس من ذلك فأن في فوضويتها وعشوائيتها ما يميزها، ويمنحها فرادتها، تشعر من خلالها بالألفة والحميمية، هكذا كان مقهى الياقوت، الذي يقع في البتاوين في شارع يكتظ بسيارات الحمل الصغيرة "البيكب" التي كانت تنقل مستلزمات الطباعة إلىٰ المعامل، حيث المقهى وصاحبه ذي الشخصية الغريبة حسين الجايجي، إذ كان الجلوس فيه متعة لا تضاهيها متعة الجلوس في مقاهي الشانزليزيه ولندن ، هكذا كان رأي صديقي القادم من أوربا حيث يقيم هناك .

كان قديماً ومتهالكاً يقف لائذا بفندق شعبي يسكنه القادمون إلى العاصمة سعيا وراء الرزق.

كان صديقي عمار صاحب الستايل الانيق ، فور كل زيارة الى بغداد، بمجرد أن يضع حقائبه في فندق اقامته ، يهرع مباشرة إلى حسين الچايچي حالماً بلقائه وكأنه أحد أقربائه المحبين الذين يشتاق إليهم . لم يكن حسين يتعمد حركاته الكوميدية تلك ، فعفويته ورده العدائي محبب للجميع.!

لم يجرؤ أحد على مجادلته، إذ كان مصير من تسول له نفسه ذلك، ردا ساحقاً ماحقاً.

أظنه لا يطيق أحدا حتى نفسه، بجفاء يرد على زبائنه، وكأنه يقول (تسكت لا اخلي ضيم الله كله بيك)، تصرفاته تلك تمنحه الخصوصية وتجعله لا يغادر البال .

أنا وصديقي عمار من زبائنه الدائمين، نستمتع بهذه الشخصية ، نراقب حركاته وتصرفاته الغريبة طوال مدة جلوسنا على كراسيه المتهالكة ومصاطبه التي اعتقد بانها تعود لزمن موغل في القدم ، نتغامز ونتلامز ونهمس لبعضنا ونكاد ننفجر ضاحكين بقهقهات مكتومة لاسيما بعد كل حركة او تصرف منه .

اعتقد ان حسين كان يقدم لنا شايـاً هو الأسوأ على الأطلاق ، اما اركيلته فلا استطيع وصف طعمها ومعسله الخالي من اي نكهة وربما هي بنكهة الفحم الذي كان لا يحرقه جيدا خوفاً من صرف الوقود .

احياناً كنا نتعمد اغاضته بالقول : حسين "چايك بارد وبايت" يأتي مسرعاً والغضب قد ارتسم على وجهه وكاننا قتلنا احدا من اهله ، بطريقة مرعبة يتذوق الشاي .. ليرد بعصبية "الجاي حار ومن راس القوري ، مابي شي" ويعيد الشاي على الطاولة الراقصة ويخزرنا بعينيه ويشير بيده "اشرب لتحجي زايد" ،بسرعة ندير رؤوسنا نحو القوري الذي يعاني من تراكم السخام لدرجة غابت فيه جميع ملامحه، نبحث عن رأسه الذي توارى خلف كتلة سوداء، معتذرا عما يقترفه صاحبه حسين الجايجي من جرائم ضد زبائنه ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.

اما انا وصديقي فنكاد ننفجر ضحكاً بعد ان تمكنا من اثارتهِ .. يومياً نكرر لقاءنا بهذا المقهى المقرف الذي باعتقادي لا يرتاده سوانا لنصطبح بوجه صاحبه العبوس .

في إحدى الزيارات السنوية لصديقي عمار الى بغداد وحينما كنا نخطط عبر اتصالات مسبقة للقاء حسين المتذمر ، وفور وصوله طلب مني ان نتوجه الى مقهى الياقوت لاشتياقه العارم لوجه حسين... ، ونحن في الطريق كنا نخطط ما سنفعله من حركات لاستفزازه .

تسمرت أقدامنا وملامحنا تقطر حزنا وحسرة عند وصولنا المكان ، إذ تفاجأنا بفندق حديث يقف شامخا مكان المقهى الأثير ، لتموت كل ذكرياتنا مع حسين ونحرم إلى الأبد من اركيلته المقرفة ، وشايه البارد الذي لا يشبه الشاي بشيء سوى الاستكان.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon