تاريخنا؟
د. محمود عباس
البعض من كتابنا الكورد، الذين يتناولون التاريخ، أصبحوا يقلدون المؤرخين العرب بتحريفاتهم وتضخيمهم
لتاريخنا، متجاوزين كل الاعتبارات والقيود الخاصة بمثل هذه الدراسات. فعلها مؤرخو التاريخ العربي
والإسلامي، في مراحل لم يكن من السهل الرد عليهم، وتعرية عيوبهم وفضائحهم. لكن اليوم وحيث سهولة
الحصول على المصادر والمعلومات وجرأة النقد على خلفية زوال قدرة السلطات على المراقبة والمحاسبة،
فاليوم وفي عصر الإنترنيت وحيث سهولة الحصول على المصادر ودقائق المعلومات، بدأت تتعرى تلك
الدراسات من جميع الجهات، ليس فقط كحوادث تاريخية غير صحيحة، بل بما خلقته من المضار للمجتمعات،
والكوارث للبنية الثقافية للشعب العربي والمتعايشة معه.
أرى، والموقف هنا حالة شخصية، أن تضخيم النقاد والكتاب الكورد لتاريخنا أثناء ردهم على العنصريين
الذين تناولوا تاريخ الشعب الكوردي بضغينة، وقدموه وكأنه شعب على هامش التاريخ، وعلى أنه لا يحمل
خاصية الأمة، وغيرها من الإشكاليات، تصرف كحالة استثنائية، ولا يمكن الطعن فيها خاصة إذا عرضت
مع المادة المطعونة فيها، فتضخيم تاريخنا الذي تم تحريفه أو تعتيمه أو تشويهه، يستخدم كحالة إنقاذ من براثن
المتربصين بأمتنا.
لكن لا يمكن التساهل معهم أثناء تقديم الدراسات التاريخية الأكاديمية المتعلقة بشعبنا الكوردي كما يجب أن
يقدم للعالم، فعليهم الانتباه إلى ما قد يخلقوه من المضار المشابه لما خلفته السلطات والكتاب العنصريون
العرب، والتي أصبحت وبالا على الشعب العربي والتاريخ الإسلامي.
ردود العديد من النقاد الكورد والبعض من العرب أيضا، وانتقاداتهم على محرفي التاريخ بدأت مع ظهور
الإنترنيت، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت كالنار في الهشيم، رغم أن هذه الحركة لا زالت
في بداياتها، لكنها خلقت الرهبة لدى السلطات العنصرية والكتاب العبثيين، ولتفاديها بدأوا يتبنون أساليب
حديثه، ومن بينها الدفاع عما كتب سابقا التي تتلاءم ومفاهيمهم، أو تقديم دراسات مماثلة مدعومة بتأويلات
تتلاءم والعصر.
مع ذلك، ورغم هذا النجاح إلى حد ما، يحتاج الكورد إلى عمق رؤية ووعي واسع لمواجهة الجاري، وتعرية
ما حرف وشوه سابقاً؛ ليس فقط تاريخ العرب والإسلام، بل تاريخ شعوب المنطقة بشكل عام، وبشكل خاص
ما يخص شعبنا، لكن ومن المؤسف أن البعض من كتابنا عوضا عن تصحيح المسيرة بمهنية، يفاقمون فيها
بعرض تاريخنا بنفس أساليبهم، وليس تضخيمه كحجة للرد.
لذلك فعلينا الانتباه إلى الإشكاليات الغارقة في السلبية التي ستؤدي بقضيتنا وتاريخنا إلى السقوط في أخطاء
نحن بغنى عنها، ونأمل تفادي المستنقع ذاته الذي ضاع فيه كتاب محتلي كوردستان. فالتضخيم والتحريف
نتائجها السلبية كارثية، تخلق قاعدة ثقافية مشوهة لا يمكن البناء عليها.
للأسف عدد الذين يضخمون ويحرفون، وبشكل خاص تاريخ العائلات والعشائر إلى حد القرف، والتي تشوه
تاريخ ثوراتنا والإمارات الكوردية، يتزايد يوما بعد يوم، بل وبينهم من يخلقون حوادث من الخيال والعدم،
أحيانا تصل إلى درجة الجهالة.
أحيانا قدمنا إماراتنا كإمبراطوريات، وثوراتنا كنظريات، لا شك نحن أمة عريقة في التاريخ، بنينا أو ساهمنا
في بناء الحضارات والإمبراطوريات، لكن بهذه الأساليب الساذجة لن نحصل على نتائج مناسبة لحاضرنا
وقادمنا.
ركز مارتن فان بروانسن، في إجمالية كتابه (الأغا والشيخ والدولة)، على جدلية تاريخية لمجريات الأحداث
في كوردستان خلال القرنين الماضيين، وتعتبر عمود منهجية كتابه، وهو أن الفراغ الناتج من زوال
الإمارات الكوردية، وهيمنة الباشوات العثمانيين والصفويين ومن ثم القجاريين فتح المجال للتكايا الدينية
بالطفو وتوسع السيادة وقيادة الشعب إلى درجة أن معظم الثورات الكوردية في القرن التاسع عشر قادها
مشايخ التكايا الصوفية الكوردية، وحسب رؤيتي كانت حينها حالة صحية وإنقاذ للشعب أمام الفراغ السياسي
الكارثي لمواجهة المحتلين. اليوم نلاحظ ظهور حالة مشابهة من حيث الجدلية لكن ببنية هشة ضحلة مضارها
لا يحمد عقباه، تخلق نتائج سلبية لقادم قضيتنا، ومستقبل شعبنا وثقافته.
فعلى خلفية الفراغ الناجم من تشتت الحراك الكوردي الحزبي وضعفه وتراجع نشاطاته، بدأت تطفوا
دراسات التبجح والتضخيم لتاريخ عائلاتنا وخلق هالات حول الأجداد، وأعمالهم ونحاول عرض العشيرة
كبديل عن الحراك السياسي. لا شك للأجداد قدسية ضمن جغرافية العائلة أي كانت مكانة تلك العائلة، لكن أن
نقدم ذواتنا كورثة لإمبراطورية وهمية خلقها أجدادنا، وعلى عتبة هذا التضخيم نسوق مكانتنا بين المجتمع،
وليتنا كنا على مقدرة من تقديم عمل يستحق التقدير، فأفضل ما نقدمه فتات من الخدمات للمجتمع المعاني،
وتظل الساحتين الحزبية – السياسية والثقافية – الاجتماعية في العدم.
بأساليبنا هذه نفاقم الوباء في تاريخنا ونعقد مسيرة تشذيب ثقافة المجتمع، ونصعب توعيته وتنويره، وبشكل
غير مباشر نساهم في تقزيم القضية الكوردستانية ضمن جغرافية العشيرة والعشيرة ضمن العائلة والعائلة
نحصرها في شخصية ماضية، فننسى الحاضر أمام أوهام الماضي، خاصة وأن شريحة واسعة من المدركين
لما تؤول إليه قضيتنا القومية على خلفية هذه الجهالة لا يقدمون على المواجهة لاعتبارات عدة، لكن لا تعني
هذا أن الأبواب ستظل مغلقة، وسيستمر الصمت، ولن يأتي البعض من النقاد الجريئين لتعرية هذا الخلق
الوهمي المضخم مع الزمن.
إننا اليوم في عصر الإنترنيت، من السهل لأي كاتب جريء أو أكاديمي، أو حتى أبسط ناشط في وسائل
التواصل الاجتماعي، وغيرهم، فتح الأبواب وتناول هذا العبث بنقد حاد، بل ونقد كل من أفسد أو خلق سلبية
عن قصد، بجرأة وقوة، لن يتساهل الواعون من النقاد في تعرية كل ما تم خلقه من العدم، وتضخيمه، ولا شك
التحذير الأهم موجه لأولئك المتناولين بشكل عشوائي تاريخ شعبنا والإمارات الكوردية وثوراتنا، بل ولربما
ماضي أمتنا بشكل عام. المصداقية تطرق جميع الأبواب، فما يبنى على الخطأ والوهم لن يحصد منتوجا.
لا تنسوا أننا ندخل مرحلة حديثة من التطور الحضاري، فمثلما عرى عصر الإنترنيت المؤرخين والباحثين
العرب والإسلاميين، فالذكاء الاصطناعي القادم سيعري أدق التجاوزات، وبدون تدخل الإنسان، ومن بينهم
كتاباتنا والكتاب والمؤرخين الكورد المعنيين بالأمر.