الرأي العام مغيب عن ذكرى جرائم الانفال
علي حسين فيلي
رغم أن ذاكرة العراقيين مثقلة بالكوارث والمآسي الدامية، إلا أنهم نادرًا ما يعبّرون عنها بوعيٍ جماعي أو بشكلٍ علني. فالتجارب المريرة علّمتهم أن إحياء مثل هذه الذكريات قد يتحوّل إلى وسيلة للاستغلال السياسي من قبل بعض الأطراف.
في كل عام، تمرّ ذكرى حملات الأنفال التي شنّها نظام صدام حسين ضد الكورد، دون أن تحظى بتفاعلٍ حقيقي من الرأي العام العراقي. السبب لا يعود إلى ضعف الذاكرة الجمعية، بل إلى سياسات رسمية عمدت إلى توظيف هذه المناسبات متجاهلةً أبعادها الوطنية والإنسانية.
لقد دأبت الحكومات المتعاقبة، ومعها أدواتها الإعلامية، على تبنّي خطاب سياسي مفرغ من المضمون الأخلاقي، فتسببت في خلق حالة من الحيرة واللامبالاة لدى الناس. هذا الأداء أضعف الثقة، وعمّق الانقسامات، حتى بات مشهد الحزن على طفل مؤنفل أمرًا نادرًا، بل وصل الحد ببعضهم إلى تبرير الجريمة أو مديح القاتل!
لو كانت السياسات الإعلامية طيلة العقدين الماضيين أكثر مهنيةً وعدالة، لكان العراقيون اليوم، بكل أطيافهم، في طليعة من يصرخون ضد جرائم الأنفال وغيرها من المجازر. لكن الخطاب الانتقائي والتوظيف السياسي حجب الرواية، وأحبط الشارع، وأحرج مؤسسات الدولة.
مرّت أكثر من أربعة عقود على المجازر التي ارتكبها نظام البعث بحق القرى والمدن الكوردية، تحت عنوان "الأنفال"، ومع ذلك ما زالت المواقف الرسمية باهتة، والمجتمع بلا بوصلة وجدانية حقيقية. صحيح أن المحكمة الجنائية العليا اعترفت بالأنفال كجريمة إبادة جماعية، لكن هذا الاعتراف لم ينجح في بناء وعي مجتمعي راسخ، ولا في منع كوارث مشابهة لاحقة. ولا حتى الرأي العام العالمي لم يفهم فداحة ما جرى إلا متأخرًا، لأننا لم نحسن رواية الحقيقة في وقتها.
علماء الاجتماع يدركون أن تغييب هذه الذكريات أو التعامل معها ببرود، يضعف الضمير الجمعي ويصيب المجتمع بخلل أخلاقي خطير. فالاحتفاء الحقيقي بهذه المناسبات لا يتم عبر البيانات الرسمية، بل بإحياء الوعي، وإشراك الأجيال في فهم ما جرى، ولماذا جرى.
ما يُفقد اليوم ليس فقط حدثًا تاريخيًا، بل رأسمالاً معنويًا وإنسانيًا ثمينًا. لقد بلغ الإنهاك الأخلاقي حداً بات فيه المجتمع غير قادر على النظر في صور الضحايا، أو استيعاب هول الجريمة. وهذا تهديد خطير لهوية هذا البلد ونسيجه الاجتماعي.
ولعلّ التجاهل المتعمّد لذكرى أنفال البارزانيين هذا العام نموذج فاضح لهذا الغياب. فلا مبررات كافية لتغييب هذه الفاجعة عن الوعي العام، لأن الذاكرة الجمعية لا تنتعش إلا إذا شعر المواطن بأنها تخصّه، وأنها من صميم قضيته.
إن إحياء هذه الذكرى لا يعني تضخيم أعداد الضحايا، بل التوقف لفهم كيف وصل الكورد إلى تلك اللحظة من التاريخ، وما الذي يجب أن يتغير حتى لا تتكرّر. إن خسارة رأسمال الثقة المجتمعية تضاعفت اليوم، وعلى المسؤولين أن يدركوا قيمة هذه المناسبات كبوابات لاستعادة الوحدة الوطنية.
إن الأنفال ليست مأساة كوردية فقط، بل كارثة عراقية بامتياز، تستحق أن تُحتضن من كل مكونات الشعب العراقي، لا كذكرى حزينة، بل كصرخة ضمير ضد الطغيان يسمع صداها في البصرة والأنبار ونينوى وكل بقعة على هذه الأرض، وخارطة طريق نحو مستقبل لا تُنسى فيه العدالة.