الاحتجاج وجدل الوجود والعدم
جاسم الحلفي
أجزم ان جميع التظاهرات التي خرجت على طغمة الفساد، لم ترفع شعارا واحدا ضد الدين، ولم يطلق فيها هتاف يمس المقدسات، ولم تعرّض اهزوجة واحدة بالشعائر الدينية. (شعار "بسم الدين باكونا الحرامية" هو تنزيه للدين وليس تطاولا عليه، فمعناه ودلالاته وقصته كاملة ساتناولها في عمود مقبل) وفي هذا لا نحتاج الى دليل لان التظاهرات اسلوب احتجاجي علني، رصدته وسائل الاعلام برمتها، وقسم من وسائل الاعلام مملوك لطغمة الفساد، التي لم تكن لتنتظر طوال هذه المدة لو كان تحت يدها دليل واحد يخدم حملاتها التشويهية.
لا، لم يكن الدين والمقدسات والشعائر هدفا للمحتجين، انما كان هدفهم (وما زال) طغمة الفاسدين الذين نهبوا اموال الدولة وافقروا شعبها، وانهزموا امام الارهاب بعد ان سلموا ثلث العراق الى داعش، من دون ان يحاسبهم احد. وهل هناك سلطة تحاسب المفسدين، وقد تمترس فيها الفساد؟
وقد توجه عدد من المحتجين نحو مراجعهم الدينية، وخصوا سماحة السيد علي السيستاني بنداءات استغاثة، وطالبوه بموقف حازم ضد من نالوا ثقته وشجع على انتخابهم وكسبوا شرعية انتخاب لم يكونوا ليحصلوا عليها لولا تزكية المراجع ودعمهم، لكنهم لم يبرروا الثقة التي منحت لهم، وخانوا الامانة، واداروا ظهورهم لناخبيهم، واصبح همهم السلطة التي تعني مكاسب شخصية لهم وجاها و امتيازات وصفقات فساد.
لم تجد طغمة الفساد تبريرا مقنعا تواجه به المحتجين ومطالباتهم المشروعة وحقهم في الخدمات ودفاعهم عن الاموال العامة، بعد ان طغى الفاسدون وأمتلكوا باموال الفساد الفضائيات والبنوك والجامعات، وسكنوا قصور الطاغية المقبور وتمترسوا بافواج الحمايات، في وقت يعبث فيه الارهاب والعنف والعصابات المسلحة والسلاح المنلفت في الشوارع والاسواق. لم تجد هذه الطغمة حجة لمواجهة غضب الناس إلا الضرب على قاعدة العلاقة بين التيار المدني والتيار الصدري والتنسيق بينهما في اطار حركة الاحتجاج، بأطلاق حملات تشويه، مرة باتهام التيار الصدري بشق وحدة البيت الشيعي، ومرة ثانية اتهام المدنيين بالالحاد، ومحاولة الظهور بمظهر المدافع عن الدين والقيم والاخلاق. من اين لمن نهب مليارات الدولارات من خزائن الدولة ان يتحلى بقيم واخلاق؟ ابدا، لا يمكن لمن نشر الجوع والذل والعوز، ان يدعي الايمان!
ان اتهام المحتجين على الفساد بالالحاد هو تجسيد لاندحار فكري واخلاقي، تم التعبير عنه بانفعال مضحك.
لم ينشغل المحتجون بجدل الوجود والعدم، ولم يكن هذا سببا لاحتجاجاتهم. انما احتجوا على الفساد والمفسدين، على المحاصصة التي وهبت اموال الدولة الى المتنفذين وحمتهم من الملاحقة القانونية، على فقدان الامن ونقص الخدمات، على منظومة الانتخابات التي صممت بهدف اعادة انتخاب المتنفذين والفاسدين، على ظواهر ازدياد جوع البائسين مقابل اتساع نفوذ الفاسدين.