عالم اليوم كما اَستقرِؤُه.. الحاضر والمستقبل

عالم اليوم كما اَستقرِؤُه.. الحاضر والمستقبل

شوان زنكَنة

2022-04-14T14:02:02+00:00

أزمةٌ جديدةٌ غَطَّت العالمَ جنبًا إلى جنب مع أزماته السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية العويصة المتراكِمة، أزمةُ تفاقم الصراع بين تيار العولمة الليبرالي وتيار القومية الوطنية (المعتدلة والمتطرفة)، ولِنقلْ: أزمةٌ أمنيةٌ واقتصاديةٌ ونقديةٌ بين الشرق والغرب.

هذا الصراعُ أزَّمَ المشهدَ السياسي العالمي، وعقّدَ العلاقات الدولية.. بل وتسبب بأزمة نظام الحكم في بعض الدول. فكثير من الدول تعاني من نشاط حركة العولمة فيها في موازاة نمو الشعور القومي والوطني ورعاية المصالح المحلية، إضافة إلى معاناتها من جوائح صحية واقتصادية مزمنة.

فتسيير المظاهرات في العديد من دول العالم، وتحريك السود في امريكا، والسعي الحثيث للرئيس القومي الأمريكي ترامب في تغليب المصلحة المحلية الوطنية، ونمو الحركات القومية المتطرفة في أوروبا، وهيمنة شركات متعددة الجنسيات على التكنولوجيا والاقتصاد العالمي، وحركات الربيع الشعبية العالمية الساعية إلى الخلاص من الأنظمة الاستبدادية، والسعي لإعادة توظيفها من جديد.. كل ذلك، إنما هو بعضٌ من مظاهر وتجلّيات ذلك الصراع، ومخلّفات الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتراكمة.

وقد ألقَت هذه الأزمات بظلالها على الوضع في العالم، فتأخّر الاستقرار وتعقّد المشهد بتداخل المصالح القومية والوطنية من جهة، وبتصارعها مع جهود الإذابة في العولمة من جهة أخرى.

وما يهمّنا في هذا المقال هو بيان ماهية القوى المتصارعة في العالم والآثار الناجمة عن الصراع والأزمات على حاضره ومستقبله.

أما القوى المتصارعة فهي أمريكا وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل ودول الخليج، ومن ثمَّ الصين، ولم أذكرُ الاتحادَ الأوربي، ومِنْ ورائه الرهبنة اليسوعية المتمثلة ببابا الفاتيكان، لأن دوره قد انكمش بسبب نزعات الانفصال والمشاكل الاقتصادية التي عانى منها.. سوى أن فرنسا، ورئيسها ماكرون، تسعى إلى حجز مكان لها في هذا الصراع العالمي كلاعب مخضرم يتحيّن فرصة إحياء إمبراطورتها ومشاريعها الوطنية.. هذه الدول المتصارعة تعاني من أزمة نظام حكم داخلي، ومن أزمة علاقات متناقضة، ومصالح متقاطعة فيما بينها.

وتَصبُّ هذه القوى المتصارعة زبدة نزاعاتها في بؤر صراعٍ محدّدةٍ في العالم، والتي يمكن أن تكون مواطئ لاندلاع مواجهات ساخنة، أو أنشطة عسكرية، وهذه البؤر الساخنة هي: الشرق الأوسط، وبحر الصين، وبحر البلطيق.

وسنلقي الضوء، بشيء من التفصيل، على أوضاع الدول المتصارعة، من خلال تحليل أنظمة حكمها، وبيان طبيعة علاقاتها فيما بينها كالآتي:

1- أمريكا

فأمريكا تتصارع في الشرق الأوسط لأهدافٍ، يأتي على رأسها ضمان أمن إسرائيل، بغطاء ديني ضمن مخطط رسمه تيار العولمة بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ظهر على شكل مشروع "ملتقى الحضارات"، وقد قادت ثلاث قوى عالمية هذا التيار، وهي: البروتستانتية الانجيلية المتحكمة في أمريكا، والمسيحية الكاثوليكية (اليسوعية) الحاكمة في الفاتيكان، والصهيونية (اليمينية واليسارية) الحاكمة في إسرائيل.

هذا الثلاثي يعتقد ان مدينة القدس ستشهد ظهور المسيح المنقذ الذي يضع العالم تحت إمرة اليهود.

ولتحقيق هذا الهدف لابد من:

1- تحِييدِ دور روسيا في المنطقة.

2- تحجيمِ دور أيران وتقليمِ أظافرها وانكماشِها على ذاتها.

3- تأسيسِ أتفاقٍ تركيٍّ - كرديٍّ، وإناطتِه بسطَ النفوذِ والسيطرةِ في المنطقة، باعتباره صمام الأمان الذي يضمَن أمنَ إسرائيل.

سعت الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب.. الأداة السياسية للبروتستانتية الإنجيلية.. إلى إخراج روسيا من ليبيا وسوريا، ولكنها لم تفلح.. ولهذا أمضت صكًّا على بياضٍ مع تركيا، التي حصلت بموجبه على الدعم اللازم، وحرية الحركة لتثبيت دعائم نفوذها فيهما.

وليس أمام الإدارة الأمريكية في سوريا إلّا الإسراع في عملية الانتقال السياسي وإزاحة الأسد، وبالتالي إسقاط مبرر الوجود الروسي في سوريا، أو السماح بإنشاء قواعد روسية في اللاذقية، وهذا ما لا تسمح به الناتو، أو بتجريد روسيا من حليفتيها، إيران وتركيا، من خلال تحجيم الأولى وربط الثانية باتفاقية إستراتيجية مع الأكراد.

كما سعت الإدارة الأمريكية إلى تحجيم دور إيران في المنطقة، وقطعت شوطاً كبيرًا بهذا الاتجاه وظهرت بوادر وخيوط اتفاقية شفوية غير معلنة بين الطرفين، تكون إيران بموجبها محافظة على أنشطتها النووية السلمية بالحدود المسموحة، مع تواجد سياسي وعسكري محدود في المنطقة.

أما خلفية مساعي أمريكا في تحقيق السلام بين الاتراك والاكراد فتعود إلى عام 1999م، حينما رتّبت عملية تسليم عبد الله اوجلان إلى الحكومة التركية، إذ كان الهدف منها هو تجريد المسألة الكردية من طابعها العسكري، وإضفاء الطابع السياسي عليها.. ولم تبدأ مفاوضات السلام إلّا بعد عشر سنوات، وتحديدا في سنة 2009م، وفي ظل حكومة أردوغان، حيث قطعت المفاوضات شوطًا كبيرًا وكادت أن تنجح لولا إعلان فشلها المُؤسِف وانقطاعها سنة 2015م.

وقد تصدّت أمريكا، بإدارتيها السابقة والحالية، لمشروع "الحزام والطريق" الصيني، ولأنشطة الصين الاقتصادية التكنولوجية، وحاربت شركاتها، واتخذت تدابير عديدة لتحجيمها، فدخلت بذلك معها في صراع اقتصادي وأمني، يتصاعد بشكل مطّرد، وصل حدّ تحريك القطعات العسكرية، وبناء التحالفات الاقتصادية والعسكرية والتقنية.

وتُعتبَرُ روسيا بقيادة بوتين، المشكلة العويصة في مواجهة أمريكا، فهي تتبنى استراتيجية أوراسية قومية، تنافس بشدة تطلعات تيار العولمة، وبالأخص خططه الرامية لتمدد الغرب في شرق أوروبا، ويعيش العالم اليوم صدى هذه المواجهة في غزو روسيا لأوكرانيا.

وقد مرَّ النظام السياسي الأمريكي بأزمة حادة بسبب تفاقم الصراع بين تيار العولمة اليساري المتمثل بالحزب الديمقراطي والتيار القومي اليميني المحافظ المتمثل بالحزب الجمهوري، وبلغت ذروتها أثناء الانتخابات الأخيرة، ولا زالت تداعياتها مستمرة.

يبقى أن نؤكّد هنا.. أن التفاهم والتنسيق بين هذه القوى الثلاثة الفاعلة (البروتستانتية الإنجيلية، واليسوعية الكاثوليكية، والصهيونية المحافظة) بدأَ يضعف وينتابه التناقض والتردّد، وذلك بسبب الخلافات السياسية في إسرائيل، وأزمة الحكم فيها، وكذلك تراجع دور الإتحاد الأوربي في التأثير على الأزمات العالمية بسبب صراعاتها الداخلية وتزايد النعرة القومية فيها والركود الاقتصادي.. وهذا بطبيعة الحال أثّر سلباً على دور الفاتيكان في الأحداث العالمية، باعتبار أن أداتها السياسية، وهي الإتحاد الأوربي، قد ضعفت ولم تعُد قادرة على مواكبة الأزمات، ولو أضفنا إلى كلّ ذلك، الصراعات والخلافات داخل النظام السياسي الأمريكي بين التيارين المتصارعين، فإننا سوف نتمكن من فهم ملابسات التأخير في استكمال مخططات النظام العالمي الجديد، بل وإمكانية تعرضها للتغيير أيضًا.

2- روسيا

أما روسيا.. فقد نَمتْ فيها المشاعرُ الوطنيةُ والقوميةُ (القيصرية) المَكسُوَّةُ بالأرثودوكسية، في الولاية الثانية لبوتين سنة 2012م. فقد أسس بوتين العقيدة الروسية الاستراتيجية القائمة على الوطنية والقومية (الروسية) والمعتقد الديني الأرثودوكسي، في موازاة العقيدة الاستراتيجية الأمريكية القائمة على الوطنية والقومية والمعتقد الديني البروتستانتي الإنجيلي، وتيار العولمة الأمريكي اليساري، حتى أضحت هذه العقيدة مدرسةً سمّاها البعضُ (المدرسة البوتينية)، ولقّبوا بوتين بالقيصر.

بدأت هذه المدرسة نشاطها بترسيخ الوجود الروسي في جمهوريات الاتحاد السوفيتي القديمة، ثم في حرب اوكرانيا سنة 2014م، ومن بعدها بالتدخّل الروسي في سوريا سنة 2015م، ومن ثمَّ بالتّدخّل في ليبيا عام 2016م، وبتتويج هذا التدخّل مُؤخّراً بإرسال مرتزقة فاغنر مع الطائرات والمعدات العسكرية إليها، واستكملت إثبات وجودها في حلبة الصراع بغزوها أوكرانيا في شباط من هذا العام.

لقد حطَّت النزعة البوتينية بظلالها على الشرق الأوسط، فثبّتتْ أركان حكم الأسد، ومن أجل هذا التثبيت سَعتْ إلى ضمان الدعم الكردي له من خلال محاولة إبرام اتفاقية سلام بينهما والتي لم تفلح لحدّ الآن.. وناورَتِ المدرستان البوتينية والأردوغانية بحذاقة في إطلاق يديهما في سوريا، إطلاق يد تركيا في حدود "الميثاق المللي" من الأراضي السورية (إدلب، عفرين، كوباني، شرق الفرات)، وإطلاق يد روسيا في اللاذقية وما حولها.

وتُخطّط روسيا لجعل بانياس ميناءً لتجميع النفط الروسي والايراني ونفط كركوك ونفط سوريا، وتحميلها إلى أوروبا من دون المرور من تركيا، وقد تم وضع هذا المخطط في موازاة المخطط التركي في جعل تركيا نقطة توزيع للطاقة في العالم، وفي موازاة المخطط الاسرائيلي في جعل حيفا مركزًا لتجميع نفط كركوك، ونفط مصر، ونفط البحر الأبيض المتوسط، والنفط الإسرائيلي، لتزويد اوروبا عن طريق قبرص واليونان.

تسعى روسيا إلى ضمان أمن إسرائيل من منطلق المصلحة المشتركة، فهي الغطاء الذي يسترها أثناء ضربها وتَحيِيدِها للوجود الإيراني في سوريا، في الوقت الذي تتغاضى فيه إسرائيل عن جهود روسيا في إسناد الأسد.

وهذا، على الرغم من أن سياسة الدولتين قائمة على التَّدَيُّن القومي.. فالأرثدوكسية دين القومية الروسية السياسية، واليهودية الموسوية دين القومية اليهودية السياسية، وهما متناقضتان ومتنافستان وتسعيان لبسط النفوذ في المنطقة نفسها.

ويُعَدُّ الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط الماضي، ذروة الصراع الأمني والاقتصادي بين روسيا والغرب، مُمثَّلًا بالاتحاد الأوروبي وأمريكا، فأخذت بذلك الحرب الهجينة بينهما طابعًا عسكريا ساخنا، وإن كانت هذه الحرب تُقاد من قبل الغرب بالنيابة، من خلال أوكرانيا، ويبدو أن مآلات هذا الغزو سيظهر على شكل نظام سياسي ونقدي عالمي جديد.

3- تركيا

وأما تركيا.. فقد تَبنَّى النظامُ القومي التركي المحافظ (العثماني) فيها مهمة بسط النفوذ في الشرق الأوسط، بَرِّهِ وبحرِهِ، وذلك من المنطلقات الآتية:

أ- من منطلق أمني: فالنظام القومي المحافظ يعاني من المسألة الكردية وما صاحبها من مشكلة الارهاب وإن لم يكن لها دخل فيها. وهو كذلك يعاني صراعًا على البقاء مع قوى العولمة وأدواتها الداخلية، وتُعدُّ جماعة غولن من أهمّ ادواتها الداخلية الفاعلة.

ب- من منطلق وثيقة (ميثاق مللي): وهي وثيقة من ستة بنود أقرها مجلس مبعوثان العثماني في 28 يناير 1920م. وفيها رسمٌ لحدود الدولة التركية ما بعد الحرب العالمية الاولى، يدخل فيها كلٌّ من شمال سوريا وكردستان العراق ومياه شرق البحر الابيض المتوسط.

ج- من منطلق اقتصادي: تسعى تركيا إلى الدخول في قائمة الدول العشر الأوائل، وستكون للموارد الطبيعية في مناطق (ميثاق مللي)، ومواردها البشرية أثر كبير في تسريع العملية التنموية في تركيا.

لا ينطلق النظام السياسي التركي في بسط نفوذه في الشرق الأوسط من منطلق المصالح التركية فحسب، وإنما هو يعمل ضمن أطر وأهداف المخطط الذي يسّرَ له سبيل الحكم وأعانه في إنجاز مهماته بكفاءة، وساهم في حفظ استدامته.

توافقت تطلعات قيادة النظام السياسي التركي الحالي في التسعينات مع التوجهات العالمية الداعية لإسناد التيار الإسلامي السنّي المعتدل، وتزامنت مع وضع الخطوط العريضة للنظام العالمي الجديد وتوصيف الدور التركي فيه كقوة إقليمية فاعلة في الشرق الأوسط، ويتلخص هذا الدور في:

1- أنهاء المسألة الكردية في إطار اتفاقٍ للسلام يحقق المطالب الكردية ويُنهي الصراع العسكري.

