المبادرة الذهبية
احمد عبد المجيد
كنت احد الذين يعلّقون الآمال على اربيل، لإنقاذ البلاد مما يجري في بغداد، وكنت أكثر الذين يرون في مصدر الاعتدال الوطني، الطرف الأجدر للقيام بهذه المهمة النبيلة.
ثلاثة ايام من المتابعة الدقيقة للحراك الشعبي والسياسي المتفاقم في بغداد، كانت كفيلة بتوجيه نظري نحو هذا المصدر، الذي خبرته في ازمات سابقة، مقتدرا صادقا جديرا بالثقة، ورأيت فيه باباً لفتح الانغلاق السياسي، الذي لم يؤد الا الى مزيد من التعقيد بسبب طابع الشخصانية، الذي اتسم به المناخ العام، وتبادل الاتهامات، بدلا عن البحث عن حل في فضاء ملبد او مغلق.
ورأيت ثقتي تتضاعف وآمالي تكبر وانا اتلقى مبادرة رئيس اقليم كردستان نيجرفان البارزاني، التي طرحها في وقت احوج ما تكون اليه العملية السياسية الى تحكيم العقل، وتطويق الانفعال. واسترجعت قول الشافعي (وتضيق الدنيا فنحسب اننا ، سنموت بأساً او نموت نحيبا، واذا بلطف الله يهطل فجأة يربي اليبس الفتات قلوبا).
وتكمن اهمية مبادرة البارزاني في انها واضحة وسلسة، وان اي منصف او باحث عن طريق للخلاص، يستطيع استيعاب ابعادها وفهم مضامينها. فهي تخلو من الشعارات والكلام المكرر الممل، وتختار حقائق الامور في تأكيد نجاحها، في حال استجاب الفرقاء اليها، وكأنها تستند الى قول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام (من استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطأ). وفي قراءة سريعة للمبادرة امكنني استخلاص الاتي:
1- ان نيجرفان البارزاني سمى الاشياء بمسمياتها الوطنية ووصف الفرقاء بـ (الاطراف العراقية) وبذلك يصح وصف المبادرة بالذهبية.
2- انه رسم اقصر الطرق ووضع افضل السبل للقاء، وتذليل التحديات الراهنة وذلك بالحوار. هذا العنوان العريض للعقلانية والحكمة الذي يتجلى في اللحظات التاريخية الفاصلة ويتحلى به اصحاب النوايا الطيبة والعقل المستنير.
3- انه حث على ضبط النفس تفاديا للدخول في مناطق اللا عودة والانهيار والخوض في بحور الدم، فقد حث الاطراف العراقية على (التزام منتهى ضبط النفس، وخوض حوار مباشر من اجل حل المشكلات). وهنا تتضح ايضا حكمة البارزاني ونقاء سريرته، فهو دعا الى حوار مباشر، والدقة في التوصيف مفيدة، بل ضرورية لوضع الآليات وبيان جدواها وتوقيتاتها.
4- ان البارزاني ذكّر (الاطراف العراقية) بخطورة زيادة تعقيد الامور، في ظل الظروف الحساسة، لان هذا السلوك الذي قد تتسم به نوايا وظنون البعض، يعرض السلم المجتمعي والامن والاستقرار في البلد الى الخطر. وهو في هذا القول لا يستثني احداً او ينحاز الى احد. فالركن المهم في اي مبادرة من هذا النوع تتجلى، عادة، في ضمان الطرف الثالث المحايد، اي الطرف الابوي، من اجل اشاعة جو الهدوء ومناخ الثقة بين الاطراف.
5- ان البارزاني جدد تأكيد الثوابت الدستورية، في ظل عراق تعددي متنوع المشارب، بالقول باحترام ارادة التظاهر السلمي للجماهير، فيما شدد على اهمية حماية مؤسسات الدولة وامن وحياة وممتلكات المواطنين وموظفي الدولة. وهذا مفتاح اخر لفهم روح البارزاني، التي تنأى بنفسها عن المحاباة والغموض والالتفاف على الحقائق أو تغييب الثوابت.
6- اظهرت مبادرة البارزاني عراقيته المتأصلة وايمانه باهمية ادراك موقع الشعب في اي افضليات، فقد اكد ان الشعب العراقي يستحق حياة وحاضرا ومستقبلا افضل، وهو اعتراف ضمني بان الصراعات وسياسة لي الاذرع والحصول على المنافع، اهدرت فرص تقديم مكتسبات ملموسة في جميع القطاعات لهذا الشعب، بما يوازي تضحياته وكرامته. وكان البارزاني مصيبا جدا عندما حدد مكامن الخلل وحمل جميع الاطراف والقوى (الواجب والمسؤولية المشتركة)، ووضعها امام مشروع الحل النابع من (العمل معا لاخراج العراق من هذا الظرف الحساس والخطر).
أما البعد السابع في مبادرة البارزاني، وهي تنطوي على رؤية واقعية وتحليل عميق للامور، فيكمن في اختيار الموقع او المكان لاجراء الحوار المنتظر، حيث يحفل اقليم كردستان برمزية خاصة في ذاكرة وضمير الاطراف الممسكة بالسلطات منذ نيسان 2003. وكان الرئيس نيجرفان البارزاني دقيقا في صياغة بلاغة مفرداته وعناوين فروع مبادرته، اذ قال ان (اقليم كردستان سيكون، كما هو دائما، جزءا من الحل)، ما يعني انه مستعد للمراجعة والمتابعة والعمل المشترك مع جميع الاطراف الساعية، الى مائدة الحوار وتذليل العقبات ازاء نقاط الخلاف.
وقد حدد اربيل، عاصمة العراق الثانية، لاحتضان اللقاء التاريخي والشروع بحوار مفتوح يهدف التوصل الى تفاهم واتفاق قائمين على المصالح العليا للبلد.
وضماناً لفرص النجاح وفتح ابواب الامل امام الجميع، فان البارزاني، بكل ما عرف عنه من اتزان وهدوء واخلاص وطني وصبر، خلص الى القول (لا توجد مشكلة لا يمكن حلها بالحوار).
وخلال العقدين الماضيين وجدت شخصيا ان فخامة الرئيس نيجرفان البارزاني، لطالما كان محاورا نبيلا وجديرا بالثقة، مثلما كان رفيقا محسوم الولاء لقيادته الكردية، في تنفيذ معالم تجربة تنموية فريدة يحتذى بها في العالم. فهل ينزل اطراف النزاع الحالي من ابراج اوهامهم، ويذهبون الى اربيل لتسوية مشاكلهم، والعودة الى بغداد وقد تم تصفير تلك المشاكل، على مبدأ لا غالب ولا مغلوب والجميع يظفر بالنصر، طالما ظل البلد سالما واهله ينعمون بالامان؟
تلك هي اهداف مبادرة البارزاني. التي ستجنبنا الوقوع في متاهة بحر الظلمات. اقول ذلك مستهدياً بقول النبي محمد (ص) ان (كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرّب أجلاً).
نقلاً عن جريدة الزمان