شبكة الحماية الاجتماعية بين مخالب التجاوز وضياع حقوق المستحقين
صادق الازرقي
تعد ظاهرة "المتجاوزين" على شبكة الحماية الاجتماعية في العراق من أكثر الملفات تعقيدا وحساسية، فهي لا تمثل فقط هدرا للمال العام، بل تعد "سرقة" لحقوق الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
بإعلان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الكشف عن 380 ألف اسرة متجاوزة تتقاضى رواتب الرعاية الاجتماعية بطريقة "غير قانونية"، و أن من بين هؤلاء آلاف الأشخاص يتمتعون بوضع مادي جيد أو يعملون في القطاع الخاص؛ فان الرقم ضخم ويعكس فجوة كبيرة بين التشريعات والواقع التنفيذي.
الغريب، أن ملف المتجاوزين طرح منذ وقت مبكر بمجرد اطلاق رواتب الرعاية، ولكنه يثار الآن أيضا برغم مرور أكثر من عشرين عاما منذ التغيير في نيسان 2003 من دون معالجة.
وتتداخل عدة عوامل تجعل من الصعب إغلاق هذا الملف بشكل نهائي، وأبرزها، البيروقراطية وضعف "الرقمنة"، فلسنوات طويلة، اعتمدت الوزارة على الأرشفة الورقية، مما سمح للموظف الحكومي بالجمع بين راتب الوظيفة وراتب الإعانة من دون تواجد نظام "تقاطع بيانات" إلكتروني فوري يربط مؤسسات الدولة ببعضها، ليكشف الخلل.
وادت المحسوبية السياسية دورا كبيرا، اذ جرى منح رواتب الحماية الاجتماعية في كثير من الأحيان كـ "هبات انتخابية" من قبل بعض السياسيين لكسب الأصوات، من دون النظر لاستحقاق الشخص الفعلي.
ويتكرس غياب التحديث الدوري للبيانات اذ يعتمد النظام أحيانا على مسوحات ميدانية تجري كل عدة سنوات، وهي مدة كافية ليتغير حال المستفيد (يجد عملا، يفتح مشروعا، أو يتعين في الدولة) من دون أن يبلغ عن ذلك طمعا في استمرار الراتب.
فلماذا استمرت الظاهرة لأكثر من 20 سنة؟.. برغم الوعود الحكومية المتكررة، إلا أن هناك "مصدات" منعت القضاء على الظاهرة منها، الثغرات القانونية وضعف الردع في القانون الحالي الذي يركز على استرداد المبالغ (الاسترداد بالتقسيط أحيانا)، لكنه نادرا ما يتضمن عقوبات جنائية رادعة تصل إلى السجن أو الفصل من الوظيفة للمتجاوزين، مما يجعل البعض يغامر بالتقديم طالما أن أقصى عقوبة هي إعادة المال "بالراحة".
كما ان التستر المجتمعي أدى دورا سلبيا، إذ أن هناك ثقافة مجتمعية خاطئة، تعد أن الحصول على مال من الدولة هو "حق مباح" للجميع بغض النظر عن الحاجة، مما يقلل من حالات الإبلاغ الشعبي عن المتجاوزين الميسورين.
وكشفت الإحصائية عن 14 ألفا من الميسورين والعاملين في القطاع الخاص؛ هؤلاء يصعب تتبعهم لأن عملهم غير مسجل في دائرة التقاعد والضمان الاجتماعي، مما يجعلهم "فقراء" في الأوراق الرسمية في حين ان واقعهم المادي ميسور.
وفيما يتقاضى المتجاوزون هذه الرواتب، يواجه الفقراء الحقيقيون عقبات قاسية منها نفاد التخصيصات فكثيرا ما يعلن ان الميزانية المخصصة للحماية الاجتماعية محدودة؛ وفي الحقيقة فكل دينار يذهب لمتجاوز هو دينار يقطع من حصة أرملة أو يتيم أو عاجز او يمنع آخرين من الراتب بسبب عدم قبولهم في الحماية برغم المراجعات المتعبة.
و يضطر الفقير الحقيقي للانتظار لسنوات في وضع "قيد التحليل"، لأن السعة الاستيعابية للنظام ممتلئة بالأسماء الوهمية أو المتجاوزة.