2- ضمان أمن إسرائيل من خلال اتفاقيه السلام بوساطة وضمانة تركية.

3- تعزيز العلاقات مع إيران، في موازاة تحقيق التوازن معها ضمن إطار الدور الذي ستلعبه إيران في المنطقة.

4- استكمال إجراءات الانضمام للاتحاد الأوربي، في موازاة تعزيز العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، ولعب دور الوسيط في حلِّ القضية الفلسطينية.

5- تهيئة الارضية للتصالح القومي مع الروم والأرمن والعرب، وبناء علاقات حسن جوار وتصفير الخلافات، والمساهمة في تخفيف التوترات، وإحلال السلام والاستقرار.

وفي ظلّ مسيرة الحكم في تركيا، طرأت مستجدّات جعلت تنفيذ مخطط التغيير في الشرق الأوسط، والدور التركي فيه على المِحكّ، فالمسألةُ الكردية التي بدأت عملية حلّها في 2009م، قد توقفت بانقطاع مفاوضات السلام في 2015م، نتيجة عوامل داخلية وخارجية، كانت النزعة القومية لدى الجانبين من أبرزها، إضافةً إلى انعدام بناء الثقة، ومعاداة جماعة فتح الله غولن لعملية السلام، والضغط الخارجي لإعاقة السلام من قِبَل إيران ومن قِبَل التيار المناوئ لأردوغان في الإدارة والكونجرس الأمريكي.

تَزايدُ النفوذِ التركي في ليبيا وسوريا لا بدَّ من أن تُصاحبَه مفاوضات علنية بين النظام التركي والأكراد، إذا ما أُرِيدَ لهذا النفوذ من أن يصمد ولا ينكمش.. والطرفان الكرديان المُؤهّلان لهذه المفاوضات هما السيدان مسعود البارزاني وعبد الله أوجلان.. وعلى الرغم من العداء المزمن والصراع المستميت على تمثيل الكرد بينهما، إلّا أن البارزاني يُمكِنه أن يلعب دور المبادر والوسيط بين النظام التركي والأكراد في التهيئة لمفاوضات مثمرة تؤول إلى سلام دائم في المنطقة. وستكون محاولات التفاهم بين المجلس الكردي السوري وحزب الإتحاد الديمقراطي السوري الأرضية المناسبة لتأسيس حوار كردي - كردي ينتهي إلى تحديد الطرف الكردي المُخاطَب في مفاوضات السلام التركية-الكردية. وقد تلجأ أمريكا إلى فصل القضية الكردية في تركيا عن مثيلتها في العراق وسوريا، فتسعى إلى فكِّ الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي السوري وحزب العمال الكردستاني، وتجمع الفصائل الكردية السورية وبدعم من السيد مسعود البرزاني في صيغة اتفاق تؤول إلى تشكيل أرضية لتفاهم كردي-كردي في العراق وسوريا، بعيداً عن ملف أكراد تركيا؛ كي تضمن أمريكا دخول الأتراك في حوار السلام في المنطقة، وستدعم أمريكا الحكومةَ التركية في إنهاء الوجود العسكري الكردي المسلح في تركيا. وأعتقد أن التيار القومي التركي سوف يدعم هذا الحوار والسلام المُصاحِب له، إذا ما اطمئنَّ إلى عدم سعي الأكراد للانفصال، وحصل على ضمانات بهذا الخصوص، إضافة إلى نزع السلاح وترك الصراع المسلح والعودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية، وأعتقد أن هذا ممكن الوقوع ضمن التغييرات السياسية التي ستحصل في المنطقة.

أمّا العلاقات التركية الإسرائيلية، فقد بدأت بالتحسّن بعد زيارة أردوغان لإسرائيل سنة 2005م، ولولا الحروب الثلاث التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، وتخلّيها عن عملية السلام القائمة على حلّ الدولتين، وتحوّلها الى دولة يهودية قومية عاصمتها القدس؛ لكانت العلاقات تمتدّ وتتنوع وتأخذ طابعًا إستراتيجيًا تفضي إلى سلام واستقرار دائم في المنطقة.

ورغم كل هذه التطورات والمستجدّات، فإن الطرفين حافظا على مستوى معيّن من العلاقات بحيث يمكن البناء عليه وتأهيله.. ذلك لأنهما يعلمان أهمية أحدهما للآخر؛ فتركيا صمام الأمان الذي يحمي حدود إسرائيل من أي اعتداء عربي أو أعجمي، ومن خلال الاتفاقية التركية-الكردية. وإسرائيل مهمة للنظام الحاكم في تركيا، لأنها قادرة على تقديم الدعم والمؤازرة له لتثبيت ركائزه وضمان دعم الإدارة الأمريكية له، هذا.. ناهيك عن المصالح الاقتصادية والعسكرية والأمنية المشتركة بينهما.

ولا يُشكّل دعم إسرائيل للأكراد، ودعم النظام التركي لحركة حماس، تهديدًا لهذه العلاقة، لأن الدعم الإسرائيلي للأكراد إنما هو في إطار تأسيس اتفاق تركي-كردي يضمن أمن إسرائيل، والدعم التركي لحماس يصبّ في عملية السلام القائم على حلّ الدولتين.

أمّا العلاقات التركية الإيرانية، فقد سارت بصورة جيدة وبوتيرة ثابتة، كما كان مرسوماً لها منذ نهاية الدولة العثمانية ولحدّ الآن؛ على الرغم ممّا يعتريها من صراعات خفيّة على النفوذ في المنطقة، ولم تتغير وتيرة العلاقة الجيدة هذه بعد وصول الخميني لسدة الحكم في إيران وإنشائه نظاما سياسيا شيعيا فيها، على الرغم من سياسة الحكومات التركية العلمانية الأتاتوركية المعادية للعالم الإسلامي التي حكمت البلاد في تلك الحقبة من التأريخ.. وهذا أمر لافت للنظر ويستوجب التوقف عنده، لأنه يعني وبكل وضوح أن الحفاظ على هذا النمط من العلاقة بين الطرفين كان مطلوبا ومُخطَّطاً له من خارج إرادة الطرفين. وبعد وصول السيد رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم في 2002م، تعززت العلاقات السياسية والاقتصادية وأخذت طابعاً إستراتيجيًّا، خاصة وأن السيد أردوغان كان مؤيدا للثورة الخمينية ونظامه السياسي، حاله حال الكثيرين من الراديكاليين الإسلاميين الأتراك في تلك الحقبة من الزمن، فأضاف هذا الموقف طراوة على تلك العلاقة وأكسبها زخما إضافيًّا تجلّى في اهتمامه الشخصي بهذه العلاقة وتفاعله معها. فارتفع حجم التبادل التجاري وازداد اعتماد تركيا على الغاز الإيراني ونشطت السياحة وبناء الحسينيات والأنشطة التشيُّعية في تركيا.. كلُّ ذلك، بالإضافة إلى إسناد السيد أردوغان شخصيا لإيران إبّان الحصار الأمريكي الأول والثاني لها، وتعرّضه للعقوبات الأمريكية جراء هذا الدعم، هو وحكومته.

ولم يُعكّر صفو هذه العلاقات الطيبة إلّا دعم إيران لحزب العمال الكردستاني، والصراع على النفوذ في المنطقة. فإيران دعمت ولازالت تدعم النشاط العسكري الكردي المسلح لهذا الحزب ضد تركيا، على الرغم من تعهداتها لتركيا في المشاركة معها في محاربة الإرهاب ضمن الاتفاقية الأمنية المبرمة بينهما.. ويعود سبب دعم إيران لهذا الحزب الكردي المسلح إلى:

1- الاتفاقية الأمنية المبرمة بين الطرفين، والتي بموجبها يحمي الحزب الحدود الشمالية الغربية لإيران من الجماعات المسلحة المعادية لإيران، في مقابل الدعم اللوجستي الإيراني لهذا الحزب وحماية تواجده في المناطق الحدودية من إقليم كردستان العراق.

2- نشاط هذا الحزب المعادي لتركيا يصبّ في مصلحة إيران، إذ يدفع تركيا إلى الإحساس بأهمية ودور إيران في إنهاء الوجود العسكري المسلح لهذا الحزب، وحاجتها إلى الدعم والتعاون معها في هذا المجال، مما أجبر تركيا لإبرام اتفاق أمني معها.

3- تواجد حزب العمال الكردستاني على الساحة الكردية بقوة يعزز شقّ الصفّ الكردي ويساعد إيران على فرض نفوذه في إقليم كردستان العراق، مع ملاحظة الإجراءات الإيرانية للحفاظ على التوازن في قوة هذا الحزب وجعلها تحت السيطرة الدائمة، تماماً مثل سياسة إسرائيل تجاه حركة حماس، فهي تدعم وجودها وتعينها على البقاء من جهة، وتُلزمها حدّها من جهة أخرى، وذلك لتعميق شقّ الصّف الفلسطيني، لضمان أمنها القومي.

أما الصراع على النفوذ بينهما، فهو تأريخي وقديم، أسدلت اتفاقية سايكس بيكو الستار عليه.. والتي رسمت مع اتفاقيات لاحقة الدور التركي في المنطقة وحدّدت ملامح النفوذ الإيراني.. ومع الاقتراب من نهاية القرن العشرين، تمت صياغة نظام عالمي جديد، أسقطَ نظام الشاه في إيران وأنشأَ نظامًا إسلاميًّا شيعيًّا على أنقاضه، وعبّد الطريق أمام التيار الإسلامي السنّي المعتدل المتنامي في تركيا للوصول إلى السلطة، فهيّئ بذلك الأرضية لبروز قوتين إقليميتين تفرضان نفوذهما في المنطقة بعد سقوط الإتحاد السوفيتي.

تعاظمَ النفوذ الإيراني أولا حتى غطّى الهلال الخصيب (العراق والشام) واليمن، وسنتكلم عن هذا النفوذ في معرض الكلام عن إيران.. ثم تلاه تعاظمُ النفوذ التركي الذي شكّل في الداخل جبهة إسلامية قومية، مكّنته من احكامِ السيطرة داخليًّا، وفرضِ النفوذِ خارجيًّا، في العراق وسوريا وليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط.

ظهرت بوادر لعبة التوازن هذه بدايةً في العراق، بعد احتلاله في 2003م، إذ دخلته إيران بقوة داعمةً التيارَ الشيعيَّ، ودخلته تركيا بشكل أخفّ بكثير، داعمةً السنةَ. ثم توسعت ساحة التنافس وتقاطعت المصالح بين الطرفين إلى سوريا وليبيا.

ولكن يبدو أنّ مهمة النظام الإيراني قد شارفت على النفاد، فظهرت بوادر تحييده وانكماش نفوذه في مقابل تزايد النفوذ التركي في الشرق الأوسط، الذي سيقوم وبالتنسيق والتفاهم مع الأكراد بملء الفراغ الذي تتركه إيران في الشرق الأوسط.. وهذا بالطبع سيمهّد لسحب أمريكا جيوشها من المنطقة وتقليل نفوذها وحصره في صيغة اتفاقات سياسية وأمنية الهدف الأساسي منها هو ضمان أمن إسرائيل وتحقيق التوازن وسلاسة تدفّق النفط.

أما التوازن في العلاقة مع الغرب والانضمام للاتحاد الأوربي، وفي العلاقة مع الشرق العربي والإسلامي، فهو أيضا قد طرأ عليه بعض المستجدّات التي أثّرت على الدور التركي في عملية التغيير في المنطقة.

فالعلاقة مع الغرب قد تطورت بشكل ملموس واستكملت تركيا معظم الأسس والضوابط والتعليمات التي وضعها الاتحاد الأوربي كشروط لقبول عضوية تركيا، ولكن ممانعة بعض الدول لأسباب عرقية ودينية، منعت تركيا من الانضمام، حتى أضحى هذا الانضمام حبرا على ورق في ظل الحكومة القومية المحافظة التي تحكم البلاد الآن.

وعلى الجانب الآخر، انفتحت حكومة السيد أردوغان على العالم العربي والإسلامي مع بدايات تأسيسها، وأبرمت عقودًا اقتصادية وسياسية وأمنية عديدة مع العديد من الدول العربية والإسلامية.. إلا أن الصراع العربي-العربي ووقوف حكومة أردوغان مع طرف منه من جهة، واستخدام التيار المعادي لأردوغان داخل الإدارة الأمريكية لبعض الدول كالسعودية ودولة الإمارات العربية في السعي لإسقاط حكومته من جهة أخرى، أفسد العلاقة التركية العربية، وأقحمها في دوامة التناقضات، وحصل أردوغان بموجبه صفة الصديق العدو عربيا وعلى الصعيدين الشعبي والحكومي. ويبدو أن هذه الصفة وهذه الصورة هي الصورة المثلى لما هو مرسوم في النظام العالمي الجديد.. فعلاقة الصداقة والعداء هذه كفيلة بالسيطرة على كل تحرك عربي معاد لإسرائيل، وصمام الأمان لأمنها القومي.

أما بخصوص تصفير المشاكل مع دول الجوار، فقد كان هو الأساس الذي بنت عليه الحكومة سياستها الخارجية، فتبنّت سياسة الانفتاح على أرمينيا واليونان لمعالجة جملة المشاكل الموروثة وإيجاد الحلول الوسط التي تحقق المصالح المشتركة والحدّ المقبول من المصالح القومية التي تُرضي كل الأطراف.. وفي هذا الإطار جرى العديد من الزيارات المُتبادَلة بين الأطراف المعنية. كما وعززت الحكومة دورها في تنشيط التعاون الاقتصادي بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود. أما العلاقات مع العراق وسوريا والأردن فقد تطوّرت إلى حدّ إلغاء التأشيرات بينها وتوقيع العديد من الاتفاقات الاقتصادية والأمنية.. لكن جهود الانفتاح وتصفير المشاكل هذه اصطدمت بواقع متناقض معقّد.. فتنامِي النعرةِ القومية بشكل عام في العالم، وتبنّي بوتين سياسةَ الصراع على النفوذ في العالم من منظور قومي أرثودوكسيّ، من خلال تصدّيه للمشهد السياسي والأمني في أوكرانيا وسوريا وليبيا، وإنهاء محادثات السلام التركية الكردية الذي دفع الأتراك إلى تعزيز تواجدهم العسكري في سوريا والعراق، وعمليات تقاسم النفوذ في شرق البحر الأبيض المتوسط على النفط والغاز، كل هذه العوامل والمؤثّرات تظافرت لتكون العوائق التي حالت دون تصفير المشاكل وإنهاء الأزمات.

عليه.. فإن تركيا تأخرت في تقمّص شخصيتها كقوة إقليمية فاعلة، ويُعدُّ هذا سببًا من الأسباب التي أثّرت بطبيعة الحال في تأخّر تنفيذ النظام العالمي الجديد، بل وتغييره أيضًا.

4- إيران

أمّا إيران.. فقد بدأت تأخذ دورها في حلبة الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط بعد سقوط الشاه، وإعلان الثورة ومجيئ الخميني إلى السلطة. هذه الثورة الفارسية التي تبنّت الفكر السياسي والمذهب الديني الشيعي، سعت منذ اندلاعها إلى تصدير هذا الفكر إلى العالم، وإعادة مجد الإمبراطورية الفارسية في الشرق الأوسط. ولهذه الميزة بالذات.. ميزة الفارسية المتشيعة، تم تسهيل نقل الخميني من باريس إلى طهران بعد إسداء النصح للشاه بترك البلاد، وتأسيس نظام فارسي شيعي جديد. وكان معلومًا أن هذه الميزة قادرة على أداء دور في غاية الأهمية ضمن مخطط النظام العالمي الجديد.

أرعبَ النظامُ الإيراني معظمَ الدول العربية وبالأخصّ الخليجية منها، كما تبنّى هذا النظام الدفاع عن القضية الفلسطينية وتحرير القدس، ورفع منذ نشوئه راية العداء لأمريكا وإسرائيل. ويبدو لأول وهلة أن هذه الميّزات تتنافى مع عملية إعانة الثورة وتسهيل إنشاء نظامها السياسي، ولكن الحقيقة أن النظام الإيراني، وبهذه الميّزات تمكن بجدارة من أداء الدور المرسوم له في ظل النظام العالمي الجديد.

فالمحصّلة النهائية من تأسيس نظام عالمي جديد هي ضمان أمن الدولة الإسرائيلية ضمن حدود ثابتة وعاصمتها القدس، إضافة إلى نتائجها الأخرى بالطبع. وضمان أمن إسرائيل يتطلّب كسر الطبع اللاسامي عند العرب؛ وبمعنى آخر: إخماد طبيعة العداء لإسرائيل عند العرب وعلى المستويين الشعبي والحكومي، فإسرائيل تعتقد، بل هي متأكّدة من أنه لا أمان لها في بيئة يحيطها عداءٌ عربي متأصّل.

أدّى النظام الإيراني، وبهذه الميّزات الفريدة، دوره بكل جدارة.. فساهم في حماية إسرائيل وضمان أمنه، بالصيغة المرسومة في إطار النظام الجديد، فحقّق ما يلي:

1- دفعَ الأنظمة العربية، الخليجية منها بالأخصّ، إلى التطبيع مع إسرائيل، وقبولها الاحتلاب من قبل أمريكا. وذلك من خلال تفَرعُنه عليها وتهديده المستمر لأمنها.. فسارعت هذه الأنظمة إلى التطبيع مع إسرائيل من خلال فتح القنوات الدبلوماسية، وتوقيع الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والثقافية والسياسية العلنية والسريّة، وتبادل الزيارات، وممارسة الأنشطة المشتركة.. حتى غدت إسرائيل مُطمئنّة على أمنها في المديين القريب والمتوسط، أي: خلال المئة عامٍ القادمة على الأقلّ.

2- دفعَ الشعب العربي والإسلامي -بشكل عام- إلى التخلّي عن نزعة العداء لإسرائيل المتأصّلة في ذهنه وروحه وتربيته.. وذلك من خلال الممارساتِ العنيفة والدموية التي صاحبت عمليات تصدير الثورة وبسطِ النفوذ في الشرق الأوسط، وخاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتأسيس جبهة الممانعة التي يعتبرها الشعب العربي والإسلامي السنّي جبهةً تستهدف السنّة وليس إسرائيل.. وقد دقّ صدام حسين الإسفين في نعش العروبة وطبعها الأزلي المعادي لإسرائيل، وذلك من خلال احتلاله للكويت، فقلع بذلك كل معاني الوطنية والعروبة من جذورها لدى الكثير من العرب والمسلمين.

3- تبنّى النظام الإيراني القضية الفلسطينية إيماناً منه- كما يدعّي بطبيعة الحال –بهذه القضية من منظوره الإسلامي؛ على الرغم من أن التأريخ يؤكّد عكس هذا الادعاء، إذ التأريخ حافل بتعاون التشيّع الفارسي مع اليهود والغرب الصليبي، واستطاع النظام بهذا التبنّي من استقطاب التأييد الشعبي، جنبًا إلى جنب مع تبنّيه لقضية الحسين رضي الله عنه.. فتمكّن من إسناد الثورة من خلال الضرب على وتر المشاعر الدينية وإثارتها عند الحاجة، وتأمين القاعدة الجماهيرية اللازمة لديمومته وصموده وتحقيق غاياته، ليس داخل إيران فحسب، ولكن داخل الأراضي الفلسطينية أيضاً، من خلال دعم وإسناد حركتي الجهاد وحماس، اللّتين تُعتبَران قاعدتي الممانعة الإيرانية في فلسطين.. وهنا يكمن بيت القصيد!؛ إذ أن هذا الدعم والإسناد قد عمّق الشرخ في البيت الفلسطيني، فأصبحت إمكانية الاتفاق بين هاتين الحركتين ومنظمة التحرير الفلسطينية شبه مستحيلة، وستبذل إيران قصارى جهدها لتأمين وإدامة الخلاف الفلسطيني- الفلسطيني، وهذا ما تريده إسرائيل وتتمناه في العلاقات الفلسطينية الداخلية، وهذا في نفس الوقت هو الدور المناط للنظام الإيراني في ظلّ مخطط النظام العالمي الجديد.. فدوام الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني ضمان لأمن إسرائيل، وتحقيق لدولتها القومية بعاصمتها القدس، كما تدّعي، وما تلك الحفنة من الصواريخ التي تسقط بين الفيّنة والأخرى على إسرائيل، وتلك الهتافات والتهديدات الجوفاء الصادرة عن رجالات النظام الإيراني إلّا عقاقير مخدّرة تساهم في تشكيل القاعدة الجماهيرية العاطفية والتفافها حول الثورة والنظام.

4- يبقى هنا أمر لابد من توضيحه بهذا الصدد، وهو: أن الإمبراطورية الفارسية، وعلى مدار التأريخ، لم تحمل بُنْيَتُها أيَّ عداءٍ لإسرائيل واليهود، بل بالعكس؛ فقد ساهمت في إنقاذ اليهود ودعمتهم وحمتهم، في إطار توافق المصالح القومية المشتركة للطرفين، كما أن التشيّع لم يكن في يوم من الأيام، عبر التأريخ، معاديًا لإسرائيل.. بل على العكس، فقد كان هناك تعاون مشترك بين الطرفين في إطار تحقيق المصالح المشتركة.. واليوم؛ امتزجت الفارسية بالتشيّع، وتأسّسَ نظامٌ سياسي فارسي شيعي.

هذا النظام، أصبح يسعى إلى إعادة مجد الإمبراطورية الساسانية في الشرق الأوسط، بحُلّةٍ شيعية وقاعدة شعبية مسلحة تُسمّيها الممانعة.. فتضاربت هذه المساعي مع مصلحة الصهيونية المتديّنة، وأخذت تُزاحمها على النفوذ في المنطقة.. وغدا بذلك هذا النظام يغرّد خارج السرب، ويحيد عن المسار المرسوم والدور المناط له؛ ناهيك عن أنه قد أكمل وظيفته الأساسية في دفع الشعب العربي وأنظمته الحاكمة إلى أحضان التطبيع.. وانتهى تأريخ صلاحيته للاستعمال، وأصبح وجوده مضرًا يُشكّل خطرًا على المحيط الذي هو فيه، لذلك وجب تقليم أظافره وتحييده، وحصر نفوذه السياسي والعسكري ضمن التغييرات السياسية التي ستحصل في المنطقة.

ومع فوز إبراهيم رئيسي برئاسة الحكومة الإيرانية، سلك بحكومته التي شكلها من عناصر وقيادات الحرس الثوري، سياستين رئيسيتين هما: سياسة إتمام مفاوضات فيينا وإنهائها باتفاق جيد، حسب تعبير المسؤولين الإيرانيين، وسياسة الدبلوماسية الاقتصادية والانفتاح على دول الجوار وبناء الثقة معها.

5- إسرائيل

أمّا إسرائيل، فهي السكين الغادر في خاصرة الأمة العربية والإسلامية الذي ثبّته وعد بلفور قبل مئة عام مضت، تاركًا جرحًا عميقًا غائرًا في قلب هذه الأمة، يصعب تداويه.

خلال المئة عام الماضية، خاضت إسرائيل ثلاث حروب رئيسية.. في 1948م و1967م و1973م، ضمّت إسرائيل بعد كل حرب منها جزءًا من الأراضي الفلسطينية اليها. أعقبت هذه الحروب محاولاتٌ عديدة لإرساء سلام دائم في الشرق الأوسط، بدأت باتفاقات كامب ديفيد سنة 1978م، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979م، ومؤتمر مدريد سنة 1991م، واتفاقات أوسلو سنة 1993، ومعاهدة السلام بين إسرائيل والأردن سنة 1994م، وقمة كامب ديفيد سنة 2000م، تلتها سلسلة مباحثات ومفاوضات بين الجانبين العربي والإسرائيلي، حتى أعلن جاريد كوشنر عن اتفاقية جديدة سمّاها "صفقة القرن" سنة 2019م، والتي تلغي اتفاقات الحلّ على أساس الدولتين التي تمت بين الأطراف المعنية والمدعومة دوليًّا في القرن الماضي.. صفقة القرن هذه قائمة على أساس الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ يهوديةٍ بحدودٍ آمنة من الغور إلى البحر، وعاصمتها القدس.. تحاذيها من الشرق ما تبقّى من الضفة الغربية ومن الجنوب قطاع غزة، تحكمهما حكومتان، قد تُشكِّلان دولةً فلسطينية إذا اتفقتا!

الصهيونية، حركة سياسية يهودية تأسست في أواخر القرن التاسع عشر، بهدف تأمين هجرة اليهود في العالم إلى الأرض الموعودة -في معتقدهم- وتأسيس دولة إسرائيل، وهي حركةٌ سياسيةٌ دينيةُ البدايات، استخدمت كافة الوسائل المتاحة لديها للتأثير على السياسات العالمية لتحقيق هدفها في تأسيس دولة إسرائيل.. فقد أسس قادة الصهيونية منظمات سرية لهذا الغرض، كالماسونية والروتاري، ووضعوا يدهم على الكثير من البنوك؛ وعلى رأسها البنك الدولي، وأثّرَوا على الكثير من مراكز القرار السياسية في العديد من الدول الفاعلة في العالم، ودعموا حركات التبشير المسيحية في البلاد الإسلامية، بل وانغمس بعضهم في معتقدات بعض المذاهب المسيحية، واستحوذوا عليها، كمدرسة الرهبنة اليسوعية التي تتحكم في الفاتيكان اليوم من خلال البابا فرنسيس اليسوعي، والإنجيلية التي تتحكّم في المذهب البروتستانتي الأمريكي، فهاتان المدرستان المسيحيتان تؤمنان بضرورة إنشاء دولة إسرائيل وظهور المسيح المنقذ -لا يقصدون عيسى عليه السلام- من القدس الذي سيحكم العالم وفق مصالحهم ومعتقداتهم، وهو نفس المعتقد الذي تؤمن به الصهيونية وتدعو له .

الصهيونية، هي الوجه السياسي للديانة اليهودية والقومية اليهودية التي تؤمن وتدعو إلى إنشاء وطن قومي آمن لليهود وعاصمته القدس في فلسطين.. وهي وإن بدأت بداية دينية إلّا انها اليوم انقسمت إلى ثلاث فرق سياسية متناحرة ومتنافسة على الحكم في إسرائيل.. الصهيونية المتدينة ويقودها بنيامين نتانياهو، الصهيونية الليبرالية ويقودها أفيغادور ليبرمان، والصهيونية الوسط (يحتضن اليسار أيضًا) ويقودها بيني غانتس.

هذه الاختلافات، وإن كان بعضها شخصية، فإنها عقّدت المشهد السياسي في إسرائيل، باعتبار أن الحكومات الإسرائيلية هي الأداة السياسية للصهيونية، فهي قد تسبّبت في تشكيل حكومة هشة بعد مخاض صعب جدًّا.. وأدّت إلى تأخير تنفيذ مخططات النظام العالمي الجديد، ناهيك عن أنها قد تسبّبت في تأخير ضمّ غور الأردن وأجزاء من الضفة الغربية.

الصهيونية، المتدينة والليبرالية واليسارية، لا تُعادي النظام الفارسي الشيعي، وإنما تخشى مطامعه في بسط النفوذ على الشرق الأوسط، لذلك ستسعى إلى منعه من امتلاك سلاح نووي، وتحييد تواجده السياسي والعسكري في الوطن العربي، وتقزيم برنامجه الصاروخي، وفق ما هو مرسوم في النظام العالمي الجديد.

الصهيونية، المتدينة والليبرالية واليسارية، لا تتخذ موقف العداء من نظام الأسد، وإن كانت تتمنّى رحيله، باعتباره المقنِّن للوجود الإيراني والروسي في سوريا، ولولا أنها تخشى من وصول التيار السنّي العربي الى سدّة الحكم في سوريا، لكانت تسعى بجدّ لإسقاطه.

الصهيونية، المتدينة والليبرالية واليسارية، تُعادي بشدة التيار الإسلامي العربي السنّي، وبالأخصّ "الإخوان المسلمون"، وذلك لأنه يحمل في ذاته الطبعَ اللاسامي المعادي للصهيونية منذ نشأته، ولم تستطع أية جهة أو قوة في العالم إجبارَه على التخلّي عن هذا الطبع أو إغرائَه بهذا الخصوص، فشكّل هذا التيار تهديدًا صريحًا عليها وعلى أمن إسرائيل، ولهذا أصبح الوقوف ضده و تحييده سياسيا ركنا من أركان النظام العالمي الجديد، فقامت الأنظمة الوظيفية العربية، والخليجية منها بالذات بمحاربة "الإخوان المسلمون"، وبالأخصّ بعد خطاب بوش الأب سنة 1990م الذي أعلن فيه العدّ التنازلي لإنشاء نظام عالمي جديد، بحضورِ تاتشر ودعمِ غورباتشوف، حينها اتفق رؤساء كلّ من أمريكا وبريطانيا وروسيا (بوش و تاتشر و غورباتشوف) على خلق عدو جديد بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، اسمه الإسلام السياسي المتمثل بالتيار الإسلامي السنّي.

ويبدو أن التيار الإسلامي السني، وبالأخصّ تنظيم "الإخوان المسلمون" يشعر بالضغوط المفروضة عليه، فأخذ يتأقلم مع الوضع الجديد، ويتّخذ التدابير اللازمة للخروج من أزماته.. ولكن يبدو أنه لم يستشرف المستقبل ولم يفهم أن المئة عام القادمة لن تكون في كل تفاصيلها وحيثياتها كالمئة الفائتة، وأنه يجب أن يتحوّل إلى تيار جماهيري يخاطب كل المواطنين ويعيش أحداثهم، فالمواطن في المئوية القادمة سيكون محور التغيير ورأسماله الاجتماعي.

طوّرت إسرائيل علاقتها مع الصين، على غير رغبة أمريكا، بعد قيام الرئيس الصيني جيانغ زيمين بزيارة إلى إسرائيل عام 2000م، أعقبتها زيارة رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت بكين عام 2007م، وتوّجت الدولتان علاقتيهما بعدة اتفاقات اقتصادية وعسكرية وثقافية وسياحية، ولا يُستَبعَدُ إبرام اتفاق استراتيجي بينهما مستقبلا، يحل محل العلاقة الاستراتيجية الإسرائيلية الأمريكية، بعد أفول نجم أمريكا، إذا ما استطاعت إسرائيل الصمود والبقاء لذلك الحين.

6- دول الخليج

أمّا دول الخليج، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية والمملكة السعودية وقطر، فقد دخلت حلبة الصراع على النفوذ من خلال النظام العالمي الجديد، وذلك لقيادة عملية التطبيع مع إسرائيل، وتأمين الأموال اللازمة لتنفيذ أجزاء من المخطط، وتحقيق التوازن الإستراتيجي مع إيران، وتهيئة الأرضية للتواجد العسكري والسياسي الأمريكي في الخليج، وإعطائه المبرر القانوني.

وليس لدول الخليج دور يُذكَر في رسم سياسات الشرق الأوسط، وذلك لانعدام أهلية قادتها وضحالة اهتماماتها، وسهولة تسييسها من قبل القوى الفاعلة من جهة، والصراعات الخليجية-الخليجية من جهة أخرى، فعداء السعودية والإمارات لقطر، جعلها تلجأ إلى إيران وتركيا وأمريكا.. فأسست معها شراكات سياسية واقتصادية وعسكرية، حمتها من غضب السعودية والإمارات اللّتين كانتا تُعِدّان العُدّة للانقلاب فيها، ودعم قطر للحركات الإسلامية السنّية العربية كحركة "الإخوان المسلمون" و "حماس" و"الجهاد" يُعتبَر عنصراً آخر من عناصر الصراع الخليجي، الذي ينسجم كثيرا مع الإطار العام المرسوم في النظام العالمي الجديد.

وهناك صراع سعودي إماراتي على النفوذ في اليمن، وبالأخصّ في جنوبها، مما أدّى إلى إطالة أمد الحرب مع الحوثيين وإدامة حالة اللااستقرار فيها، واستنزاف الكثير من الموارد في البلدان الثلاثة، ناهيك عن العدد الهائل من الضحايا البشرية.

ولهاتين الدولتين (السعودية والإمارات) اهتمام خاصّ بالأكراد منذ التسعينات من القرن الماضي، وهي اهتمامات مصالح ضمن المخطط العام للنظام الجديد، وتقومان بالتعاون مع أمريكا بدعم قوات سوريا الديمقراطية الكردية في الشمال الشرقي من سوريا، وعلى الرغم من سطحية وسذاجة وتذبذبِ العلاقات الكردية الخليجية، إلّا أنها يمكن أن تتطور في المستقبل، بحسب استيعاب قيادات الطرفين لمتطلبات النظام الجديد وقدرتها على التجاوب مع مستجدّاته.

وتحمل هاتان الدولتان عداءً شديدًا تجاه النظام السياسي التركي بقيادة السيد أردوغان، فحاربتا اقتصاده، ودعمتا أعداءه، وشاركتا في محاولة إسقاطه، لانهما تشعران بأن هذا النظام سيقود العالم الإسلامي السنّي، وأنه ملاذ وملجأ لكل مسلم مضطهد في العالم، وبالأخصّ حركتي حماس والإخوان المسلمون، العدوين اللدودين لهما.

وتحذر السعودية، ومعها الأمارات، من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وتعتبرانه خطرًا على أمنيهما القومي، فاندفعتا إلى تأسيس تحالفات أمنية واقتصادية مع أمريكا وإسرائيل، أملا في الحماية من هذا الخطر الشرقي المحدق بهما، ولكن هذا الأمل كان يَخفَتُ بين حين وآخر، مما جعل باب المفاوضات مع إيران مفتوحا على الدوام.

ومع بدايات إدارة بايدن الأمريكية، هبّ نسيم تخفيف التوترات في الشرق الأوسط، فتحسنت العلاقات التركية- العربية، وتم التوقيع على جملة اتفاقات بين تركيا وكل من الأمارات والسعودية، وتوافق ذلك مع سياسة حكومة رئيسي الإيرانية الجديدة القائمة على الدبلوماسية الاقتصادية، فتجلت هذه السياسية في صورة فتح باب المفاوضات بين إيران والسعودية.

7- الصين

أمّا الصين، فقد بدأت بالانفتاح على العالم سنة 1978 في عهد زعيمها ومهندس انفتاحها الرئيس السابق دينغ شياو بينغ، وكان هذا الانفتاح اقتصاديا بالدرجة الأولى، وأدّى بالفعل إلى نهضة كبيرة، بنت الصين عليها نقلتها الضخمة لبسط نفوذها على العالم.. فحينما تسلّم الزعيم شي جين بينغ الحكم في الصين عام 2013، أطلق مبادرته الفذّة، مبادرة "الحزام والطريق"، ليمدّ النفوذ الصيني إلى مناطق واسعة من العالم، وخلاصتها: أنها مبادرة حجمها 1.4 تريليون دولار لتمويل أكثر من 900 مشروع ضخم في كثير من سواحل دول العالم وممراتها البرية، والتي تهدف إلى السيطرة على الاقتصاد العالمي وحركاته التجارية، والدخول من خلالها في النظام العالمي الجديد، كقوة جديدة عالمية فاعلة ومؤثّرة.

ظهر الرئيس الصيني مُطلِقًا مبادرتَه هذه، في نفس الفترة التي ظهر فيها نظيره الروسي بوتين كرئيس وطني قومي أرثودوكسي يسعى لإحياء الإمبراطورية القيصرية الروسية، ومن نفس المنطلق الوطني القومي العقائدي لإحياء الإمبراطورية الصينية.. فدخلَ مُعتَرَكَ الصِّراع على النُّفوذِ في كلِّ البُؤَر السَّاخِنةِ في العالَم.

وأهَمُّ بؤرَةِ صِراعٍ تسعى الصّين إلى أن يكون لها موطأ قدم فيها، هي منطقة الشرق الأوسط؛ فهي تقترب من إسرائيل رويدا رويدا، وتبني شراكات معها، وتستعد لأن تكون الشريك الإستراتيجي البديل عن أمريكا في العقود القادمة من هذا القرن. واستطاعت أن تستغلّ الحصار الأمريكي على إيران واختناقاتها المالية وصعوباتها في تصدير نفطها، فوقّعت معها اتفاقية إستراتيجية لمدة 25 سنة وبحجم 400 مليار دولار، في مجالات الطاقة والنقل والموانئ والقواعد العسكرية، فرَسّخَتْ بذلك قدمها في الخليج، على الرغم من المعارضات الشديدة، في داخل إيران وخارجها. وأظهرت الصين اهتمامها بسوريا، فعززت تواجدها العسكري والاقتصادي والسياسي فيها، جنبا إلى جنب مع القوى الأخرى المتصارعة فيها، وإن كان هذا التواجد متأخرا ومحدودا. ووقّعت الصين اتفاقات تعاون مشتركة مع العديد من الدول كالعراق والإمارات العربية والكويت والسعودية ومصر والسودان وأثيوبيا والصومال، وستستثمر بموجبها في كافة المجالات الحيوية كالطاقة والنقل والموانئ والبنى التحتية.

ينطلق الرئيس شين جين بينغ من نفس منطلق الزعماء المنافسين كبوتين ونتانياهو وترامب وأردوغان والخامنئي؛ منطلق العرق والمعتقد.. فالرئيس بينغ شيوعي المعتقد والممارسة؛ وينتمي لعرق الـ(هان) الصينية التي بنت أمجاد الإمبراطورية الصينية.. وهو بالتالي ومن هذا المنطلق سيسعى الى بناء المئة سنة القادمة للصين كإمبراطورية منافسة تحتل مكانتها التي تستحقها في النظام العالمي الجديد.

تحتل الصين موقعا حساسا ومهما في حلبة الصراع العالمي، فهي تخوض حربا هجينة، جنبا إلى جنب مع روسيا، ضد أمريكا وحلفائها الغربيين، وفي كافة المجالات السياسية والاقتصادية والسيبرانية والاستخباراتية والإعلامية، وقد بدأت بوادر الحرب العسكرية الساخنة تظهر في ملامح الحرب الهجينة هذه، وخاصة بعد الأزمة الأوكرانية، وستلعب العملة الصينية (يوان) دورها الفاعل في هذا الصراع، وستفرض نفسها كعملة احتياط بديلة للدولار الأمريكي، وكعملة تبادل وتجارة عالمية، وخاصة في عمليات مشتريات النفط، وقد يؤدي ذلك إلى ظهور نظام نقدي جديد.

8- الاتحاد الأوروبي

يعاني الاتحاد الأوروبي من أزمة صراع داخلي بين القوى اليمينية القومية المتصاعدة وتيار العولمة اليساري، جنبا إلى جنب مع أزماته الاقتصادية وتقاطعات مصالح أعضائه، وقد أنبرت فرنسا لقيادته وبدعم محدود من ألمانيا، فأدخلت الاتحاد الأوروبي في دوامة الصراع العالمي، فقد تصدّت لتركيا في شرق البحر المتوسط، وجدّدت تبنيها للقضية الكردية، وسعت بجد لإحياء الاتفاق النووي بين إيران وأمريكا، وأخيرا حرّضت، هي وألمانيا، حكومة زيلينسكي في أوكرانيا على المقاومة، وذلك لتحييد الدور الروسي في شرق أوروبا، فدخل العالم في دوامة الأزمة الأوكرانية التي قد تتسبّب في اندلاع الحرب العسكرية الساخنة، ضمن الحرب الهجينة المستعرة في العالم منذ سنوات.

طبيعة الصراع والآثار الناجمة عنه

تتمثل طبيعة الصراع بين القوى العالمية الفاعلة في سعي الأطراف إلى بسط النفوذ الخارجي بهدف ضمان الأمن والاستقرار الداخلي، وفي تفادي تقاطعات المصالح من خلال حرب هجينة، يتم فيها استخدام كافة أدوات الحرب، الاقتصادية والسياسية والسيبرانية والإعلامية والاستخباراتية، من دون اللجوء إلى القوة العسكرية، ولكن.. يبدو أن الأزمات الاقتصادية العالمية، وأزمات أنظمة الحكم في العديد من البلدان، والتناقضات العميقة في علاقات ومصالح الدول، وانقسام العالم بوضوح إلى معسكرين: معسكر شرقي ومعسكر غربي.. كل ذلك جعل الحفاظ على توازن الحرب الهجينة وتحجيمها في إطار وسائلها المعتادة، وعدم تصعيدها وتسخينها بالوسائل العسكرية التقليدية والنووية، أمر في غاية الصعوبة، وذلك بسبب انكماش مجال المناورة حول طاولة التفاهم والمفاوضات، وهذا ينذر بتعاظم احتمالات نشوب حرب عالمية نووية ثالثة.

الخاتمة

بعد صراعاتٍ كانت قد تركّزت على كسر الإرادات بين القوى الفاعلة المتصارعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتنامي المشاعر القومية والوطنية ضد العولمة والليبرالية الجديدة، دخل العالم في دوامة أزمات: أزمة جوع، وأزمة حرب، وأزمة مرض.. فالتضخم، وانكسار سلاسل الإمدادات، والركود الاقتصادي، والبطالة، وتباطؤ النمو، برزت كعوامل اقتصادية ساهمت في تصعيد وتيرة الجوع والفقر حول العالم.. وأخذت الحرب الهجينة بإضافة الوسائل العسكرية إلى أدواتها المتعددة الناعمة، بدأً من غزو روسيا لأوكرانيا، ومرورًا بسخونة الأجواء في بحر الصين، والشرق الأوسط، حتى ظهرت تصريحات لرؤساء دول تُحذّر، بل وتُهدّد باستخدام الأسلحة النووية.. وما جائحة كورونا ومتحوراتها التي انتشرت على حين غفلة من أهل الأرض إلا شكل من أشكال تلك الدوامة من الأزمات الطاحنة التي تنخر عظام البشرية وهيكلها العظمي.

ولا يلوح في الأفق أيُّ جهدٍ فعالٍ مبذولٍ من قبل دول العالم، كفيلٍ بمعالجة هذه الأزمات الثلاثة: الجوع والحرب والمرض، بل وتظهر بين الحين والآخر أياد خفية تُؤَجِّج شرارةَ هذه الأزمات، وكأننا أمام مخطط لإحياء وتنفيذ نظرية مالتوس في النمو السكاني، التي تفترض عدم كفاية الغذاء للبشرية بسبب نموها المطّرد، لذلك تقترح النظرية اللجوء إلى الوسائل التقليدية لتقليل نسبة السكان من خلال الجوع والحرب والمرض، ومن ثمَّ تأسيس نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد.. ويبدو أن الحصار الاقتصادي الغربي على روسيا سيؤدي إلى تأسيس نظام نقدي عالمي جديد بديل عن الدولار الأمريكي، وإلى نظام سياسي عالمي من خلال تحالفات وتكتلات جديدة.

تعقيدات المشهد العالمي اليوم على المحكِّ، فإما تفاهمٌ وتقاسمٌ للنفوذ ترضى به الأطراف، وبالتالي، نظام عالمي جديد، وسلام واستقرار ونمو، أو حربٌ عالمية ثالثة، قد تتطور إلى حرب نووية مدمرة، يتشكل على أنقاضها نظام عالمي سياسي واقتصادي واجتماعي جديد.

إن العقد الاجتماعي الذي سيتأسّس على مخلفات هذه الأزمات سيكون، حتما، عقدا أكثر إنصافا، يأخذُ حقوق الإنسان بنظر الاعتبار، ويؤسّسُ نظاما ليبراليا اجتماعيا، ميّالا للإعانة والدعم التنموي، يحقّقُ السلام والاستقرار إلى حدٍّ ما في هذا القرن، وإلا فإن الأزمات ستستمر، وتداعيات الحرب ستُلقي بظلالها على العالم، وستعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحربين العالميتين السابقتين، اللتين اندلعتا بسبب شعور بعض الدول والشعوب بالظلم والإجحاف. 12/4/2022

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon