في كركوك.. مقهى لا أصوات فيه سوى "الهمهمات" وقرع أقداح الشاي (صور)
شفق نيوز/ ما ان تحط قدمك في سوق شارع المحاكم وسط مدينة كركوك حتى يتناهى إلى سمعك أصوات طرق أقداح الشاي، كما تجذبك رائحة هذا المشروب الساخن باتجاه أحد المقاهي الذي يرتاده الصم والبكم، فلا أصوات في هذا المقهى سوى الهمهمات ولغة الإشارة التي يتبادلها رواده.
تدخل المقهى وتجلس على المقعد ولا خيار أمامك سوى الحديث مع صاحب المقهى والعاملين فيه، أما مرتادوه فيجب عليك مخاطبتهم بإشارات اليد، إن كنت تجيدها، وإلى جانب الهمهمات وأصوات الأقداح هناك أيضاً صوت قرع أحجار الدومينو "الدومنة" اللعبة الشعبية الأكثر رواجاً في المقاهي العراقية.
مجموعة تلعب الدومينو، هذا يرفع القطعة ويضعها في مكانها، وآخر يبحث عن كيف يقتل دور صديقه الأصم الأبكم ليعيق تقدمه ويفوز عليه في هذه المباراة التي في غالبها تنتهي لفائز فردي أو زوجي حيث يتحمل الخاسر دفع ثمن المشروبات التي تناولوها.
ماجد حسن (22 عاماً) أحد لاعبي الدومينو المهرة، يمسك بيده سبع أحجار يجيد التصرف بها وأين يضعها في طريق خصومه ليخرج فائزاً، وعلى الرغم من أن منافسات الدومينو لا تخلو من حالات غش للفوز التي في حال اكتشافها من قبل الفريق الخصم تؤدي إلى خلافات وخصومات لا تتعدى التأنيب واللوم فقط، إلا أن اللافت في رواد هذا المقهى أنه حتى عند كشف حالات الغش لا يتجاوز الأمر لغة الإشارة، فلا أصوات تعلو ولا كلمات شامتة فقط إشارات يفهمونها هم فقط ومن يفهم لغتهم، لذلك في الغالب تكون علاقتهم وطيدة.
وما أن دخلنا المقهى وجلسنا حتى جاء أحمد عبد الجبار (23 عاماً)، أحد العاملين في المقهى، وألقى التحية بلغة الإشارة وقدم لنا قائمة بالمشروبات، وأشار بيده لنا لنحدد طلبنا وما هي إلا دقائق حتى وصلنا ما طلبنا من مشروبات.
كما أن عبد الجبار يشير بيديه ليستفهم عن كمية السكر التي يريدها الزبون في مشروبه، ثم بدأ بقرع الأقداح التي يعتبرها أحد الأمور الخاصة به و بالمقهى، و بالإشارات أكملنا حديثنا معه.
لكن تبين أن أحمد عبد الجبار، لا يعاني من مشكلة في النطق والسمع، وتحدث لوكالة شفق نيوز، قائلاً "أعمل في هذا المقهى منذ ثلاث سنوات وأقدم الشاي والقهوة وباقي المشروبات التي يطلبها الزبائن وجميعهم من الصم والبكم، وأنا أعد قائمة بالمشروبات وأسعارها أمام الزبائن".
ويضيف "العشرات من الصم والبكم يأتون إلى المقهى منذ ساعات الصباح الأولى، والكثير منهم يمتهنون أعمالاً مختلفة، وحين لا يجدون فرصة عمل يعودون للجلوس في المقهى لحين موعد الغداء حيث ينصرفون إلى مساكنهم ويعودون في المساء للمقهى".
وتشير إحصائيات دائرة المعاقين في دائرة صحة كركوك، ومنظمات مجتمع مدني، إلى أنه في كركوك يوجد نحو 13 ألف معاق بمختلف أنواع الإعاقات، بينهم نحو ألف من الصم والبكم.
وبهذا الصدد يقول الباحث الاجتماعي في كركوك والمختص في شؤون المعاقين محمد حسين، لوكالة شفق نيوز، إن "مقهى الصم والبكم يعتبر واحداً من المقاهي المميزة فهو يجمع الصم والبكم".
لكنه يشير إلى أنه "لا توجد رعاية حكومية خاصة لهذه الشريحة، وهذا المقهى يعد الأول من نوعه في كركوك، وما يميزه أنه يجمعهم ليتداولوا في أمورهم وهمومهم".
قصص اجتماعية يعاني منها الصم والبكم لا تختلف عن التي يمرّ بها غيرهم، ففي زاوية من المقهى يجلس أحد الزبائن يدخن "النركيلة" ويحتسي الشاي، إلا أنه يبدو شارداً وبعيداً عن العالم المحيط به.
ويوضح عبد الستار خضير (31 عاماً)، لوكالة شفق نيوز، أنه متزوج من امرأة هي الأخرى صماء وبكماء، ولديه ابن وبنت كلاهما يعانيان من نفس المشكلة، لكن هذا الأمر لا يشغله بقدر ما يشغله أمر آخر.
خضير وجد حلاً لمشكلة السمع عبر جهاز يوضع في الأذن، شائع الاستخدام، ومن خلاله تمكن من سماع أسئلتنا والإجابة عليها، حيث يشرح "قبل 8 سنوات تعرفت على فتاة من الصم والبكم وحصل تقارب وانسجام بيننا وتقدمت للزوج منها وتم عقد القران، وبعد عام رُزقنا بولد أسميناه محمد هو الأخر وُلِدَ فاقداً للسمع والنطق وبعدها بعامين رُزقنا بطفلة أسميتها زينب وهي كذلك لا تسمع ولا تنطق، وبعد مراجعات عديدة للأطباء تمكنا من تركيب جهاز سمع للطفلين، وهذا الأمر ساهم بصورة جزئية بتجاوزهما معاناة الاندماج مع المجتمع".
الحوار مع خضير دار الكلام حيناً، والإشارات تارة، والكتابة على الورق تارة أخرى، حيث يقول إنه "بعد سنوات واجه مشاكل عائلية مع زوجته لينتهي به المطاف إلى الانفصال عنها، وأصبح المقهى جزءاً من برنامجه اليومي، فهو يخرج للعمل منذ ساعات الصباح الأولى وإذا رزقه الله بشيء يعود مساءً ليقضي بعض الوقت في المقهى".
وبالإضافة إلى المشاكل الاجتماعية التي عادة ما تعتري أي مجتمع، فإن الصم والبكم وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة يعانون من مشكلة إضافية وهي "التنمر" التي عادة ما تدفع ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الانزواء عن المجتمع، أو اللجوء للعنف كرد فعل تجاه ذلك، في حين تختار فئة محدودة تقبل الأمر والتعايش معه.
وبهذا الصدد، يرى الباحث الاجتماعي عبد الكريم خليفة، في حديثه لوكالة شفق نيوز، أن "مقهى الصم والبكم يعتبر ذاكرة لمدينة كركوك، وهو فريد من نوعه لأن جميع رواده يتحدثون بلغة مختلفة، والمقهى يعتبر من الأماكن المهمة في تاريخ المدينة".
ويختم بالقول إن "أجيالاً عديدة من الصم والبكم يرتادون هذا المقهى وأنا أزوره بين فترة وأخرى لاحتساء الشاي، وتدوين حياة الأشخاص به وما التقطه من أمور عن حياة هذه الشريحة التي هي جزء من المجتمع العراقي".
تجدر الإشارة إلى أن معظم المحافظات العراقية توجد فيها مقاهٍ للصم والبكم ويكون أغلب روادها من هذه الشريحة، وللعاصمة بغداد "نصيب الأسد" من هذا النوع من المقاهي، كما أن المقاهي الأخرى لا تخلو أيضاً من وجود أفراد يعانون من مشكلة السمع والنطق.