حُلْمُ عَودةِ الذَّهبِ نَقْداً مُتداوَلًا أو غِطاءً

حُلْمُ عَودةِ الذَّهبِ نَقْداً مُتداوَلًا أو غِطاءً

شوان زنكَنة

2021-01-10T16:26:19+00:00

هناك من يَحْلُمُ بإعَادَة الذّهب كَنَقْدٍ مُتداوَلٍ أو كَغِطاءٍ لِعُملةٍ وَرقيّةٍ مُتداوَلةٍ، كَونُه يَحمِلُ قِيمةً في ذاتِه، الأمرُ الذي يُؤَهّلُه لِأن يكونَ مَلاذًا آمِنًا، ووَسيلةً ناجِعَةً لِكَبْحِ جِماحِ التَّضخُّمِ، وهذا وَهْمُ الغائِبين عن الواقِع الاقتِصاديّ..فلا كمّيةُ الذّهبِ المَخزونَةُ في العالَم كافِيةٌ للتَّداوُل، ولا النَّقدُ الهائِلُ المُتَدَاولُ قادِرٌ على الإحْتِماءِ بالذّهب كمَلاذٍ آمِنٍ، ولم يَشهدِ التأرِيخُ الاقتِصاديُّ مرحلةً خاليةً من التّضخّم، سواءً بوجُود الذّهب أو بِدونِه..فالأنشِطةُ الاقتِصاديّةُ، وحركَةُ الأسواقِ، وحجمُ التّبادُلاتِ التّجاريّة في تنامٍ مستَمِرٍّ و سريعٍ عِبرَ التأريخِ، ويستحيلُ حصرُها أوتحجيمُها أو تأطيرُها في قالَبٍ ثَابتٍ، ولا تَقبَلُ إلّا التَّوائُمَ معها، ومجاراتَ مَسيرَتِها المُنسجِمة مع طبيعتِها وخِلْقَتِها وبُنْيَتِها الأساسِيّة، ولن يَأتيَ التّعسُّفُ في التّعامُلِ معها إلّا بالدَّمارِ والخَرابِ. فقد بَدأتِ البَشَرِيّةُ مُعامَلاتِها التَجارِيّةَ بِتَبادُلِ السِّلَعِ مُقايَضةً في سُوقٍ صغيرَةٍ جدًّا، لِتَحقيقِ حاجاتٍ بسيطةٍ ومَحدُودَةٍ جِدًّا، ومعَ تنامِي الحاجاتِ وتَعَدُّدِها، توَسَّعَتِ السُّوقُ، فأصبحَتِ المُقايَضَةُ غيرَ قادِرةٍ على تَلبِيةِ الحاجاتِ، وكان لا بُدَّ من مِعْيارٍ لتَقْيِيمِ السِّلَعِ، ووَسيلةٍ للتَّبادُل، كي يَتمَكَّن البائِعُ من بيعِ سِلعَتِهِ بِها، وشراءِ ما يحتاجُ اليَه من ثمَنِها، فنشَأَ النَّقدُ، واصطَلَحَ النّاس على جَعْلِ الذّهبِ والفِضّةِ والنُّحاسِ نُقودًا، وتَلَقَّوها بالقَبُولِ بينَهم، ولمّا تطَوَّرَتِ التّجارةُ وطالتْ مناطِقَ خارِجيّة، تَوسَّعتِ السُّوقُ المَحلِّيّة لِتَصبحَ سُوقًا عالَميّة تُمارِسُ التِّجارةَ الخارِجيّة من إستِيرادٍ وتَصْديرٍ، وظَهرتْ عِندها مشكلةُ التَّنقُّلِ بالذَّهب والفِضَّة، فأصدَرتِ الأنظِمَةُ الحاكِمةُ أورَاقًا تُثبِتُ مُلكِيَّةَ صاحبِها للكمِّية النَّقديّة المُدرَجةِ فِيها، وهَكذا نَشأتْ بَوادِرُ العُمْلاتِ الوَرقِيّة المُغطَّاةِ بالذّهبِ (المِعيارُ الذّهّبيّ)، وفي العصرِ الحَديثِ، وبالتَّحديدِ في سنة 1821م، أصبَحتِ المَملَكةُ المُتَّحِدَة بِشكلٍ رَسميٍّ أوّلَ دولةٍ تَعملُ بالمِعْيارِ الذّهَبيّ، بعدَ أنْ كانتِ البُنوكُ والمَصارِفُ الأورُوبِيّة في القَرنِ السّادس عشَر قدِ إتَّخذَتْه مِعْيَارًا في تَعامُلاتِها المَاليّة، ونظرًا لِتوَسُّعِ السُّوقِ العالَميّةِ بِشكلٍ مُطَّرِدٍ، وحَاجتِها الى سُرعةِ وسُهولةِ إستِخداماتِ النَّقدِ وتَوحيدِه وفْقَ مِعيَارٍ ثابتٍ مُتَّفقٍ عليه، قامَتِ الولاياتُ الأمريكيّةُ المُتّحدَةُ بِدعوةِ 44 دولةً للإجتِماعِ في مدينةِ "بريتون وودز" سنة 1944، وذلك للإتّفاقِ على نظامٍ نَقديٍّ جَديدٍ يَهدُفُ الى تأمِين الإستِقرار والنُّموِّ الاقتِصاديّ العالَميّ، فتَمَّ الإتِّفاقُ بِمُوجبِه على تَثبيتِ أسعارِ صَرف العُمْلاتِ حسَبَ المِعيارِ الذّهبِيّ ،وتثبيتِ سِعرِ الذّهب بالدّولار، فأصبحَ الدّولارُ مُنذ ذلك التأريخِ هو النَّقدُ الإحتياطُ العالَميُّ بدلَ الباوَن الإستَرليني الإنجليزيّ، وإزدَهرَ الاقتصادُ العالميّ بعد الحربِ العالميّة الثانيّة، وتَعاظَمَ الَّتداوُلُ الَّنقديُّ العالَميُّ بين الدُّول، وإزدادَ إنْفاقُ الدّول، وبالأخصِّ إنفاقُ الولاياتِ المتّحدةِ الامريكيةِ بِسببِ دورِها السِّيادِيّ على السِّياسة والاقتِصاد العالميّ، وتَزامَنَ ذلك مع عدمِ القُدرَة على التَّوازُن بينَ تَوفيرِ السِّيولة للإنفاقِ ، والمَخزُون الإحتِياطيّ من الذّهب لدى الولايات المتحدة الامريكية وغيرِها من الدّول، مما تَسبّب في إعَاقَةِ النُّموِّ والإزدِهار فيها، فَدفعَ ذلك الولايات الامريكية المتحدة الى إلغاءِ إلتِزاماتِها بإتفاقية "بريتون وودز" سنة 1971، وتَبعَتْها بقيةُ الدول لاحقًا ، وتحوّل النّظام النّقديّ العالَميّ الى سلّةِ العُمْلاتِ التي يَتُمُّ فيها تَحديدُ أسعارِ صَرف العُمْلاتِ العالميّة، وُفقَ عوامِل كثيرةٍ، منها ثِقةُ المُتعامِلينَ بها، وقوةُ إقتصاداتِ دُوَلِها . 

حَجمُ الذّهب بِلُغةِ الأرقَامِ  

مَجموعُ المَخزُونِ من الإحتِياطيّ العالَميّ للذَّهبِ لا يَتجاوَزُ 200 ألف طن، وهو صغيرٌ جدًّا إزَاءَ الكَمِّ الهائِلِ من النَّقدِ العالَميّ المُتدَاوَلِ، والنُّموِّ السَّريعِ والمُطَّرِدِ للاقتِصاداتِ في العالَم .. ولِنَأخُذْ بلدًا مِثلَ تُركيا ، ونَضعَها تحتَ المِجْهَرِ، نُلاحِظُ :    

* المَخزونُ من الذّهب الإحتِياطِ لدَى البَنكِ المَركزيّ التُّركيّ في شَهرِ تموز 2020 = 583 طن

* سعرُ غرامِ الذّهب في 1/7/2020 بلَغَ 392.4 لِيرة تُركيّة

* حجمُ التَّداوُلِ النقدي التركي في شهرِ تموز 2020 = 250636677641 ليرة تركية

فلو إفترَضْنا أنّ البنكَ المَركزيّ قد إستَغنَى عنِ اللّيرةِ التركيّة الوَرقيّة، وأصدرَ بَدلًا عنها نَقدًا من الذّهب وَزنُه 1غم، فهذا يَعنِي أنّ الإحتياطيَّ المَخزونَ لديهِ سيَكفِي لإصْدارِ 583 مليون وحدة نَقديّة، قِيمَةُ كلِّ وُحدَةٍ نقديّة ذهبيّة تُساوي 392.4 ليرة تُركيّة وَرقيّة .

ولو قَسَّمْنا عددَ الوُحداتِ النَّقديّة الذّهبيّة على عددِ السكّان في تُركيا البالغِ حوالي 83 مليون نَسمَة، فسوفَ يكونُ نصيبُ الفردِ التّركي من الوُحداتِ النقديّة للتَّداوُلِ في الأسواقِ هو 583000000/ 83000000 = 7.02 وحدة نقديّة/مواطن . وهذا يَعني أنّ أقصى ما يُمكِنُ أنْ يحصَل عليه المُواطِن من الوحداتِ النقديّة الذهبيّة هو 7 وحدات، وهي حتمًا كمِّيةٌ غيرُ كافيةٍ لِتحْقيقِ حَاجاتِ المُواطن.. لذلك فَمِنَ المُستَحِيلِ عَودَةُ الذّهب لِلَعِبِ دَورِ النَّقد مرّةً أُخرى أمامَ هذه السِّعَةِ الهَائِلةِ في الاقتِصادِ التُّركيّ، وسُوقِها النَّاميةِ والمُتَطوِّرةِ .

أمّا لو إفتَرضْنا أنّ البنكَ المَركزيَّ قد إتَّخذَ قَرارًا بِجَعْلِ الذّهب الإحتِياطيّ المَخزونِ لَديهِ كَغِطاءٍ لِعُملتِه الوَرقيّة، فهذا يَعنِي أنّ المَخزونَ الذّهبيَّ يجِب أنْ يكونَ كافِيًا لِتَغطِيةِ حجْمِ التَّداوُلِ النَّقديّ الوَرقِيِّ في الأسواقِ التُّركيّة، وبِحسابٍ بسيطٍ، نَجِدُ أنّ الإحتياطيَّ الذّهبيّ التُّركيّ غيرَ كافٍ لِتَغطِيَةِ حَجْمِ التَّداوُلِ النّقديِّ :

قِيمةُ الإحتياطيّ من الذّهب بالليرةِ التُّركيّة في 1/7/2020 = 583000000 غم × 392.4 = 228769200000 ليرة تركية، وهي أقلُّ من حَجمِ التَّداوُلِ النقديّ في شهر تموز2020 البالغِ 250636677641 ليرة تركية، وبالتالي، فلن يَتمَكَّنَ هذا المَخزُون الذّهبيّ من تغطِيةِ الحَجمِ الكُلِّيِّ للتَّداوُلِ النّقديّ، ناهِيكَ عن أنّ حجمَ التَّداولِ هذا في تَصاعُدٍ مُستَمِرٍّ بِسببِ تَوَسُّعِ الأنشِطَةِ الاقتِصاديّة، وتَعاظُمِ السُّوقِ، والتَّضَخُّمِ، وغيرِها .  

وليسَ في وُسْعِ الذّهب وحدَهُ أن يكونَ ملاذًا آمِنًا لِمُدَخّراتِ المُواطِنين، بِسبَبِ مَحدُودِيةِ كَمِّيّتهِ من جِهةٍ، وعدَمِ قُدرَةِ المُواطِن من الحُصولِ عليه بِسببِ الإرتِفاعِ الخَياليِّ الذي سَيطْرَاُ على سعرِه إذا ما تَزايَدَ الطَّلبُ عليهِ كَمَلاذٍ من جِهةٍ أُخرى .

الخاتمة

يَتبَيَّنُ مِمّا سَبقَ، أنّ حُلْمَ العَودَةِ الى الذّهب في التَّعامُلاتِ النَّقديّةِ، ليسَ إلّا سَرابًا يَحُومُ في خَيالِ البَعضِ مِمَّنْ يَعيشُونَ في ثَنايَا الأدَبيَّات والدِّراساتِ القَديمَةِ الّتي عَفا عَليها الزَّمنُ، وأَخْشَى ما أَخْشَاهُ، هوَ أنْ يَصحوَ هَؤُلاءِ على عَالَمٍ يَخْلُو من كلِّ أنواعِ النَّقدِ المَلمُوسِ، ذهَبًا كانَ أو وَرقًا، فَيَخْتَلِطَ عَليهم كلُّ المَفاهِيمِ الاقتِصاديّةِ وقَواعِدِها، في عالَمٍ نَقديٍّ مُشَفَّرٍ .

نعَم..لم تَعُدِ الاقتِصاداتُ العالَميّةُ تَستَوعِبُ الأسَاليبَ النَّقديّةِ الحَالِيّةِ في أَسواقِها، وهي تَسيرُ يومًا بَعْدَ يومٍ الى تَبَنِّي عُملةٍ نَقديّةٍ مُشَفَّرَةٍ، وسَتَجْتمِعُ الدُّولُ الكُبْرى اقتِصادِيًّا في غَاباتِ "بريتون" جَديدةٍ، للإتِّفاقِ على صِيغَةٍ نَقدِيَّةٍ جَديدةٍ تَنسَجِمُ مَع التَّطَوُّراتِ التّكنُولوجِيّة التي تَجتاحُ العالَم في ظِلِّ تَنامِي الأنشِطةِ الاقتِصاديّة، وعلى غِرَارِ إتِّفاقِيّة "بريتون وودز" السّابِقة، بل أنّ التَّسارُعَ في التَّقدُّمِ التِّقَني، وفي الأنشِطةِ الاقتِصاديّةِ سَيكونُ مُبْهِرًا الى الحَدِّ الّذي يُجْبِرُ العالَمَ على تَعدِينِ عُملَةٍ مُشَفَّرَةٍ فَضائِيِّةٍ للإستِخداماتِ الاقتِصاديّةِ الفَضائِيّةِ الّتي ستَظَهرُ في النُّصْفِ الثّانِي من هذا القَرْنِ.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon