رسالة إلى وزير المالية العراقي

رسالة إلى وزير المالية العراقي

شوان زنكَنة

2020-12-21T08:19:33+00:00

    لا جَرمَ أنكم، يا سيادة الوزير، خبيرٌ اقتصاديٌّ مُتمرِّسٌ، وباعُكم في الاقتصاد طويلٌ، ولا أشكُّ البَتَّة في علمكم الأكاديميّ والمهنيّ، وفهمِكم المُستَفيض للواقع الاقتصاديّ والسياسي للعراق..ولكنّني، في الواقع، أشكُّ في إرادَتِكم، وإدارَتِكم لعملية الإصلاح الاقتصادي، من خلال ورقةٍ سُمِّيتْ بيضَاءَ ، رغمَ إعدادِها في غرفٍ مظلمة سوداء، من قِبَلِ خبراء ومُختصّين ضمن توجيهات صندوق النقد الدولي وذراعه البنك الدولي.

    لستُ، يا سيادة الوزير، مُعترِضَاً على تعاونكم مع صندوق النقد وبنكه الدولي، ولكنني أعترضُ، كعراقيّ، وهذا من حقي ومن واجبي، على إملاءات الصندوق وبنكه، وفرض إرادته عليكم ، وإعداد ورقة سوداء، تبدأ بخلق ركود وكساد وتنتهي بإعلان الإفلاس، والانفجار الاجتماعي الذي سَيوُؤل إلى التّشَظّي السياسي. وسيذكر التأريخ فعلتَكم الخطيرة هذه..كلُّ ذلك وإرادة سيادتكم غائبة عن المشهد، فلم تضع بصمتها العراقية لمنع الأسوأ أو طرح البديل.

    أمّا شكِّي في إدارتِكم لعملية الإصلاح الاقتصادي، فأبيِّنُه في النقاط التالية:

1- تخفيضُ قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار بنسبة 22%، بقرار حكومي، وبجرَّة قلم، بعيداً عن ضوابط السوق الحر وقواعد العرض والطلب، فحرَّم القدرةَ الشرائية للمواطن من 22% من قوّتِه على الأقل، وبالتالي، فكلُّ مواطنٍ يصحو يوم الأحد الموافق 20/12/2020 سيجدُ أنّ ثروتَه ذابتْ بتلكم النسبة التي خطَّها قلمكم، نعم، يا سيادة الوزير، أتفهّم حاجتكم الماسّة للسيولة النقدية لسدّ جزءٍ مهمٍ من العجز في الميزانية العامة، والتي أعتقد أنكم كنتم قادرين على تلافيه بوسائل أخرى، سأُبيِّنُها لاحقاً.

2- الطبقةُ الهشّة من المجتمع العراقي سيَتأثَّر سلباً- كما تفضّلتم- بهذا التخفيض وبنسبة أعلى من نسبة التخفيض ، ولو أضفنا الى ذلك تراجُع مواردها المالية، سواءاً كرواتب، أو كعائداتٍ تجارية، في مُوازاة ارتفاع أسعار السلع، كون معظمها سلع مستوردة، فإننا حتماً سنجد أنفسنا أمام كساد عظيم يحلُّ بالعراق بَدأًمن السنة القادم، ولن أضعَ جانباً ما تفضّلتم به من دعم الطبقة الهشّة المُهمَّشة، ولكن، يا سيادة الوزير : أتعلمُ كم هو حجم 

 

هذه الطبقة المهمّشة؟!. إنّه كل الشعب العراقي، بإستثنائكم، والطبقة السياسية، والشلّة الاقتصادية المُلتفَّة حولها، والتي أثقلت كاهل الاقتصاد العراقي .. فهل تستطيعون إشباع هذا الشعب وتدارك حاجاته الأساسية؟.وبأي مورد مالي؟. خاصة وأنكم اخترتم هذه الأداة السيئة من أدوات السياسة النقدية بسبب شحّة الموارد المالية.

3- إيعازُكم للبنوك الحكومية والخاصّة برفع معدل سعر الفائدة، إجراء يتناسب –إقتصادياً- مع سعيكم للتقليل من آثار التضخم التي ستَنتُج عن هذا التخفيض، ولكن، يا سيادة الوزير، أظنّكم لا تغفَلون عن أن المواطن العراقي عازف عن العمل مع البنوك، لذلك أكاد أجزم أن هذا الإجراء سوف لا يجلب نفعاً للمواطن بإتجاه تخفيض نسبة التضخم، بقدر ما سيجلبه من أرباح إضافية لهذه البنوك، في مقابل عزوف المستثمرين عن الإقتراض من هذه البنوك بسبب ارتفاع معدلات سعر الفائدة، وبالتالي خلق جو من الركود الآيِلِ إلى الكساد.

4- السياسةُ النقديّة (سعر الصرف وسعر الفائدة)، وحدها غير كافية في عمليات الإصلاح الاقتصادي، بل يجب أن تأتي هذه الإجراءات النقدية في موازاة سياسة مالية منسجِمة معها ومُعزِّزة لهافلا بُدّ من عمليات تنويع الموارد ، وترشيد الإنفاق، ودعم الإنتاج .. وقد قرأتُ كلاماً إنشائياً طويلاً بهذا الخصوص في الورقة التي سمّيتُموها بالبيضاء، ولكن يبدو أن مُعظمَه غير قابل للتنفيذ على المدى المنظور.

5- صرّحتم أن من منافع هذا التخفيض هو توفير فرص عمل جيدة، وحتماً، جنابكم يقصُد التوظيفَ الحكومي، إذ أن القطاع الخاصّ مشلول، ولن يقوم على رِجليه في المدى المنظور.. وهذا يعني بِلُغَتِنا العراقية، توزيع الدرجات الوظيفية على الأحزاب السياسية المُتنفِّذة، عشيّة الانتخابات البرلمانية القادمة، وفتح باب فساد آخر يُثقِلُ كاهلَ الحكومة، تَحملون أنتم شخصياً وِزرَه.

6- سياستُكم النقديّة، يا سيادة الوزير، وبهذا الأسلوب التعسُّفي على السوق، بموازاة عدم وضوح سياسة مالية من خلال عدم وجود إجراءات عملية قابلة للتنفيذ في مجال زيادة الإنتاج، وتحسين كفاءة تحصيل الضرائب، وأجور الماء والكهرباء، والجمارك، وغيرها، ناهيك عن الإنفاق غير المُبرَّر..هاتان السياستان خلقتا سياسة اقتصادية مَبتورَة، وهيكلاً اقتصادياً مشوهاً - كما وصفَه البنك المركزي - ، يستوجِب إرادةً فاعلة وإدارةً كفُوءَة ، في وضع الخطَط الحقيقية الواقعية القابلة للتنفيذ على المدى المنظور.

7- ذكرتُم أن أعضاء البرلمان ورؤساء الكتل السياسية، لديهم علمٌ بالاتجاه الذي سلكتُموه، وهذا صحيح، وليس بغريب، فقد إعتَدْنا منهم أن يقولوا ما لا يفعلون، وأن يثيروا الزوابع في الفناجين، لذا كنتم واثقين من نفسكم حينما قررتم ونفذتم، في ظل دعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي .ولكن كل ذلك لا يعني أنكم على صواب، فقرارُ التخفيض، وما دَوَّنتُموهُ في ما تُسمُّونَه " ورقة بيضاء"، ليس هو الأكفأُ والأجدى والأنسب للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العراقي.

ولعلّكم تسألونني: أن لم تكن إجراءاتنا ليست صوابا ولا اكفأ، فما هو الصواب والأنسب عندكم؟.أجيبكم، يا سيادة الوزير: أن الإجراءات التالية هي الأجدى والأنسب:

1- إقتراضُ مبلغ قدره 50 مليار دولار، بفترة سداد ما بين 12 شهراً إلى 60 شهراً، حسب مصادر التمويل، ويتم السداد شهرياً من خلال استقطاع 10-15% من رواتب الموظفين شهرياً، على أن يتم إعتبار هذا الاستقطاع دَيْناً في ذمّة الحكومة لصالح الموظفين، تقوم الحكومة بسدادها بعد انتهاء الدَّين مع فوائدها .. وبمعنى آخر.. قرضٌ بضمان رواتب الموظفين، وهذا يُسهّل عملية التمويل كثيرا. وأما مصادر التمويل فهي :

أ- الاقتراض الخارجي

ب- الاقتراض الداخلي

ج- سندات وأذونات الخزانة

د- صكوك المُدَخَّرات ( هي صكوك تصدرها الحكومة بعوائد مجزية وذلك لجذب الأموال المُدخرة لدى المواطنين)

ه- صكوك إجارة، وصكوك إجارة تؤول إلى التمليك

2- سيتم صرف هذا القرض باتجاهين:

الأول: دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين والإعانات الاجتماعية لمدة سنة واحدة.

الثاني: يصرف المتبقي من القرض مع إضافة الموارد العامة للسنة المقبلة، في تعزيز السياسة المالية، ودعم الإنتاج وتحسين وتطوير أساليب تحصيل الجمارك والضرائب والواردات الأخرى.

3- تُباشرُ الحكومة فوراً بإنشاء مصفى للنفط وآخرَ للغاز، بهدف توفير منتجات للمحطات الكهربائية ودعم الإنتاج الصناعي والزراعي بأسعار رمزية.. وذلك من خلال تأسيس شركة برأسمال اسمي رمزي مدفوع من قبل الحكومة، على أن يتم عرض أسهمها للاكتتاب العام، ويتم انتخاب إدارتها من قبل الجمعية العامة للمساهمين. هذا المشروع سيوفر طاقة كهربائية دائمة وبأسعار رخيصة، للمواطنين والشركات والمستثمرين.

4- توفير كل المستلزمات من أجهزة وكوادر فنية، وذلك لتطوير شركة الحفر الوطنية، وتهيئتها لتحمل أعباء الحفر والإنتاج، لتَحُلَّ محلّ الشركات الأجنبية وإلغاء عقود التراخيص النفطية والغازية، وتوفير ما لا يقل عن 10 دولارات عن كل برميل، إلغاء هذه العقود سيوفر للخزينة ما لا يقل عن 3 مليارات دولار سنويا، إلغاء هذه العقود لا يحتاج إلا إلى إرادة حقيقية وجرأة الوقوف أمام شركاء هذه الشركات المحليين.

5- إجراءُ تغيير فوري في قيادة الجمارك، والمنافذ الحدودية، ورطبها إلكترونيا بمكتب رئيس الوزراء مباشرة، ووضعها تحت الرقابة اليومية، وتحريرها من تسلّط وسلب ونهب الجهات المتنفذة فيها، هذا الإجراء سيوفر ما لا يقل عن 5 مليار دولار سنويا .

6- القيام بتنفيذ مشاريع البنى التحتية، ومشاريع الإسكان والإعمار، بهدف تنشيط السوق، وتوفير فرص العمل، وذلك من خلال مصادر التمويل التالية :

أ- تخصيصات الميزانية العامة وما تبقى من القرض .

ب- طريقة الإجارة التي تؤول إلى التمليك، في مشاريع إنشاء المدارس والمستشفيات والأبنية الحكومية

ج- الاستثمار

د- طريقة التشييد والتشغيل ونقل الملكية (Build-Operate-Transfer)

7- تخصيص ميزانية خاصة لدعم وإنشاء المشاريع الزراعية والصناعية، وحماية منتجاتها، وتوفير فرص التسويق المناسبة لها، وُفقَ خطّة جدية و واقعية.

8- تنظيم شؤون الضرائب والرسوم وأجور الخدمات الحكومية، وفق ضوابط جديدة معاصرة.

سيادة الوزير:

هذه بعض الإجراءات التي كنتم تستطيعون القيام بها قبل خفض قيمة العملة الوطنية، والتي أعتقد أنها كانت ستدفع بالاقتصاد العراقي إلى النمو والازدهار، أمَا وقَدْ اخترتم الطريق السهل، وخفَّضتم قيمة العملة، وعرَّضتم البلاد لكساد كبير،فإنكم بذلك ستتركون جرحا كبيراً داخل المجتمع العراقي، لا يندمل أبداً، بل سيَمتدُّ إلى كلّ مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

هذا.. والله ولي التوفيق

شوان زنكنة، مستشار حكومي سابق، ماجستير اقتصاد إسلامي

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon