أردوغان، بين كَفَّتَي الحرب والسلام، حِيالَ القضية الكردية
شوان زنكَنة
قدّم حزبُ العدالة والتنمية مشروعَ قانون من 12 مادة، يتضمن تعديلاتٍ في قانون أصول الضرائب، تهدف إلى رفع حجم واردات صندوق الصناعات العسكرية، وبموجب هذه التعديلات، تمَّ فرضُ ضرائب على بطاقات الائتمان، ومعاملات كُتّاب العدل، ومعاملات الطابو، وكافة ضرائب الختم، وتهدف الحكومةُ من هذه التعديلات استحصالَ ضرائب مقدارها حوالي 80 مليار ليرة سنويا.. وسيتمّ العملُ بهذه التعديلات الضريبية بدءً من 1/1/2025.
تقديمُ هذا المشروعِ للبرلمان يهدف إلى زيادة واردات صندوق الصناعات العسكرية، في هذا الوقت الحساس، وهذا يعني أن أردوغان قد أدرك خطورة مخطط نتانياهو الخاص بتأسيس الدولة اليهودية، وأخذه محمل الجد، فبدأ بالتحرك باتجاهين:
1- اتجاه عسكري، من خلال التعديلات الضريبية الهادفة إلى رفع قدرة الحكومة على انتاج وحيازة الآليات والتجهيزات العسكرية، الخاصة بتقنية الفضاء، والسلاح الجوي، وآليات الدفاع والهجوم البرية والبحرية، ومن خلال تعزيز تواجدها العسكري في سوريا والعراق.
2- اتجاه سياسي، من خلال السياسة الانفتاحية التي بدأها أردوغان وحليفه دولت باهجلي، قبل حوالي اسبوع.. وتهدف هذه السياسة، من منظور الحكومة، إلى رصّ الصف الداخلي، واحتواء الحزب الكردي في مجلس الأمة التركي، وفصله عن قيادة حزب العمال الكردستاني.
وقد جرت اتصالات عديدة بين الحكومة وعبد الله أوجلان، وبينه وبين قيادة قنديل، بهدف نزع السلاح، وصياغة سلام جديد، ليس على غرار عملية السلام السابقة التي جرت في الفترة 2009م - 2015م، والتي اصابها الفشل.
وسيتحدّدُ موقفُ الساسة الكرد، وقادة قنديل، حيال عملية الانفتاح هذه، التي ينظرون إليها بحذر، ويترقبون تطورها، بموازاة تحركات نتانياهو في الشرق الأوسط، وفق ما تفرزه الأحداث من جهة، ووفق ما سيقدّمه أردوغان من عروض للسلام والتوافق، من جهة أخرى، بالإضافة إلى توجيهات، ونصائح، او حتى أوامر الجهات المؤثرة على قنديل، وتلك الجهات التي ستستشيرها الحكومة التركية، أو التي ستضطر إلى قبول توجيهاتها.
عملية الانفتاح، هذه، لا زالت في بداياتها، وستتعاظم كلما اقترب نتانياهو من هدفه في تحقيق الدولة اليهودية، لأنها ظهرت كنتيجة حتمية لمقولات نتانياهو حول تأسيس الدولة اليهودية، وردود أفعال أردوغان العنيفة تجاهها، ولأن أردوغان يدرك أن مخطط نتانياهو يشمل المساعدة في تأسيس كيان كردي يستقطع جزءًا من أراضي تركيا الحالية، وهذا ما يؤكده حرصُ أمريكا على المحافظة على الإدارة الذاتية شرق الفرات، وحمايةُ إقليم كردستان العراق، سياسيا وعسكريا، وهو ما دفع أردوغان للانفتاح على القضية الكردية واحتوائها.
ويبدو أن عملية الانفتاح جاءت تلبيةً لحاجات داخلية، وتماشيًا مع ضرورات خارجية، فأما الحاجات الداخلية، فيأتي على رأسها سعيُ أردوغان إلى تغيير بعض مواد الدستور، بصيغة تؤهّله للترشّح للانتخابات الرئاسية القادمة، من خلال ضمان أصوات ثلثي أعضاء البرلمان، ولهذا فهو يحتاج إلى أصوات البرلمانيين الأكراد، التي يسعى للحصول عليها في مقابل خطوات تحسينية للوضع الكردي، كإعادة رؤساء البلديات المفصولين إلى مناصبهم، واطلاق سراح المسجونين السياسيين بسبب القضية الكردية، وتخفيف التجريد المشدّد المفروض على عبد الله أوجلان، واستبداله بالحجز المنزلي، وتوسيع نطاق الحقوق الثقافية للكرد.
وأما الضرورات الخارجية، فهي تلك المخاوف التي أبداها أردوغان، وصرّح بها مرارا، بخصوص سعي نتانياهو إلى تأسيس الدولة اليهودية، واستقطاع أراضٍ من تركيا، ودعم تأسيس كيان كردي في المنطقة، وعلى أثر تلك المخاوف، ظهرت بوادرً الانفتاح من قبل الحكومة، ليس على شكل عملية سلام، وإنما بهدف التوافق على جملة التغييرات الدستورية، التي تحقق بعض المطالب الكردية، وتضمن حقَّ الترشّح لأردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة، وتُرضي أطرافَ المعارضة الأخرى.
وسيعيق هذا الانفتاح إشكالان، الأول: انعدام الثقة بين الحكومة والمعارضة الكردية، التي تمثل إرادة القيادة في قنديل. والثاني: اختلاف مشروعي الطرفين، فأردوغان يخطط لاستمالةِ الصوت الكردي في البرلمان لصالحه، ونزعِ سلاح حزب العمال الكردستاني، قبل أن يتطوّر المشروعُ اليهودي، ويتّسع نطاقُ نفوذه لِيُلامسَ الحدودَ التركية، وبالتالي يَرصُّ أردوغانُ الصفَّ الداخلي ضد المخاطر الخارجية، بينما التهبتْ شهيةُ التيار السياسي الكردي وجناحه العسكري، بعد إعلان نتانياهو عن مخططه في الشرق الأوسط، ففي حين كانت مطالب هذا التيار لا تتعدّى الحقوق الثقافية، وتعزيز صلاحيات الإدارات المحلية، والحكم الذاتي، والفدرالية، بدأ اليوم بالتحدّث عن الاستقلال، والدولة الكردية، ليس في تركيا فحسب، وإنما في الدول الأربعة التي يتمركز فيها الأكراد على مرّ العصور.
أعتقد أن أردوغان سيحاول إلجاءَ المعارضة الكردية إلى قبول شروطه الانفتاحية، وتقديمَ بعض المكاسب لها، أو سيستمر في اتخاذ الخطوات العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني، وبشكل أشدّ وأكثف، وبالتزامن مع تحقيق نتانياهو لمخططه في المنطقة.
أما السيناريو الذي يتوافق مع مخطط النظام العالمي الجديد، فهو إنشاءُ سلامٍ دائم بين الحكومة التركية والأحزاب الكردية في الدول الأربعة التي تنشط فيها، بصيغةٍ يصبح فيه التحالفُ التركي-الكردي ركنا من أركان النظام الجديد، وصماما يضمن أمن إسرائيل مستقبلا، وقد يكون إطارُ هذا التحالف على شكل بسْطِ النفوذ التركي في شمال سوريا والعراق، وفقا لـ (ميثاق مللي)، وبالتزامن مع انكماش الدور الإيراني في المنطقة، أو يأخذ التحالف شكل التنسيق الاستراتيجي بين دولتين مستقلتين، تركيا وجمهورية كردستان الفدرالية الديمقراطية، وقد كتبتُ مرارا عن هذا السيناريو الذي لا أشكُّ بتحقيقه في الواقع المعاصر الجديد، وسيتحقق هذا السيناريو على يد أردوغان، وإلا فإن استصناع بديل لحكمه واردٌ جدًّا.