"دولة على الورق"
بدر اسماعيل شيروكي
تتعامل الدولة العراقية الجديدة مع إقليم كوردستان بسياسة تستند إلى "تصفير" صلاحيات الإقليم الفعلية والدستورية، متبنيةً هذا المسار كهدف استراتيجي ضمن رؤيتها لإعادة تشكيل السلطة المركزية. في المقابل، سعى إقليم كوردستان، منذ نشأته، إلى ترسيخ وتوسيع صلاحياته القانونية والدستورية، متجاوزاً أحياناً حدود الفيدرالية، ومؤسساً نمطاً خاصاً من الإدارة السياسية والاقتصادية المستقلة.
هذا التباين في الرؤية والسياسات أدى، بطبيعة الحال، إلى لحظات تصادم واحتقان سياسي بين الطرفين، لا سيما حين يتعارض منطق الدولة المركزية مع واقع الإقليم المتمايز.
من خلال تحليل سلوك الحكومة المركزية، يظهر أنها لا تمثل فقط مصالح الدولة العراقية الحديثة، بل تحاكي، في بعض أوجهها، عقلية الهيمنة التاريخية والاستعمار الإقليمي، وتعبّر أحياناً عن نزعات طائفية تعارض التعددية والديمقراطية. وقد مكّنتها تحالفات القوى النافذة، خلال العقود الثلاثة الماضية، من السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها، لتكون اللاعب الأقوى في تحديد المسار السياسي داخل العراق وكوردستان على حد سواء.
أما إقليم كوردستان، فقد اتخذ من تجربته الذاتية منذ ما بعد 2003 موقعاً يتجاوز حدود الإقليم الجغرافي، مُقدّماً نفسه بوصفه امتداداً للحركة التحررية الكوردية وتاريخها، وممثلاً للأمة الكوردية التي فُرض عليها واقع التقسيم بعد اتفاقية سايكس بيكو. وعلى هذا الأساس، لم يقبل الكورد تحميلهم مسؤولية التعطيل الدستوري، ولم يعترف العراق، بالمقابل، بالإقليم ككيان اتحادي كامل الصلاحيات بعد عام 2005.
وفي هذا المشهد الملتبس، لا يظهر العراق كدولة حديثة متماسكة، ولا يتصرف إقليم كوردستان بصفته كياناً مستقلاً عن إرث الثورة والعاطفة القومية. ورغم تحرك الجانبين ضمن أطر قانونية شكلية، إلا أن المسار العام يفتقر إلى الوضوح والاستقرار.
رغم كل الجهود المبذولة، لم تفلح بغداد في انتزاع السيادة القانونية والسياسية من الإقليم، ولا نجح الإقليم في فرض التزام الحكومة المركزية الكامل بالدستور وتوسيع النظام الفيدرالي. وبدلاً من الرجوع إلى النصوص الدستورية والمرجعيات القانونية، تستند المفاوضات إلى موازين القوة لا إلى مبدأ الشراكة.
الاختلاف الوحيد عن الماضي يتمثل في طبيعة أدوات الصراع: ففي الأمس كانت الدبابات والغازات السامة أدوات التفاوض عبر وزارة الدفاع، أما اليوم فأصبح تعطيل الرواتب وحجب الميزانية عبر وزارة المالية أدوات "القوة الناعمة" لفرض الإرادة السياسية.
من منظور السلطات الاتحادية، لا تُعدّ المشاركة الكوردية في الدولة أكثر من تواجد رمزي لعدد محدود من البيروقراطيين، كثير منهم لا يستطيع حتى استخدام لغته الأم داخل مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من الانتقال الدستوري في العراق إلى نظام ديمقراطي بعد 2005، إلا أن الواقع يكشف عن انحدار تدريجي نحو نظام ديني طائفي وميليشياوي، يُضيّق الهامش المتاح للتعددية، ويُحاصر أي محاولة لبناء دولة اتحادية حقيقية.
تبدو السياسة العراقية تجاه كوردستان قائمة على نفي التجربة لا الاحتفاظ بها كإرث دستوري وتاريخي. ولهذا لا تتردد بعض الأطراف في استخدام الميليشيات والطائرات المسيّرة لفرض وقائع جديدة تُخل بتوازن القوى، وتُستخدم هذه الإجراءات كأوراق ضغط تفاوضي لا تستند إلى أي شرعية قانونية.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، ينبغي على كوردستان أن تُعيد تموضعها السياسي، لا من خلال رد الفعل، بل عبر تفعيل أدوات القانون والدستور، والابتعاد عن خوض اللعبة على أرضٍ غير شرعية أو قواعد ملوّثة بالصراع. في عصر ما بعد الورقة والسلاح، وحده القانون يمكن أن يكون ورقة القوة الرابحة.