سيكولوجيا الفقيه
د. علي المؤمن
تؤثر البنية السيكولوجية للشخصية تلقائياً في قراراتها، أياً كان موقعها، وأنّ تكوينها النفسي والأُسري والاجتماعي يؤثر تأثيراً مباشراً في هذه القرارات. وتزداد حساسية التكوين السيكولوجي وخطورته لدى الفقيه أكثر من غيره من الشخصيات العامة؛ لأنّها تتحول تلقائياً إلى مساهم في صناعة الخطاب الديني، سواء في الفتاوى أو في أحكام الحسبة والشأن السياسي؛ أي أنّ ذاتيات الفقيه تؤثر تأثيراً مباشراً في إنشاء قرار الفتوى قبل النظر في الأدلة الشرعية، وتحديداً في قضايا الشأن العام، ثم يسخِّر الفقيه الأدلة الشرعية لتسويغ فتواه أو رؤيته الشجاعة أو الجبانة أو الحكيمة أو الجريئة أو المحافظة. والخطورة هنا تكمن في أنّ نوازع الفقيه الذاتية ستتحول عبر الفتوى والحكم الشرعي إلى خطاب شرعي، أي إلى دين، بينما تتضاءل هذه الخطورة في قرار الزعيم السياسي، والقائد العسكري والوجيه الاجتماعي.
وعناصر التكوين السايكولوجي والسوسيولوجي للفقيه لا يتم استحضارها وصناعتها؛ بل هي حاضرة ومؤثرة تلقائياً. أي أنّ الفقيه خلال عملية الاستنباط واتخاذ القرار يتأثر تلقائياً بسمات شخصيته؛ لأنّها جزء أساس من تكوينه النفسي وأساليب تفكيره وميولاته الذاتية.
وهناك مداخل علمية كثيرة يمكن من خلالها دراسة العناصر الخارجية المؤثرة في إنشاء الفقيه للفتوى والحكم الشرعي، أهمها علم نفس الشخصية (1). وليس المقصود هنا مصادر الاستنباط وأدلته وعناصره الداخلية، وليست الموضوعات أو عناصر تشخيصها؛ بل العناصر التي تساهم في التوجيه النفسي للفقيه خلال عملية الاستنباط أو اتخاذ القرار العام، والتي تشكل «شخصية الفقيه». وأهم ثلاثة عناصر مكونة لهذه الشخصية:
1ـ التكوين النفسي للفقيه، والذي تصنعه صفاته الوراثية البيولوجية وتربيته الأسرية.
2ـ التكوين الاجتماعي للفقيه، والذي تصنعه بيئته الاجتماعية وزمانه ومكانه.
3ـ القبليات المعرفية الأساسية، والتي تعبر عن النزعات الإدراكية الذاتية.
وفي شخصية الفقيه تتمظهر السمات الخاصة التي تميز كل فقيه عن غيره من الفقهاء، وانعكاس هذا التميز على فتوى كل منهم، أو بكلمة أُخرى: الصفات والاتجاهات والميول والمهارات والخبرات والاستجابات الثابتة في الشخصية، وأخلاقها وسلوكها الخارجي ومزاجها، والمؤثرات النفسية والعاطفية والوجدانية في أساليب تفكيرها (2)، والتي تساهم بمجموعها في توجيه الفقيه ذاتياً نحو مضمون الخطاب الشرعي والقرار الاجتماعي والسياسي.
كما ينعكس تغير الزمان والمكان على وعي الفقيه بالموضوع، ويستتبع ذلك تغييراً في فتواه حيال الموضوع نفسه. أي أنّ تغير وعي الفقيه بالموضوع من خلال تغير الزمان والمكان سيؤدي إلى تغيير الفتوى والحكم الشرعي لزاماً، وهو ما يمكن تسميته بـ «بيئة الفتوى» أو «ظرف الفتوى».
وأهم فروع علم النفس التي تدرس تأثير العناصر المكونة لشخصية الفقيه: علم نفس الشخصية وعلم النفس التربوي وعلم النفس المعرفي أو الإدراكي. كما يدرس علم الاجتماع التكوين الاجتماعي للشخصية وتأثير سماتها الاجتماعية على قراراتها وميولها (3). ومن المخرجات الموضوعية لهذه المداخل العلمية، ما يمكن أن نصطلح عليه «ذاتيات الفقيه»، أو «سيكولوجيا الفقيه» و«سوسيولوجيا الفتوى»، أو «علم نفس الفقيه» و«علم اجتماع الفتوى». أما موضوعنا هنا فينحصر في مدخلية علم النفس، أو ما أصطلحنا عليه «سيكولوجيا الفقيه».
فحين يبلغ الإنسان مرحلة الشباب تكون شخصيته قد اكتملت تقريباً من الناحية النفسية والتربوية والاجتماعية. أي أنّ الشخص الذي يدخل الحوزة بعد سن الثامنة عشرة؛ فإنّه يكون حاملاً لسمات شخصيته النهائية تقريباً. لذلك؛ لا يمكن تغيير البنية النفسية للشخصية وسماتها الأساسية داخل الحوزة من جديد، إلّا بالحدود الدنيا. أي أنّ طالب الحوزة العلمية لا يختلف عن أي إنسان آخر في توصيفات سمات الشخصية وأساليب تكوينها وتمظهراتها. فمن الممكن أن يكون الطالب الحوزوي قوي الشخصية أو يكون ضعيف الشخصية أساساً، وقد يتمتع بشخصية جاذبة آسرة أو شخصية منفِّرة طاردة، وقد يكون فعالاً منظماً أو لا مبالياً، منفتحاً حيوياً أو انطوائياً منعزلاً متحفظاً، حساساً قلقاً أو مطمئناً واثقاً، نبيهاً فطناً أو بسيط التفكير ساذجاً، حكيماً عاقلاً متزناً كيساً أو أرعناً أحمقاً متسرعاً، كريماً جواداً أو بخيلاً، شجاعاً جريئاً أو جباناً متردداً، مديراً مدبِّراً ذا نزوع قيادي أو فاقداً لملكة التدبير والإدارة والقيادة، يتمتع بالوعي العام والذكاء الاجتماعي أو غبياً اجتماعياً، حسوداً حقوداً لئيماً فضاً غليظاً أو طيب القلب كريم النفس جميل الأخلاق، مستبداً برأيه ومتعصباً أو يؤمن بالمشورة ومتسامحاً، حسن الظن بالآخرين أو شكاكاً سيء الظن، معافى من أي مرض نفسي أو يعاني من التوتر والعُصَاب والكآبة وغيرها.
هذه الملكات والمهارات والخصوصيات الشخصية والنفسية للإنسان، لا علاقة لها بالموقع الاجتماعي والسياسي أو القدرة المالية أو المستوى العلمي، ولا يمكن للموقع، أياً كان، أن يعيد تركيب الملكات الشخصية والنفسية، إلّا ما ندر، فقد يبلغ الإنسان أعلى مراتب العلم والمعرفة، لكنه لا يتمتع بالوعي والذكاء الاجتماعي، ولا يكون كريماً، ولا شجاعاً، ولا حكيماً، ولا يمتلك القدرة على الإدارة والتدبير والزعامة، ولا يكون قوي الشخصية.
وتزداد أهمية هذه الملكات ومدخليتها وخطورتها، كلما اقترب الشخص من المناصب ذات العلاقة بالشأن العام، كمنصب رئيس الدولة أو الزعيم الديني والسياسي والحزبي والاجتماعي. وبالتالي، تنعكس الملكات الشخصية على أحكامه وقراراته وسلوكه، وتجعل من نجاحه نجاحاً للجميع، ومن فشله انتكاسة للجميع.
ويدخل موقع الفقيه، وتحديداً الفقيه المتصدّي والولي الفقيه والمرجع الأعلى ضمن هذه المواقع التي تلعب الملكات الشخصية والتكوين النفسي لمن يشغلها، دوراً أساسياً في صناعة الواقع العام؛ لأنّ المرجع ليس مجرد مفتي يقدم الحلول الشرعية النظرية المحضة للأفراد في مجال العبادات والعقود والإيقاعات والمعاملات؛ بل هو زعيم ديني اجتماعي، يمتلك الولاية على الحسبة العامة والنظام المجتمعي.
وينعكس التكوين الشخصي والنفسي للفقيه ـ بشكل وآخر ـ على مسارات توصله إلى الفتوى والحكم الشرعي والقرار ذي العلاقة بالشأن العام. ولا نقول إنّه العنصر الأساس؛ بل هو أحد العناصر الدافعة باتجاه مضمون الفتوى والحكم الشرعي. ولهذه الفتوى أو الحكم أو القرار ـ كما أسلفنا ـ علاقة مباشرة بمصير مجموع المكلفين وأعراضهم ودمائهم وأموالهم؛ بل بمصير الأُمّة. أي أنّ خطورة سايكولوجيا الفقيه تتكرّس في القرارات ذات العلاقة بقضايا الأُمّة والمجتمعات الشيعية في مختلف البلدان وأُمور الحسبة العامة، كأساليب مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، والتعامل مع التحديات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والمعيشية وغيرها. أما انعكاساتها على جوانب العبادات والمعاملات الفردية وعموم الشؤون الشخصية للمكلفين؛ فإنّه ليس بالأمر المهم أو المصيري.
ولا يقتصر تأثير سمات شخصية الفقيه وسيكولوجيته على الفتوى وتسخير الأدلة الشرعية لتوجيه مسار استنباط الفتوى وتسويغ قرار الفتوى السابق على النظر في الأدلة وحسب؛ بل يمتد التأثير إلى ميزان عدالة الفقيه وتقواه أيضاً؛ إذ إنّ سيكولوجيا الفقيه وسمات شخصيته هما اللتان تفرزان تلقائيا مستوى العدالة والتقوى، وحجم القدرة الإدارية والقيادية، ومستوى الوعي والحكمة والكاريزما. ومن الصعوبة اجتماع ملكة العدالة مع صفات مثل الجبن والاستبداد وضيق الصدر والبخل والحسد والتعصب والتهور، أو التسامح المفرط والسذاجة وقلة التدبير وضعف الشخصية؛ إذ تكون العدالة في هذه الحالة مجرد مفهوم فضفاض لا يكبح جماح التأثيرات النفسية والشخصية للفقيه وانعكاساتها على عدالة الفتوى. وبالتالي؛ فإنّ الفقاهة والأعلمية لا تخلقان عند الفقيه ملكة التقوى ولا نزعة العدالة، كما أنّ الأعلمية والتقوى لا تخلقان عنده قوة الشخصية وحسن الإدارة والتدبير والحكمة.
أمّا إذا كان الفقيه شجاعاً مجبولاً بشكل ذاتي على مجابهة التحديات العامة؛ فإنّ تعاطيه مع القواعد والأدلة الشرعية، يتجه ـ عادة ـ نحو إنتاج فتوى شجاعة؛ أي أنّه يكون ميالاً تلقائياً وفي عقله الباطن نحو الأدلة التي تنتج هذا اللون من الفتوى؛ فيسخِّرها في خدمة الفتوى التي يستبطنها عقله الباطن، وإذا اتصف الفقيه بالحكمة ورجاحة العقل والاتزان؛ أُضيفت إلى الفتوى الشجاعة جرعات أساسية من الحكمة والعقلانية والتوازن، وإذا كان هذا الفقيه يتمتع أيضاً بالوعي الدقيق بالمحيط الاجتماعي وبالفهم العميق بالوضع العام والقدرة على تشخيص المصالح والمفاسد؛ فستكون الفتوى الشجاعة الحكيمة مستوعبةً لمصالح المذهب والمجتمع والبلاد بدقة، وإذا كان الفقيه المتصدّي يتمتع بكل تلك الصفات، إضافة إلى صفة التدبير والقيادة؛ فستتحول الفتوى الشجاعة الحكيمة الواعية المستوعبة للمصلحة العامة إلى خارطة طريق عملية يشرف المرجع الديني على حسن تنفيذها. وتصل الفتوى في الشأن العام إلى ذروة تمتعها بعناصر الصحة والانطباق مع مقاصد الشريعة ومصالح الناس، عندما يكون الفقيه مؤمناً باستشارة أهل الاختصاص الحقيقيين في موضوع الفتوى.
الإحالات
(1) أُنظر: لورانس أ برافين، «علم الشخصية». د. حلمي المليجي، «علم نفس الشخصية». كامل محمد عويضة، «علم نفس الشخصية».
(2) المصادر السابقة.
(3) أُنظر: انتوني غدنز، «علم الاجتماع»، ترجمة د. فايز الصباغ. محمد حامد يوسف، «علم الاجتماع: النشأة والمجالات». د. عبدالباسط عبدالمعطي، «اتجاهات نظرية في علم الاجتماع»، ميشيل مان، «موسوعة العلوم الاجتماعية»، ترجمة: عادل الهواري وسعد مصلوح.