لعنة "666" على الكورد الفيليين.. عندما ابادت شخطة قلم حياة الآلاف
شفق نيوز/ بشخطة قلم، قرر "رئيس مجلس قيادة الثورة" صدام حسين شطب الكورد الفيليين من الحياة، وتطبيق الاعدام الجماعي بحقهم منذ العام 1980، وفق القرار التشريعي رقم 666 الذي قرر من خلاله أن "تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة".
ولم يعد سرا أن ما جرى فعليا هو تسخير القانون لتحويله الى "ابادة جماعية"، اذ تكشفت الاحداث المتتالية من بعدها عن تآمر واضح من جانب النظام السابق على استهداف الكورد الفيليين بسلسلة من الخطوات والعقوبات والإجراءات التي تضافرت كلها لتنتج واحدة من أكثر جرائم النظام بشاعة، ان لم تكن الاكثر بشاعة بالفعل.
"جريمة العصر"
والآن، بعد مرور أكثر من 40 سنة على بدء مسلسل "جريمة العصر"، صار من الواضح أن النظام البعثي السابق ركز استهدافه لشريحة الكورد الفيلية بهدف القضاء عليها تماما، وهي جريمة تشكل جريمة ابادة جماعية بحسب القانون الدولي. فمن تخوين أقلية بأمها وأبيها، الى نزع الجنسية، الى اعتقال الآلاف، ثم الإبعاد الجماعي، ومصادرة الممتلكات والأموال وحتى فرض الطلاق بين الازواج، وصولا طبعا الى اختفاء عشرات آلاف المدنيين من الحياة، ما من توصيف أدق أكثر من فظاعة الجريمة التي ظلت الى حد كبير، مطوية كأنها أرشيف يراد ابقاءه طي الكتمان.
وللمفارقة فإن صدام حسين لم يكن المبادر او المحرض الاول هذه المرة على الجريمة الكبرى، فقد سبقه إلى ذلك الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر منذ العام 1970.
وكان من الواضح، بعدما تتالت إجراءات الاستهداف المباشر ان الكورد الفيليين استهدفوا لأنهم من الكورد، ولأنهم من الشيعة، ولأنهم كانوا ناشطين في إطار الحركات الكوردية والوطنية العراقية، ولان صدام حسين كان يؤجج المناخات المعادية لإيران واللعب على الغريزة الوطنية لتسخينها، استعدادا للحرب مع الايرانيين.
666
وبدأت حملة استهداف الكورد الفيليين منذ العام 1970 بعمليات اعتقال واختفاء كثيرين في مناطق مختلفة من العراق، وإبعاد اعداد كبيرة منهم الى ايران، وشمل ذلك مواطنين عاديين واكاديميين وناشطين وتجار وغيرهم. وخلال الحرب العراقية الإيرانية، أجبر العديد من العراقيين على تطليق الزوجة الفيلية أو الزوج الفيلي. وذهب الالغاء والقهر حد منع الكورد الفيليين من استكمال دراساتهم الجامعية العليا.
ولم يكن القرار الذي وقعه صدام حسين في العام 1980 مجرد حبر على ورق أو مجرد قرار لم ينفذ. لكن من المهم الاطلاع على نص القرار الذي حمل الرقم 666، إذ ينص كالتالي:
استنادا الى احكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والاربعين من الدستور: قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 7/5/1980 ما يلي:
1- تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة.
2- على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من اسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب الفقرة (1) ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق امر تستدعيه ضرورة قضائية او قانونية او حفظ حقوق الغير الموثقة رسميا.
3-يتولى وزير الداخلية تنفيذ هذا القرار.
ثم ذيل النص بتوقيع "صدام حسين، رئيس مجلس قيادة الثورة".
التبعية!
ويتواجد الكورد الفيليون في المناطق التي يسكنونها في العراق وبعض انحاء ايران منذ عقود طويلة أي ما قبل قيام الدولة العراقية الحديثة نفسها او انشاء حكم حزب البعث. وعاش الكورد الفيليون في العراق، ومن البصرة والمناطق الحدودية صعودا الى باقي محافظات الجنوب الاخرى وبغداد والسليمانية والمناطق الشمالية الاخرى.
وبالتالي فان التلميح في القرار إلى "الأصل الاجنبي" أو التبعية لاسقاط الجنسية هو طرح صريح للإقصاء والإبادة لمن لا توافق عليه السلطات الامنية او النظام السياسي الحاكم، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات غير منطقية لا في العراق وحده وانما في كل أنحاء العالم.
لكم المهم ان الجريمة جرى "تشريعها" الآن بالقرار 666، وراحت الحملات تتوالى على الكورد الفيليين في مناطق عيشهم التاريخية، في بغداد وغيرها من المحافظات العراقية. وقلة من الناس تعلم أن هذه الجرائم ارتكبت في ذلك الوقت، من دون أن يعلو صوت في العالم لمنع حدوث ذلك او حتى التنديد به، فصدام حسين كان وقتها "حارس البوابة الشرقية" ضد الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه في إيران، وهو بالتالي حاجة لبعض الدول العربية والعديد من الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة التي نسجت معه علاقات تنسيق وتعاون عسكري عالي المستوى.
وتظهر الوثائق والأحداث التي تلت القرار المشؤوم انه بالاضافة الى تجريدهم من الجنسية العراقية ومصادرة اموالهم المنقولة وغير المنقولة وتهجيرهم الى ايران بحجة تبعيتهم وسجن وتغييب نحو عشرات الآلاف من شبابهم مابين 17 الى 35 عاماً، فقد جرى ايضا تجريب الأسلحة الكيميائية عليهم بحسب الوثائق التي تم الكشف عنها بعد إسقاط النظام السابق في العام 2003.
ومن مفارقات المأساة الكوردية الفيلية أن أرقام الضحايا الدقيقة غير معروفة حتى الآن، ذلك ان عائلات أبيدت بأكملها او اختفت ولم يعرف مصيرها حتى الان.
قرار ساري المفعول
وتتردد أرقام متفاوتة، بين 70 الفاً و600 الف كوردي فيلي ابعدوا قسريا الى ايران، اما مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان فقد قدرت أن 65% من 20 ألف لاجئ في ايران هم من الكورد الفيليين الذين تم ترحيلهم بالقوة خلال الإبادة الجماعية. لكن هذا التقدير الأممي كان في العام 2003.
صحيح أن التدمير والتشتيت الممنهج ضد الكورد الفيليين توقف خلال مرحلة التسعينيات، لكن ذلك لم يكن بسبب "رأفة" انسانية من النظام، وإنما غالب الظن لانه اعتقد ان الهدف المركزي بتدمير هذه الشريحة قد حقق اهدافه الاساسية، بشطبها من حساباته، كما حاول صدام حسين "شطبها" العام 1980، بجرة قلم.
لكن مفارقات "الابادة الفيلية" ان تداعياتها لم تنتهِ حتى الآن، والدولة العراقية التي قامت فيما بعد ال2003، لم تفعل ما يكفي من أجل معالجة كل ما نتج عن جريمة القرار 666، واعادة احتضان أبناء الشريحة بما يليق بهم، وبما يليق بالتضحيات التي لم تشهد البشرية مثلها في دول اخرى في العصر الحديث، لكن يمكن التقاط خيوط تقاطعات مشابهة لها في ما جرى في المانيا النازية، وفي حروب الأقليات والاعراق في يوغوسلافيا السابقة، وفي همجية الابادة بين التوتسي والهوتو في رواندا.
وبرغم ان كثيرين من الكورد الفيليين استعادوا جنسيتهم العراقية الاصلية بحسب ما اعلنت وزارة المهجرين العراقية في العام 2010، لكن عددا لم يحصَ حتى الأن، غيبته مجاهل التهجير والابعاد القسري. كما أن ممتلكات ومنازل المهجرين قسرا والتي ضاعت منهم كمكافآت قدمها النظام السابق لرجاله وأعوانه في مختلف المناطق لم تسترد لملاكها الاصليين، او تعاد الى أصحابها "العراقيين".
وتشكل احدى التداعيات المأساوية لهذه الابادة المطوية، ان مصير الاف، ان لم نقل عشرات الالاف من الكورد الفيليين، لم تكشف حتى الآن، سواء اولئك الذين اختفوا بعد حملة الاعتقالات العشوائية بحق أبناء الطائفة في السبعينيات والثمانينيات، او الذي جرى قتلهم جماعيا واختفت عائلاتهم عن بكرة أبيها في أنحاء متفرقة من العراق على مر سنوات الابادة الطويلة.
ويشكل هذا الوضع ادانة لنظام ما بعد ال2003، ذلك أن ارشيف الانظمة العراقية السابقة بات متاحا منذ ذلك الوقت لمعرفة الحقائق او اغلبها، وكشف مصير ومجريات أحداث تلك المرحلة الدموية.
ويمثل هذا الواقع خيبة كبيرة للعراقيين عموما وابناء الكورد الفيليين الموعودون جميعا باحقاق الحق وبدولة أكثر عدلا بحسب الدستور العراقي الجديد الذي يذكر في مقدمته "مواجع القمع الطائفي من قبل الطغمة المستبدة، ومستلهمين فجائع شهداء العراق شيعة وسنة، عربا وكوردا وتركمانا، ومن مكونات الشعب جميعها، ومستوحين ظلامةَ استباحة المدن المقدسة والجنوب في الانتفاضة الشعبانية ومكتوين بلظى شجن المقابر الجماعية والاهوار والدجيل وغيرها، ومستنطقين عذابات القمع القومي في مجازر حلبجة وبارزان والأنفال والكورد الفيليين".
بارقة أمل تمثلت في قرار للمحكمة الجنائية العراقية العليا التي اعتبرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 ان ما جرى "جريمة ابادة جماعية" و"جرائم ضد الانسانية". كما ان مجلس النواب العراقي اعلن بالإجماع (في اجتماعه المنعقد في 1/8/ 2011) ان ما جرى "جريمة ابادة جماعية" بكل معنى الكلمة.
لكن قبور الضحايا لم تكشف الى الان، ولم يعرف القتيل بأي ذنب قتل. في الذكرى السنوية الماضية في الرابع من نيسان/أبريل، وجه رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني دعوة "لكون المحكمة العراقية العليا للجرائم قد عدت جريمة البعث هذه جريمة إبادة جماعية، فإننا نجدد مطالبتنا للحكومة العراقية بتعويض الكورد الفيليين وأداء واجباتها القانونية والأخلاقية تجاههم، ونطالبها بحل مشكلة إعادة الجنسية والأملاك المصادرة لهم".
فهل من يستمع؟