الهجرة بلا عودة: العراقيون بين حلم الاستقرار وواقع الاغتراب
صادق الازرقي
طوال عقود، لاسيما في عهد النظام المباد السابق في العراق، تعرض كثير من العراقيين إلى ضغوط كبيرة، سياسية أو بسبب الحروب أو العقوبات الاقتصادية وعدم الاستقرار، ما اضطرهم إلى اللجوء الى بلدان أخرى والعيش فيها لاسيما في اوروبا واميركا، واغلبهم لم يرجعوا بعد تغيير النظام السابق في 2003؛ بل إن عراقيين كثر آخرين سرعان ما بدأوا هجرات جديدة بعد ذلك الحدث ايضا، و اغلبهم إلى دول اوروبية، بخاصة في ما عرف بأزمة المهاجرين إلى أوروبا في عام 2015.
فهل حقق المهاجرون العراقيون إلى تلك المجتمعات أهدافهم الشخصية والاجتماعية التي كانوا يسعون إليها..وهل تحسنت أمورهم المالية والمعيشية وغيرها من القضايا؟
لا تتواجد إجابة قاطعة عما إذا كان المهاجرون العراقيون قد حققوا أهدافهم الشخصية والاجتماعية بعد هجرتهم، و يعتمد الأمر على عدة عوامل، منها ظروف كل فرد، والدولة التي هاجر إليها، والمدة التي قضاها هناك.
وفيما يتعلق بكثير من العراقيين الذين هاجروا، شهدت أوضاعهم المالية والاقتصادية تحسنا كبيرا، ففي المجتمعات الأوروبية والأمريكية، تتوفر فرص عمل ودخل ثابت، فضلا عن أنظمة حماية اجتماعية قوية، هذا سمح لهم بتأمين حياة أفضل لأنفسهم ولأسرهم، و حتى إرسال الأموال إلى أقاربهم في العراق.
ومع ذلك، واجهت عديد المهاجرين تحديات كبيرة في سوق العمل، لاسيما في البداية، فقد اضطر بعضهم إلى العمل في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم الأكاديمية أو خبراتهم المهنية، وذلك بسبب صعوبة معادلة الشهادات، إذا كانوا يمتلكونها، أو عدم إتقانهم للغة البلد الجديد.
و يعد الاندماج الاجتماعي من أصعب التحديات التي واجهها ويواجهها المهاجرون، ففي حين أن بعضهم نجح في بناء حياة اجتماعية جديدة وتكوين صداقات مع السكان المحليين، إلا أن آخرين عانوا و لا زالوا من الشعور بالعزلة والاغتراب.
كان عامل اللغة حجر الزاوية في الاندماج، لاسيما لكبار السن، فكلما أتقن المهاجر اللغة، زادت فرصه في التفاعل مع المجتمع، والحصول على فرص عمل أفضل، وفهم الثقافة المحلية؛ كما تختلف العادات والتقاليد الاجتماعية بشكل كبير بين العراق والدول الغربية، هذا الاختلاف قد يولد صراعا داخليا لدى المهاجر، بخاصة فيما يتعلق بتربية الأبناء والحفاظ على الهوية الثقافية.
و للأسف، واجه بعض المهاجرين العراقيين حالات من التمييز أو العنصرية، مما أثر سلبا على شعورهم بالأمان والانتماء.
وبشكل عام، حقق عدد كبير من المهاجرين العراقيين جزءا من أهدافهم، سواء على الصعيد المالي أو التعليمي، فقد تمكن كثيرون من إكمال دراساتهم العليا، أو تأسيس مشاريع خاصة، أو إيجاد عمل مستقر يوفر لهم حياة كريمة؛ ولكن تحقيق هذه الأهداف جاء بتكلفة باهظة، تمثلت في الابتعاد عن بلدهم وعن الأهل والأصدقاء، ومواجهة تحديات الاندماج والاغتراب.
و يمكن القول إن الهجرة كانت رحلة معقدة لكل مهاجر عراقي، فبرغم المكاسب المادية والمهنية التي حققها كثيرون، إلا أن التحديات النفسية والاجتماعية كانت كبيرة، مما يجعل تقويم نجاح الهجرة مسألة شخصية تختلف من فرد لآخر، وهي بحاجة إلى دراسات مستفيضة عجز العراقيون للأسف عن التوجه لها والبحث فيها وتسجيلها، برغم أهميتها الكبيرة.
وفيما يتعلق بأبناء المهاجرين، فان لهجرة العراقيين إلى بلدان أخرى تأثيرات عميقة ومعقدة على أبنائهم، وتختلف درجة تكيفهم بشكل كبير بين فرد وآخر، و لا يمكن ايضا تلخيص التجربة في إجابة واحدة، بل يمكن تحليلها من عدة جوانب.
فلقد واجه أبناء المهاجرين، وبخاصة الجيل الثاني والثالث الذين ولدوا أو نشأوا في بلاد المهجر، صراعا بين ثقافتين، ثقافة أهلهم العراقية (والشرقية أيضا)، وثقافة المجتمع الغربي الذي يعيشون فيه، هذا الصراع قد يؤدي إلى شعور بالضياع وعدم الانتماء الكامل لأي من الثقافتين، وقد واجه ابناء المهاجرين العراقيين المولودون في المهجر صعوبة في إتقان اللغة العربية، مما يعوق تواصلهم الكامل مع أهلهم وأقاربهم، ويجعلهم يشعرون بالانفصال عن جذورهم.
ان قيم المجتمع الغربي تختلف بشكل كبير عن القيم العائلية العراقية، لاسيما فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، والحرية الشخصية، والعادات والتقاليد؛ هذا الاختلاف كثيرا ما يسبب توترا بين الأبناء والآباء.
يحاول كثير منهم "المساومة" على هويتهم، أي دمج عناصر من الثقافتين، مثلا، قد يحافظون على بعض العادات والتقاليد الأساسية مثل الدين والأعياد، وغير ذلك، فيما يتبنون أنماط الحياة الغربية الأخرى.
وفيما يتعلق بالاندماج، يميل أبناء المهاجرين عموما إلى التكيف بشكل أسرع وأفضل من آبائهم، وذلك لعدة أسباب، من أهمها التعليم، اذ يلتحقون بالمدارس والجامعات في البلدان المضيفة، مما يتيح لهم تعلم اللغة وإقامة صداقات مع السكان المحليين، هذا التعليم يفتح لهم أيضا أبوابا لفرص عمل أفضل لاحقا؛ كما أن تواجدهم في بيئة ثقافية واجتماعية جديدة منذ الصغر يجعلهم أكثر مرونة وقابلية للتكيف.
ومع ذلك فان بعض أبناء المهاجرين قد يعانون من العزلة، الاجتماعية، بخاصة إذا كانت أسرهم تعيش في مناطق مكتظة بالمهاجرين وتفتقر إلى التفاعل مع السكان المحليين.
ان الهجرة لأبناء العراقيين تفتح فرصا كبيرة، مثل الحصول على تعليم جيد، رعاية صحية، وفرص عمل أفضل، ولكنها تأتي مع تحديات، كذلك أن التعليم الجيد يمنحهم أدوات للنجاح المهني، وتوفر لهم المجتمعات الغربية بيئة آمنة ومستقرة، بعيدا عن ويلات الحروب وعدم الاستقرار الذي شهده وربما يشهده العراق.
ولكن من أبرز التحديات التي قد يواجهها أبناء المهاجرين هي العنصرية أو التمييز، الذي ربما يجعلهم يشعرون بأنهم غرباء في بلدهم الجديد، حتى وإن كانوا ولدوا فيه، وقد يعانون أيضا من "التفكك الأسري" بسبب الاختلافات في القيم بين الأجيال.
تجدر الاشارة الى ان المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، في معلومات نشرها في صيف عام 2024 اشار الى ان "الأرقام التقديرية تؤكد أن هنالك أربعة ملايين لاجئ عراقي عبر العالم"، يتوزع هؤلاء في دول متعددة، بما في ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وبعض الدول العربية، فضلا عن ذلك هناك عدد كبير من العراقيين الذين يعيشون في دول أخرى حول العالم، بما في ذلك دول أوروبية أخرى، ومنهم من لم تسجلهم الاحصاءات، اذ تشير بعض المصادر إلى أن عدد العراقيين المهاجرين في الخارج قد يصل الى خمسة ملايين.