ويقول بعض المراقبين، ان الوزارة بدأت مؤخرا خطوات أكثر جدية تتمثل في، حملة "ابحث عنهم"، التي تستهدف الوصول للمناطق الأشد فقرا والتدقيق الميداني، و تفعيل تقاطع البيانات مع وزارات (الداخلية، الدفاع، التجارة) لكشف الموظفين وأصحاب السيارات الحديثة والعقارات، وان الوزارة تمكنت من استعادة مئات المليارات من الدنانير، والنية تتجه لتحويلها فورا لفتح "شمول جديد" للعائلات المستحقة.
إن القضاء على هذه الظاهرة يتطلب إرادة سياسية لرفع الغطاء عن المتجاوزين، بالتوازي مع وعي مجتمعي يرفض التجاوز على حقوق الضعفاء.
وتعتمد الدول ذات التجارب العريقة في نظم الرفاه الاجتماعي (مثل دول شمال أوروبا، ألمانيا، وبريطانيا) على منظومة تكاملية تجعل من الصعب جدا اختراق النظام أو الاستمرار في التجاوز عليه لمدة طويلة.
و أهم الآليات والوسائل التي تستعملها هذه الدول للسيطرة على المعونات ومنع التجاوز، الرقمنة الشاملة و"تقاطع البيانات" هذا هو العمود الفقري للنظام، الموظف ليس بحاجة للبحث يدويا، بل هناك ربط إلكتروني آني بين دائرة الرعاية الاجتماعية ومؤسسات الدولة الأخرى، فيكتشف اسم المتجاوز مباشرة ليعاقب قانونيا.
و في دول مثل السويد و الدنمارك، يقدم للمتقدم طلبا للتصريح بالدخول على بياناته المصرفية، وان أي تدفق مالي غير منطقي وغير مسوغ أو رصيد يتجاوز حدا معينا يؤدي لإيقاف المعونة تلقائيا، و بمجرد أن يحصل الشخص على وظيفة (حتى لو كانت جزئية)، تظهر بياناته فورا لدى نظام الرعاية عبر "رقم الهوية الموحد"، فيجري تعديل الراتب أو قطعه.
ويجري الربط مع دوائر العقارات والمرور؛ فامتلاك سيارة فارهة أو عقار إضافي يسقط حق المتقدم فورا، كما يطبق نظام "الزيارات الميدانية المفاجئة" والرقابة المجتمعية و المفتشون الاجتماعيون، اذ تمتلك هذه الدول فرقا من المفتشين المؤهلين الذين يقومون بزيارات دورية (ومفاجئة أحيانا) للتأكد من الحالة المعيشية.
و هناك تشجيع للسكان للإبلاغ عن أي "احتيال"، في بريطانيا مثلا، توجد حملات إعلامية توضح أن التجاوز على المعونة هو سرقة لأموال الضرائب التي يدفعها المواطن، مما يحول المجتمع إلى "رقيب" واع.
والتجاوز في تلك الدول لا يعامل كخطأ إداري، بل كـ "جريمة جنائية" ، و لا يطلب من المتجاوز إعادة المبلغ فقط، بل يغرم بمبالغ إضافية وفوائد قانونية، و قد تصل العقوبة إلى السجن، ويحرم الشخص من التقديم على أي معونات حكومية لسنوات طويلة كعقوبة تأديبية، و تسجل في السجل العدلي للشخص مما يمنعه من الحصول على وظائف جيدة مستقبلا.
والمعونة ليست راتبا أبديا، في أغلب الدول المتقدمة، يجب على المستفيد إثبات استحقاقه كل 6 أشهر أو سنة عبر تقديم كشوفات محدثة، و يلزم القادرون على العمل بالانخراط في دورات تدريبية أو قبول وظائف تعرضها عليهم "مكاتب العمل"، وان الرفض غير المسوغ للعمل يؤدي لقطع المعونة تدريجيا.
في الدول العريقة، تدار المعونات عبر هيئات "تكنوقراط" مستقلة تماما عن الضغوط السياسية، و لا يملك الوزير أو النائب سلطة استثناء شخص أو إضافة أسماء خارج الضوابط الإلكترونية، مما يقطع الطريق على "المحسوبية الانتخابية" التي يعاني منها العراق.