سَردِيّةُ الرِّبَا، من رِحاب القرآن
شوان زنكَنة
"دراسة حالة"
أولُ ما تلقّى العربُ من أمر تحريم الرّبا الذي كانوا يمارسونه جاء من قوله تعالى: "يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَأكُلوا الرِّبَا أضْعَافًا مُضَاعَفَةً، واتَّقُوا اللهَ لَعلَّكُم تُفلِحُونَ" (آل عمران: 130)1، فنزل عليهم الأمر غريبا، لم يعهدوه من قبل في معاملاتهم التجارية، وقد استهدف النص القرآني تحديدَ طبيعة وكُنْه المعاملة المحرَّمة التي قصدها، فذكر لفظَ الرّبا مُعرَّفا بألف لام التعريف، ليؤكّد أن الرّبا المقصودَ هو ذلك الذي كان معهودا ومعروفا لدى العرب، والذي ورد رسْمه القرآني كالآتي: "الربوا"، للدلالة على معناه الاصطلاحي، وليس اللغوي، ثم بيّن النصُّ حالَه بكلمة "أضعافا"، ونعتَ هذه الكلمة أيضا بلفظ "مضاعفة".. كل ذلك لكيلا يبقى هناك مجال للشكّ في ماهية ما يقصده الشارعُ من هذا النصّ.
ولم يأتِ قولُه: "أضعافا مضاعفة" لتقييد التحريم، وإنما لبيان حال ما كان العرب عليه من العادة التي اعتادوها في الرّبا، فالرّبا، كله محرَّم، قليلا كان أم كثيرا، وفصّل الشوكاني في ذلك أحسن تفصيل، إذ ذكر في فتح القدير ما يلي: (وقَوْلُهُ: "أضْعافًا مُضاعَفَةً"، لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ، لِما هو مَعْلُومٌ مِن تَحْرِيمِ الرِّبا عَلى كُلِّ حالٍ، ولَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ بِاعْتِبارِ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ العادَةِ الَّتِي يَعْتادُونَها في الرِّبا، فَإنَّهم كانُوا يُرْبُونَ إلى أجَلٍ، فَإذا حَلَّ الأجَلُ زادُوا في المالِ مِقْدارًا يَتَراضَوْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ في أجَلِ الدَّيْنِ، فَكانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتّى يَأْخُذَ المُرْبِي أضْعافَ دَيْنِهِ الَّذِي كانَ لَهُ في الِابْتِداءِ، و"أضْعافًا" حالٌ، و"مُضاعَفَةً" نَعْتٌ لَهُ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى تَكْرارِ التَّضْعِيفِ عامًا بَعْدَ عامٍ، والمُبالَغَةُ في هَذِهِ العِبارَةِ تُفِيدُ تَأْكِيدَ التَّوْبِيخِ)2.
واضح أن النص القرآني قصد "ربا الجاهلية" بالتحريم، الذي يتضاعف بسبب التأجيل والزيادة المصاحبة له، وقد أشار إلى ذلك الطبري في تفسيره إذ ذكر ما يلي: (وحدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجلّ: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة" قال: ربا الجاهلية)3. وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره، إذ ورد فيه الآتي: (يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا وَأَكْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -إِذَا حَلّ أَجَلُ الدَّيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْضِي وَإِمَّا أَنْ يُرْبِي، فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ فِي الْمُدَّةِ وَزَادَهُ الآخَر فِي القَدْر، وَهَكَذَا كُلُّ عَامٍ، فَرُبَّمَاتَضَاعَفَ الْقَلِيلُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا مُضَاعَفًا)4.
أمرُ التحريمِ هذا، أحدثَ خللًا في سوق المدينة، فقد فرضَ وضعًا جديدًا غيرَ معتادٍ فيها، مما دفع البعضَ إلى الاعتراض بحجّةِ تشابهِ الزيادة في عملية المداينة الأولى مع الزيادة الثانية الناجمة عن تأجيل الدَّينِ، فنزل الجوابُ من السماء، إذ قال تعالى: "وأحَلَّ اللهُ البيعَ وحَرَّمَ الرِّبَا" (البقرة: 275)
نزل الجواب على الّذينَ أمرهم الشارعُ بأن لا يأكلوا الرّبا، بنفس صيغة الخطاب، فوصفهم بقوله: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" (البقرة: 275)، وذكر تخبطهم بقوله: "ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا" (البقرة: 275)، ثم أجاب على التخبط بقوله: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" (البقرة: 275).
وهنا، لا بدّ من وقفةِ تأملٍ لفقهِ ما حدثَ في عهد الرسالة لسرديّة الرّبا، وَفْقَ ما وصلنا من نصوص تأريخية.. ومن خلال المسائل التالية:
المسألة الأولى: النصُّ القرآنيُّ في سورة آل عمران هو الذي حرّمَ الرِّبا الذي كان معهودا في الجاهلية، والذي ذكرَه الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم في خطبة الوداع، وسماه "ربا الجاهلية"، إذ قالَ:(رِبا الجاهِليّةِ مَوضوعٌ، وأوّلُ ربًا أَضعُ هو رِبانا، رِبا عبّاسِ بنِ عبدِالمطّلب فإنّه موضُوعٌ كلَّه)5.
المسألة الثانية: تكادُ الآثارُ الواردة في بيان مفهوم الرّبا الذي كان العرب يمارسونه تتّفقُ على أن رِبا الجاهلية يتحقّقُ بتأجيل دَيْنٍ مُستحَقٍّ بالذّمة إلى أجلٍ جديدٍ، وبزيادةٍ جديدةٍ، وهذا يقتضي وجود معاملةِ مُداينةٍ حلَّ أجلُها، وتعرّضت للإعسار، فتم تأجيل سدادها إلى أجلٍ جديدٍ، وبزيادةٍ جديدةٍ، وهذا يعني، أن رِبا الجاهلية لا يتحقّق إلا بأن يكون قد سبقه دَينٌ بالذّمة تعثّر صاحبُه في السّداد.
المسألة الثالثة: احتضنت الآثارُ في متونها أربعةَ ألفاظ وصفتْ معاملةَ المُداينةِ الأولى، وهي: البيع، والمال، والحقّ، والدَّين، كما هو واضح من الآثار التالية:
* ذكرَ القُرطبيّ في "الجامع لأحكام القرآن" تفسيرَ الآيةِ: "ذلك بأنَّهم قَالوا إنّما البَيعُ مثلُ الرِّبَا، وأحَلَّ اللهُ البَيعَ وحَرَّمَ الرِّبَا" (البقرة: 275) كما يَلي: ("إنّما البيعُ مِثْلُ الرِّبَا" أي: إنّما الزّيادةُ عندَ حلولِ الأجَلِ آخِرًا كمِثْلِ أصْلِ الثَّمنِ في أوّلِ العَقدِ، وذلك أنّ العربَ كانت لا تعرفُ ربًا إلّا ذلك، فكانت إذا حَلَّ دَينُها قالتْ للغَريمِ: إمّا أنْ تَقضِي، وإمّا أنْ تُرْبِي، أي: تَزيدُ في الدَّينِ. فحَرَّمَ اللهُ سبحانَه ذلك وَرَدَّ عليهِم قولَهُم بقولِهِ الحقّ: "وأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّمَ الرِّبَا"، وأوضحَ أنّ الأجَلَ إذا حَلَّ ولم يكن عنده ما يُؤدِّي أُنظِرَ إلى الْمَيسَرةِ. وهذا الرّبا هو الذي نَسخَهُ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله يوم عرفة لَمّا قالَ: " ألَا إنَّ كلَّ رِبًا مَوضُوعٌ، وإنّ أوّلَ ربًا أَضَعُهُ رِبَانا، رِبا عباسِ بنِ عبد المطلب، فإنه مَوضُوعٌ كلُّه")6.
* وذكرَ مَالِكُ في الْمُوَطَّأِ ما يَلي: (عن زَيدِ بنِ أَسْلَم أنَّه قال: كان الرّبا في الجاهِليّة، أنْ يكون للرَّجل على الرَّجل الحقُّ إلى أجلٍ، فإذا حَلَّ الأجَلُ، قال: أَتَقضِي أَم تُربِى؟ فإن قضى أخذَ، وإلاّ زادَه في حقِّه، وأخَّر عنه في الأجل)7.
* وقد وردَ في كتاب " الدرُّ المنثُورُ في التّفسيرِ المأثُورِ" ما يَلي: (وأخرجَ ابنُ جَرير عن قَتَادَة أنّ رِبا أهل الجاهِليّة، يَبيعُ الرَّجلُ البَيعَ إلى أجل ٍمُسمَّى، فإذا حَلَّ الأجلُ ولم يَكُنْ عند صاحبِه قضاءٌ زادَهُ وأخَّرَ عنُه)8.
* وقال التابِعيُّ المفسِّر مُجاهِد بنِ جَبْرٍ المكِّيّ في تَفسير الآية 130 من سورة آل عمران كما وردَ في تَفسير القُرطُبيِّ: (كانوا يَبيعون البيعَ إلى أجلٍ، فإذا حَلَّ الأجَلُ زادُوا في الثَّمن على أن يُؤَخِّروا؛ فأنزلَ الله عزّ وجَلَّ: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الرّبا أضعافاً مضاعفةً")9.
* وذكرَ الطَّبريّ في تفسيرِه: (وذلك أنّ الذين كانوا يأكلون من الرِّبا من أهل الجاهِليّة، كان إذا حَلَّ مالُ أحدِهم على غريمه، يقول الغَريمُ لغَريمِ الحقِّ: "زِدني في الأجَل وأزيدُك في مالِك". فكان يُقالُ لهما إذا فَعلا ذلك: "هذا رِبًا لا يَحِلُّ ". فإذا قِيل لهما ذلك قالا "سواءٌ علينا زِدنا في أوّل البَيع، أو عند مَحِلِّ المالِ"! فكذَّبهم اللهُ في قِيلِهم فقالَ: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ")10.
ورودُ الآثارِ بألفاظٍ متعدّدة لطبيعة المُداينات تشير إلى أن العرب كانوا يتداينون بالنقود والسّلع والمنافع، ويمارسون البيوع الآجلة والسلم والإجارة، ويقومون بكافة الأنشطة الاقتصادية، كالتجارة، والبيوع، والزراعة، وغيرها11، وقد عبّر الشارعُ، في النص القرآني، عن كل ذلك بـ "البيع".
المسألة الرابعة: شبّهَ آكلوا الرِّبا، في النص القرآني، ما يحصلون عليه من الزيادات في مدايناتهم وبيوعهم الآجلة، والتي سموها "البيع"، بالزيادات التي يحصلون عليها من تأجيل تلك الدُّيون إلى آجال جديدة، والتي سموها "الربا"، مُعتبِرين الزيادتين حقا من حقوقهم الاقتصادية بسبب تمويلهم المَدِينَ، وإمهاله فترة من الزمن، وأجابهم الشارع، بنفس لغتهم، فأقرَّ جوازَ الزيادة في مدايناتهم، وحرّمَ الزيادةَ في تأجيلها، "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة" 275)
المسألة الخامسة: واضح من النصوص القرآنية، أن رِبا الجاهلية هو عقد ثان، ينشأ من عقد مداينة مالية (نقد، أو سلعة، أو منفعة) تم تنفيذه ابتداءً، وتراضى فيه الطرفان على زيادة معلومة، ثم تعذّر سدادُه حالَ حلولِ الأجلِ، واتفق الطرفان على تأجيله فترة زمنية أخرى، لقاء زيادة معلومة ثانية. هذا التأجيل، بهذه الزيادة الثانية، هو رِبا الجاهلية الذي حرّمه الشارع، حُرْمةً قَطعيةً.
المسألة السادسة: الآية: "وأحَلَّ اللهُ البَيعَ وحَرَّمَ الرِّبَا" نزلتْ ردًّا على مقولة آكلي الرّبا حينما قالوا: إنما البيع مثل الربا، ولم تأتِ لبيان حكم إباحة البيع، فهو مباح بالفطرة، ولا يحتاج إلى نزول آية لبيان إباحته، ولا لبيان حرمة الربا لأن الشارع حرّم الربا سابقا، في الآية 130 من سورة آل عمران، وأوضح الزحيلي هذا المفهوم الأصولي (دلالة النص) في كتابه "الوجيز في أصول الفقه" كما يلي: (فقولُه تعالى: " وأحَلَّ اللهُ البَيعَ وحَرَّمَ الرِّبَا" نصٌّ يدلُّ على نفي التماثل بين البيع والرّبا في الحِلِّ والحُرمَةِ، وهو معنىً مُتبادَر فَهمه من اللفظ، ومقصودٌ أصالةً من سياقه، لأنه جاء للردّ على اليهود القائلين فيما حكاه القرآن، إنما البيع مثل الرّبا)12.
هذه المسائل الستة، تَسرُدُ، مع ما سبقها من بيان، طبيعةَ العلاقة بين الآية: "يا أيّها الّذينَ آمَنوا لا تأكُلوا الرِّبا أضعافًا مُضاعَفةً، واتَّقُوا اللهَ لعلَّكم تُفلِحون" (آل عمران: 130)، والآية: " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا * وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا * فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ * وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ * هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 275).. إذ جاء الأمر بالتحريم في الآية الأولى، وجاء الرد في الآية الثانية على من اعترضوا على التحريم، والّذينَ شبّهوا زيادة المداينة الأولى بزيادة الرّبا في معاملة تأجيل المداينة، فأجاز الشارعُ الزيادة الأولى وحرّم الزيادة الثانية، وهذا دليل قاطع على أن عِلَّةَ تحريم الرّبا ليست الزيادة، لأن الزيادة وقعت في العقدين، بينما فرّقَ الشارع بينهما، فأجاز العقد الأول وحرّم العقد الثاني.
أمّا آياتُ سورة البقرة التي وردت بعد الآية 275، فهي تسرُد قصةً أخرى غير التي تم بيانها آنفا، فقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ" (البقرة:278-279)
وفي سبب نزولها، ذكرَ ابنُ جرير الطبريُّ في تفسيره "جامع البيان" ما يلي: (قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ، اسْتُعْمِلَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبَى بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمُ فِي الْإِسْلَامِ، وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَكَتَبَ عَتَّابٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" (البقرة: 279) إِلَى: "وَلَا تُظْلَمُونَ" (البقرة: 279)، فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ: (إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَآذِنْهُمْ بِحَرْبٍ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: "اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا" (البقرة: 278))13.
معلومٌ أن المُداينات لها آجال، وأنها تستغرق فترة من الزمن قبل تصفيتها، فحينما أسلمتْ ثقيفُ بعد غزوة حُنين في السنة الثامنة للهجرة، اتفقتْ مع الرّسولِ صلّى اللهُ عليه وسلّم على تصفية ما لها وما عليها من الرّبا المفروض على بقايا ديونها التي كانت عالقة حتى ذلك الحين، ويبدو أن كثرة أموال الرّبا أغْرَتْ حديثي الإسلام من أرباب الدُّيون من بني عمرو، من ثقيف، فطالبوا رباهم من بني المغيرة، على خلافِ ما صالحوا عليه النبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم، فنزلت الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ" (البقرة:278-279)، فذكّرتهم بالتحريم، وأمرتْهم بتصفية ما تبقّى من أموال الرّبا، والاكتفاءِ بأصول دُيونهم، قبل إضافة الزيادات الرِّبَويّة عليها، تحقيقًا للعدل، واستجابةً للأمر الرباني، وإلا فهي الحرب لا محالة.
واستمرّ السياق القرآني في سرديّته للرّبا، ففي الوقت الذي حرّم فيه الزيادة الرِّبويّة على الدَّينِ حين الإعْسار، أمرَ بإنظار المُعْسِرِ حتى يَتيسّر حالُه، واعتبرَ ذلك تَصدُّقًا عظيمًا، وخيرًا كبيرًا، لا يُضاهى، فقد قال تعالى: "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ * وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ * إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 280).. نَستقي هذه المعاني، وبجلاء، من الآثار الواردة في تفسير هذه الآية، والتي نَعرِضُها كالآتي:
* عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ14.
* عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانَ تاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفِتيانِهِ: تَجاوَزُوا عَنهُ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنَّا. فَتَجاوَزَ اللهُ عَنهُ"15.
عَنْ حُذَيْفَةَ، "أَنَّ رَجُلًا أَتَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَرْجُوكَ بِهَا. فَقَالَهَا لَهُ ثَلَاثًا، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: أَيْ رَبِّ، كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي فَضْلًا مِنْ مَالٍ فِي الدُّنْيَا، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي أَتَجَاوُزُ عَنْهُ، وَكُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِر، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. فَغُفِرَ لَهُ". فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ16.
واضحٌ من النصوصِ أعلاه، أنّه هناك تاجرٌ أنعمَ اللهُ عليه بالمالِ الوفيرِ، فاستخدمَه في تجارته التي كانت على شكل ديونٍ وبُيوعٍ آجِلَةٍ، وكان يُنظِرُ المُعْسِرَ ويَتساهَلُ مع المُوسِرِ، فَيكتَفي بالرِّبحِ الذي يَجْنِيهِ من هذه المُعاملاتِ الآجِلَةِ، ويَتجَنَّبُ الرِّبا المُحَرَّمَ الناتِجَ عن جدولة الدين، وعدمِ إنظَارِ المُعْسِرِ، فاسْتَحَقَّ العفوَ عن ذنوبِهِ، والفوزَ بالجنّةِ.
وخلاصة القصة: حرّم الله الربا بالآية 130 من سورة آل عمران، وردَّ على اعتراض آكلي الرّبا، الذين شبّهوا الزيادة الحاصلة في مُدايناتهم بالزيادة الناجمة عن جدولة هذه المداينات، بالآية 275 من سورة البقرة، ثم نزلت الآيات 278-279 منها لتصفّيَ ما بقي من الربا ومتعلقاته، واعقبتها الآية 280 من سورة البقرة التي أمرت بإنظار المُعْسِرِ، وبيّنتْ أن إنظاره، وعدم إثقال كاهله بالربا، صدقة للدائِن، وخير كبير، وبعبارة أخرى، يمكن القول "أن الله جل جلاله حرّم الربا بالآية 130 من سورة آل عمران، وضبط إيقاعه وتطبيقه بالآيات الأخيرة من سورة البقرة، ثم اسدل الرّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم الستار عليه، في حِجّة الوَداع، قبل وفاته بحوالي ثلاثة أشهر.
الهوامش والمراجع
1- أشار إلى ذلك الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير"، إذ ذكر فيه ما يلي: "ويَظْهَرُ أنَّها أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في تَحْرِيمِ الرِّبا، وجاءَتْ بَعْدَها آيَةُ البَقَرَةِ، لِأنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الآيَةِ تُناسِبُ ابْتِداءَ التَّشْرِيعِ، وصِيغَةُ آيَةِ البَقَرَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ الحُكْمَ قَدْ تَقَرَّرَ، ولِذَلِكَ ذَكَرَ في تِلْكَ الآيَةِ عَذابَ المُسْتَمِرِّ عَلى أكْلِ الرِّبا. وذَكَرَ غُرُورَ مَن ظَنَّ الرِّبا مِثْلَ البَيْعِ". ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984م) ج4، 86
2- الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير، ط2، بيروت: دار الكلم الطيب، 1998م، ج1، 436
3- الطبري، محمد بن جرير، تفسير الطبري، مكة المكرمة: دار التربية والتراث، بلا تأريخ، ج7، 204-205
4- ابن كثير، إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، ط1، بيروت: دار ابن حزم، 2000م، 399
5- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ج2، 886.
6- القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، ط1، بيروت: دار الرسالة، 2006م، ج4، 393
7- ابن أنس، مالك، الموطأ، ط 2، بيروت: دار العرب، 1997م، ج2، 204
8- السيوطيّ، جلال الدين، الدر المنثور في التفسير المأثور، بيروت: دار الفكر، 2011م، ج2، 104-105
9- القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، ط1، بيروت: دار الرسالة، 2006م، ج5، 310
10- الطبري، ابن جرير، تفسير الطبري، ط1، القاهرة: دار هجر للطباعة،2001م، ج5، 43.
11- ينظر، كتاب البيوع في كتب الفقه، وباب المعاملات في كتب المعاملات المالية الإسلامية
12- الزحيلي، وهبة، الوجيز في أصول الفقه، ط1، دمشق: دار الفكر، 1999م، 176
13- الطبري، ابن جرير، تفسير الطبري، ط1، القاهرة: دار هجر للطباعة،2001م، ج5، 49
14- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ط2، بيروت: مؤسسة قرطبة، 1994م، ج10، 320-324
15- العسقلاني، أحمد بن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، الرياض: دار طيبة، 2005م، ج5، 533
16- ابن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1999م، ج28، 296