أردوغان والنظام السوري بين البراغماتية السياسية والرهانات الكوردية
د. محمود عباس
تقارب أردوغان من حزب الشعوب الديمقراطي، حتى وإن كانت بادرة حسنة؛ قد لا تستمر، لكنها وإن تم فهو على الأغلب لغايتين متناقضتين، والتناقض بحد ذاته يدرج في صالح حكومة العدالة والتنمية.
الأولى، جاء كرد فعل على موقف نظام بشار الأسد السلبي، بعدما جمد مسيرة التطبيع معه، والذي كان يأمل من خلاله محاربة الإدارة الذاتية، وتوطين قسم من المهاجرين في مناطق عفرين والجزيرة، هذا التحرك يمكن اعتباره جزءً من خطته السابعة لتقويضها، متضمنا التهديد غير المباشر للنظام السوري، مفاده أن هناك دعماً خارجياً للكورد، وإن هذا الدعم يتجه نحو تقسيم سوريا، ألمح إليها بشكل غير مباشر خلال مهاجمته الأخيرة على إسرائيل، زاعماً أن الأخيرة تريد تقسيم سوريا وبعدها تقسيم تركيا.
علما أن الموقف السوري الرافض للتطبيع تحت الصيغة التي يريدها أردوغان، والذي جاء من خلال موقف وزير خارجية سوريا من وزير خارجية تركيا في مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية، وتصريح بثينة شعبان ضد تركيا، لم يكن حبا بالكورد بل كرها بتركيا وما قامت به في السابق وما تخطط له. هذا الموقف أدى إلى تباطؤ المخطط السادس لأردوغان وهو مسيرة التطبيع، ودفعه للبدء بمخطط أوسع وأطول مدى.
الثانية، أردوغان يحاول الالتفاف على الكورد من الداخل، من خلال أبواب البرلمان التركي ذاته، محاولا استمالة نواب حزب الشعوب الديمقراطي، هذه الخطوة تهدف إلى تنبيه النظام السوري على أنه على قدرة في الحد من تقسيم تركيا، وإيهام النظام بأن إيقاف مسار التطبيع سيسرع من تقسيم سوريا.
وهذا لا يعني بأنه سيتخلى عن خطط القضاء على الإدارة الذاتية، لكن بأسلوب ملتوي طويل المدى، يبدأ أولا، بالحصول على دعم النواب الكورد لتغيير بنود من الدستور أي عمليا ديمومة البقاء في السلطة، تحت حجة فتح أبواب حل القضية الكوردية في تركيا عن طريق البرلمان بناء على الدستور الجديد، وفي الحقيقة لن يغير البنود العنصرية فيها، فقط يحاول إقناعهم لدعمه في العملية. وثانيا، دفع الإدارة الذاتية تحت تأثير مفهوم الأمة الديمقراطية التي تدعمها حزب الشعوب الديمقراطية، إلى الانتخابات، بعدما يكون قد قام بتوطين مليون أو أكثر في المنطقة الكوردية، وحينها يحصل الكورد على نسبة هزيلة أي عمليا سيكونون أقلية بسيطة في منطقتهم، وبالتالي يتم إزالة السيطرة الكوردية على الإدارة الذاتية. وحكومتها الجديدة تقدم على حل قوات حماية الشعب الكوردية أو ضمها إلى قوات قسد، القوة التي غالبيتها من المكون العربي، وبها تضمحل السمة الكوردية عن الإدارة، وهو ما يظهر حاليا لكن ببطء. ربما ولدراية حزب الشعوب الديمقراطي بالمؤامرة، بينت عن معارضة ما في الأروقة الدبلوماسية، وما يحصل الأن من الاعتقالات لقادة الحزب، ربما هي عملية استباقية من أردوغان لتحجيم مطالبهم قبل بدء الحوارات فيما إذا تمت.
لا يهم أردوغان إذا طغت السمات العربية المعادية لتركيا على الإدارة الذاتية، حتى إذا طالبت بانسحابها من الأراضي السورية، بل الأهم هو أن بقاء المناطق المحتلة تحت حمايتها مثل قبرص الشمالية، ما يعني عمليا تقسيم سوريا، وتحجيم أو القضاء على القضية الكوردية في غرب كوردستان، وفي ذات الوقت كسب حزب الشعوب الديمقراطي بتنفيذ بعض مطالبه، عمليا يكون أردوغان قد قلب المعادلة، فهو يقوم بنفس الدور الذي كانت سوريا تقوم به قبل عقود من الزمن بدعمها للعمال الكوردستاني ضد تركيا.
إلا أن هذا لا يعني أن حزب الشعوب الديمقراطية يجب أن يرفض التقارب، بل أن يكونوا حذرين، تسبقهم مطالبهم القومية وشروطهم السياسية قبل الحوارات، مع طرح البنود التي يجب إدخالها في الدستور، بما فيها الاعتراف بالشعب الكوردي وقضيته، وهنا تكون قد كسبت ما يتوجس منه أردوغان ويتوقعه، خاصة وأن المنطقة تدخل في مرحلة التغيرات الجيوسياسية الكبرى، التي قد تكون لصالح الشعب الكوردي في غرب كوردستان ومنها احتمالية تزايد الدعم الأمريكي لهم، وقد تلعب القوى الكوردستانية ومن بينها حزب الشعوب الديمقراطي دور رئيسي في المعادلة.
لماذا أقدم أردوغان على هذه الخطة؟
أردوغان كان وراء قرابة عشرين مؤتمرا تحت أسم أستانة وسوتشي ومؤتمرات طهران وأنقرة وموسكو، وغيرها من اللقاءات الثلاثية، التي أدت إلى سماح روسيا له باحتلال منطقة عفرين، وبعدها تمكن من استمالة البيت الأبيض بعد التعرض عند قصف غرب كوردستان، وإقناع إدارة ترامب، بفتح المجال له للقيام بحملته المعروفة لاحتلال سري كانيه وكري سبي، وكان يأمل التوسع في المنطقة بشكل كامل.
موافقة ترامب خلقت إشكالية في إدارة البيت الأبيض، فبعد انسحاب القوات الأمريكية ودخول الجيش التركي بيوم فقط استقال كل من وزير دفاع ترامب ومستشاره في الأمن القومي، بل وتبعاتها تظهر اليوم وبشكل سلبي على مسيرته الانتخابية، خاصة في الأروقة السرية الدبلوماسية والمتوقعة ومن بينها تراجع البعض من أقطاب الحزب الجمهوري عن دعمه، خاصة بعد ظهور فضيحة الرشاوي قبل شهرين، وضلوع اللوبي التركي بسند من إدارة أردوغان في رشوة رئيس مدينة نيويورك، وسياسيين أمريكيين أخرين، وهو ما قد يؤدي لا حقا، فيما إذا لم ينجح ترامب في الانتخابات، إلى البحث عن أسباب التغيير المفاجئ لموقفه من الكورد والإدارة الذاتية التي قضت على داعش، وذلك بعد حديث دام حينها أكثر من ساعتين بينه وبين أردوغان، تسربت بعدها معلومات عن استثمارات لعائلة ترامب في إستنبول ومدن تركية أخرى بتسهيل من حكومة أردوغان، وعمق العلاقات التجارية بين عائلة الرئيسين بصفقات تجاوزت المليار دولار.
وبالتالي لا يستبعد أن تؤدي ما حدث في نيويورك إلى البحث عن مدى تشعب اللوبي التركي في الأروقة السياسية الأمريكية في مرحلة ترامب ومن بينها ضلوع صهره وابنته وشركاته التي يديرها أبنه، وعلى الأرجح هذه القضية من الأسباب التي أحجمت، أبنته وصهره، أو عزلوا من قبل الحزب الجمهوري، من المشاركة في حملته الانتخابية الحالية، وهما كانا قطبي حملته الأولى، ومستشاريه في الإدارة.
الإشكالية الكبرى تكمن في معرفة مدى أهمية تركيا بالنسبة للدول الكبرى، خاصة أمريكا وروسيا، وهل ستستمر في تسهيل تجاوزات أردوغان؟ أم أن هذه القوى تعمل بشكل خفي على تقسيم المنطقة، وهو شريك فيها لإعادة الخسائر التي تمت في معاهدة لوزان، كما زعمها أردوغان سابقا في عدة مناسبات؟
ولا ننسى التعقيد الإيراني في هذا المشهد. مع خسارة إيران لأدواتها في سوريا، يمكن أن يكون التقارب بين أنقرة ودمشق تهديداً لنفوذها، وهو ما يحاول أردوغان استغلاله، مستعيداً مراحل الصراع العثماني الصفوي بأساليب عصرية.