سيجارة كنت

سيجارة كنت

امير الداغستاني

2021-02-22T19:04:16+00:00

مازلتُ أذكرها، وهي ترتشف القهوة بهدوء، ثم تورثُ سيجارة الكنت بأناقة، وتطفئ عود الثقاب بنفخة من شفتيها القرمزيتين، تنظر بعينها العسلية نحو أفق مجهول، تتأمل فيها الحياة بتقاسيم وجهها الساحر، كانت تبهرني بشخصيتها وتصرفاتها وبأدق تفاصيلها، كنت انتظر حضورها كل صباح لذات المقهى الذي يقع في نهاية الشارع قرب موقف الباص.

كم كنت أتمنى أن أعرف بماذا تفكر وما الذي يشغلُ بالها، كانت تطل علينا باناقتها ورشاقة مشيتها وحين الدخول من باب المقهى الخشبي تطلب من النادل على الفور ان يشغل  لها اغاني لفيروز، وسرعان ما يستجيب لطلبها دون تردد.

اراقبها عن بعد واقول مع نفسي يالها من انثى غامضة، تمتلك ثقة عالية بنفسها، لا تشعر بمن حولها وكانها تعيش في عالمٍ خياليٍ خاص صنعته لنفسها، في يوم قررت ان احدثها  واتعرف عليها وأُعبر عن اعجابي بشخصيتها، على الرغم من ترددي ومخاوفي ان تردني وتتجاهلني، دنوت وحاولت الوصول الى طاولتها لكني فشلت وعدت لمكاني ولم أجرؤ ان افاتحها بذلك،  لكني شعرت بانها انتبهت لاقترابي منها وانها تجاهلت الموقف واعتبرته شيئاً عادياً لا يدعو الى القلق ولا يستحق التفكير.

قررت تكرار المحاولة مرة اخرى، لملمت شجاعتي وانعطفت يساراً لاكون في مواجهتها كي لا اتردد واعود كما فعلت في المرة الأولى، اقتربت منها وألقيت عليها التحية، صباح الخير، رفعت راسها ونظرت صوبي بنظرة استغراب فأجابت: اهلاً صباح الخير.. قلت :هل تسمحين لي بالجلوس.. اجابت بكل هدوء ودون تردد: تفضل.. كان الارتباك قد سيطر على ملامحي وشعرت بوجهي قد تغير لونه خجلاً، بدأت الملم افكاري المبعثرة، وأسألُ نفسي: من أين أبدأ معها وما الحديث الذي يناسبها.. لاحظت ارتباكي لتبادرني بالسؤال : هل انت من هذا الحي؟، اجبت بتلعثم : نعم نعم، انا ولدت في هذا الحي فنحن نسكنه منذ زمن طويل، وانتِ ؟ .. قالت: انا من مدينة اخرى سكنت قبل عام في الحي المقابل من حيكم لكني دائماً اتردد لهذا المكان لانه يريح النفس، ولاسيما انه يطل على شارع يعجُ بالمارة، واصحاب الحرف، والباعة المتجولين، كما يسعدني سماع فيروز بوجود قهوتي الساخنة وسيجارة الكنت التي اعتدت عليها، فانا اتردد لهذا المكان كل يوم وابقى ساعة او ساعتين ثم اعود الى المنزل الذي اعيش فيه وحدي بعد ان فقدت والدتي منذ عام بسبب مرض عضال اصابها.

قلت: من ينفق عليك اذاً !!؟ .. قالت : أعيش من راتب والدي التقاعدي، فوالدي كان يعمل ضابطاً سابقاً في الجيش وأن ما اتقاضاهُ شهريا يكفيني ويزيد،.

لم اتوقع ان يكون تعارفنا بهذه السهولة ولم اتوقع بانها تمتلك روحاً اجتماعية مرحة، تواصلت لقاءاتنا كل يوم،  وبدأت علاقتنا تتطور مع مرور الوقت، وفي احدى صباحات الاربعاء لم اجدها بمكانها المعتاد في المقهى، استغربت كثيرا لأنها كانت تحرص على التواجد يومياً مهما كانت الظروف، جلست بذات المكان الذي كان يجمعنا كل صباح افكر  بغيابها المفاجئ، طلبتُ من النادل أن يحضر لي فنجان شاي، بعد لحظات وضع على طاولتي الفنجان وسلمني ظرف صغير قال لي؛ ان صديقتك أوصتني أن أسلمك هذه الرسالة، فتحت الورقة مسرعا وقرأت ما فيها من كلمات كانت قد خطتها بأناملها الرقيقة: عزيزي اعتذر لرحيلي المفاجئ، فاعلم أننا لن نلتقي بعد اليوم، لقد سافرت الى مدينة اخرى مع عمي الذي رفض ان اعيش وحدي ورغم محاولاتي بالرفض الا انه أصر على ذلك مما جعلني اضطر ان استجيب لرغبتهِ تلافياً لحدوث مشاكل وتطور الخلاف، شكراً صديقي للاوقات الممتعة التي أمضيناها معاً، وستبقى ذكرى من اجمل الذكريات التي مرت في حياتي.. وداعاً.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon