رواية «الطاعون»: أسئلة فلسفية عن الموت والقدر والإنسان
إدريس سالم
على نقيض رواية «الغريب» التي تدور حول شخصية «مارسو»، البطل والراوي. إنه الغريب/ اللامنتمي، والذي يتصرّف مع عوالمه الذاتية المستغلقة بإحكام أمام أي إمكانية انفتاح أو تعاط مع العالم الخارجي، إذ يتفاعل مع محيطه على نحو آلي جامد، فيبدو غير آبه بما يدور حوله من أحداث وأفكار مرتبطة ومتفاعلة بالشخوص والعلاقات فإن رواية «الطاعون» تعد أكثر روايات «ألبير كامو» انهماكاً بالشأن العام، وتناولاً له. هي رواية خيالية عبثية تعتري الوجود الإنساني، والموت الذي يترصّد الجميع – أفراداً وجماعات – والذي لا يمكن رصده ولا التنبؤ به.
يروي «كامو» في روايته «الطاعون»، الصادرة عام 1947م، والحائزة على جائزة «نوبل» للآداب أحداث انتشار وباء الطاعون في مدينة وهران الجزائرية الهادئة, والعزلة المميتة التي عاشها سكان المدينة عن العالم الخارجي وفقدان خدمات الحياة اليومية؛ لانتشار هذا الوباء.
يسرد كامو أحداث الرواية التي تبدأ في صبيحة السادس عشر من أبريل/ نيسان على لسان شاهد غامض، حين يرى الطبيب «برنارد ريو» ذلك الجرذ اللعين ميتاً أمام عتبة البناء الذي يسكن فيه. لم يعره أدنى اهتمام حينها، حيث اكتفى بإلقاء نظرة عليه ثم قام بركنه جانباً، لكن وبعد تكرار حوادث موت الجرذان يبدأ الطبيب بالتساؤل «أمن المعقول أن يكون الطاعون...؟!».
أيام قليلة فقط ويبدأ الموت يدبّ إلى الناس أيضاً، وتزداد الوفيات يوماً بعد آخر، ولا أحد يجرؤ أن ينطق باسم ذلك الوباء المفجع، لكن حين تصل الوفيات إلى حدود اللا معقول، يعترف الناس بالحقيقة المفجعة أخيراً «المدينة مصابة بالطاعون»، وهنا تُسيّج المدينة، وتغلق منافذها تماماً، وتعزل عن العالم الخارجي.
إن أكثر الشخصيات جدلاً فلسفياً هي شخصية الطبيب «ريو»، والذي يبدو أنه البطل الذي اختاره «كامو» لروايته، وذلك لدوره في مواجهة الطاعون، حتى في الحالات التي يتملّكه اليأس، ويبدو له أن ليس ثمة أمل بالنجاة، إذ يواصل «ريو» أبحاثه مدفوعاً بما يسمّيه بالواجب الأخلاقي، حيث يجسّد النموذج الذي سيحمل أعباء البشرية على عاتقه، ويكافح في سبيل تحقيق الخلاص الجماعي!
فالطبيب يمثّل مشاعر الثبات والعقلانية، وهو الشخص الذي يعلم خطورة الطاعون، ومع ذلك لا تزال مشاعره ثابتة؛ بسبب تعرّضه لأكثر من حالة مصابة يومياً، ومواجهته للهلع والخوف كل يوم، حتى أصبحت الحالة في المدينة لا تعنيه وإنما ينتظر الموت أو فناء المدينة بثبات.
ثاني أكثر الشخصيات إثارة للجدل هي شخصية الشابّ «جان تارو»، الذي يجمع ما بين السخرية الصارخة من الواقع العبثي والحزن العميق على المصير الإنساني، فهو يجسّد ما يسمّيه «كامو» بالحزن الفلسفي في هذا العالم واللا جدوى بصورتها المأساوية، إلا أنه لم يكن غير مبال بالمصير الإنساني، بل إنه كان يتألّم له حتى النخاع، فهو كان شخصية محبّة للفضيلة والعطف والمساعدة من أجل إنقاذ الإنسان، حيث تطوّع تحت قيادة الطبيب «ريو» وفي الوقوف في وجه الطاعون.
فهذه الشخصية تمثّل مرحلة الأمل حتى في أشدّ الحالات خطورة. يجمع فريقاً من المتطوعين، ويعمل تحت إشراف الأطباء، حتى يبدو أنه أكثر منهم حماساً وشغفاً بإنقاذ الأرواح، مع علمه الكامل بالطاعون والحصار القصريّ، وهو من الحالات الشاذة وسط المدينة التي تقع تحت طائلة الخوف أو اللامبالاة.
ثالث الشخصيات تفاعلاً، هي شخصية الصحفي الفرنسي «ريمون رامبرت»، فهو يمثل حالة الأمل، ليس فيما يتعلّق بالطاعون هذه المرة، بل بالسعي نحو الخروج من المدينة المشؤومة، يحاول ويحاول بكلّ الطرق القانونية وغير القانونية، عبر التودّد والإقناع بأهمية خروجه، ويمثل هذا الصحفيّ شعور الأنانية المفرطة الممتزجة بالكفاح.
أمام هذه الوضعية المأساوية يستحضر «كامو» سؤال الحالة البشرية في مواجهة الشرّ المطلق، ويكشف عن عمق الشعور الإنساني تجاه الأوبئة القاتلة:
- كيف يفكّر الشخص المصاب والمعافى والسليم، ويستفهم؟
- وكيف يشكّ إلى أن يختلّ يقينه؟
- وكيف يخاف ويقلق إلى حدّ الارتعاب؟
- وكيف يحبّ إلى درجة التماهي؟
- وكيف يقطع العلائق إلى حدّ التوحّد والعزلة؟
- وكيف يكبر الجشع في دواخله إلى حدّ فرحه باقتناص الفرنك من أحشاء الألم، أو الهروب من الواقع؟
- وكيف يطرح الدين نفسه كجدلية هامة؟
- والأهم كيف يتفاعل مع الإله باعتباره المبتلي والمنقذ؟
كما في عمله «الغريب» يكون الحدث الرئيسي هو قدر مفاجئ، إذ تجد الشخصيات نفسها مضطرة للتعامل والتعايش معه وقبوله, فكانت وهران مدينة قاسية لتحضن مرضى الطاعون، فليست مدينةً من تلك المدن التي يفضّل المرء أن يمرض بها، فهي جافة وقاسية والحياة فيها شاقة أو معدومة في الأحوال العادية.
سرد «كامو» كل ذلك ببراعة واقعية وببرود غريب في نفس الوقت، شيء ما في طريقة السرد ينقل إليك شعور اللامبالاة التي أصابت سكان وهران, وجعلتهم يتقبّلون الموت كحدث يومي، ويهرعون للتلذّذ ببقائهم على قيد الحياة ونسيان الأموات الذين يسرقون تلك السعادة.
رواية «الطاعون» هي تجسيد لفلسفة «ألبير كامو»، والتي تتمحور حول فكرتين أساسيتين هما «التمرّد والعبثية»، وهي في الوقت نفسها تطرح رؤية حول الموت والوجود، وأسئلة فلسفية تتعلق بماهية القدر والوضعية الإنسانية، إذ بعد عشرة أشهر قاسية ومرعبة يبدأ وباء الطاعون بالاختفاء بفضل تكاتف الجميع وسعيهم لتحقيق خلاصهم الجماعي، إذ نجح الطبيبان «ريو» و «كاستيل» بإنتاج مصل مضاد أعطى مفعولاً في وجه الطاعون، ليترقب «ريو» نشر الإحصاءات العامة التي كانت تذاع في مطلع كل أسبوع، فإذا هي تكشف عن نهاية الوباء.
أخيراً، هذه بعد الاقتباسات التي أختم بها هذه القراءة الأدبية:
- هل الصحفي عليه قول الحقيقة كاملة؟
- حين تقع الحرب الناس يظنّون بأنها لن تستمرّ طويلاً.
- لا حرّية للإنسان بوجود الأوبئة.
- الميّت لا حساب له عندما تنشب الحروب.
- الطاعون لا يصيب أصحاب البنية الضعيفة، بل أصحاب البنية المتينة.
- الخمر الجيد يقتل الجراثيم.
- الطاعون لا يدفع ثمن ما يأخذ.
- لغة العقل ولغة البرهان... مختلفتان.
- الطاعون وسيلة إلهية فعّالة للحصول على السعادة الأبدية.
- البرد هو العدوّ الأوحد للطاعون.
- بما أن الموت هو مَن يقرّر مصير العالم، أليس من الأفضل «لله» ألا يؤمن به الناس؟
- الدمامل وسيلة الجسم الطبيعية لطرح فساده إلى الخارج.
- طريق الوصول لراحة النفس هو العطف.
- يربح الإنسان في الأوبئة والحروب المعرفة والذكرى.
ويبقى أن نقول – رغم فوارق القضيتين – أن الطاعون المتفشّي في جسد القضية الكوردية – السورية؛ ناتج عن عدم امتلاك قادته وساسته البصر والبصيرة، ففي كل محفل دولي وفرصة تاريخية يضرب الطاعون المدن والقرى والوجود الكوردي، ويفاجئ شعبه المغلوب على أمره منذ عام 1957م، الذي ينتظره ويعرف أنه سيهجم عليه في كل لحظة أو فرصة تتاح له.
الطاعون ليس في الخارج أيّها الكورد بل إنه في الداخل، وأنتم الذين أسهمتم في صنعه، عندما أخذتكم الحميّة العشائرية والحزبية وعدم الرجوع إلى التاريخ وقراءته قراءة صحيحة، عندما جعلتم الملّة قبل الوطن، عندما قبلتم بفساد نصف الأحزاب، ورأيتم السجون تُتْرع بالشبان، عندما انتظرتم غيركم ليخلّصكم من شرور أبنائكم العُصاة.