بعد كَسْرِهِنَّ أغلال داعش: فتيات يرسمنَ حياتهنَّ من جديد
شفق نيوز/ لم تتخيل الشابة الأرمنية راشال ديال أرماندو، وهي من العاصمة دمشق، أن زيارتها أقاربها في مدينة الرقة شمال سوريا قبل خمس سنوات، ستكون نفقاً مظلماً سيقلب حياتها.
الفتاة عانت أياماً وسنوات من نير الاستعباد الجنسي والنفسي والجسدي، بعدما خطفها تنظيم “داعش” مع عائلتها عام 2014.
حينها، وبعد أن سيطر مسلحو داعش على مساحات واسعة في سوريا والعراق، تم سوق الطفلة راشال قسراً من عائلتها بعد التكبير عليها، وإجبارها على اعتناق الإسلام. تم زجّها في معسكرات لتلقي دروس دينية وحفظ القرآن، وتم تدريبها على مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة لتنفيذ عمليات انتحارية بحق أبناء شعبها.
لكن راشال نجت وعادت
تحت أضواء عدسات الصحافيين سردت الفتاة التي لم تتجاوز الستة عشر عاماً قصتها. فعلت ذلك في مؤتمر صحافي نظمته هيئة العلاقات الخارجية بحضور مطران الأرمن الأب انترانيك، الذي تكفل بتسليمها لذويها، وشخصيات أرمنية ومسؤولي الإدارة الذاتية الكوردية في شمال سوريا. روت راشال للحاضرين قصة زواجها بالإكراه وهي في الحادية عشرة، من مقاتل خمسيني من مدينة إدلب، يكنى بـ”أحمد عبد القادر الشيخ”، في قرية الشعفة شمال غربي مدينة البوكمال، على الحدود السورية – العراقية. روت كيف تنقلت كعبدة جنس بين مدن سورية كثيرة، سيطر عليها التنظيم المتشدد، إلى أن تحررت على يد “قوات سوريا الديموقراطية”، منطقة الباغوز شرق مدينة دير الزور آخر جيب لتنظيم داعش في وادي الفرات. بحسب "درج"
اليوم عادت راشال إلى دمشق واجتمعت بمن بقي من عائلتها، وهي تحاول رسم ملامح حياة جديدة تساعدها في تجاوز المحنة التي عاشتها.
مع انهيار تنظيم داعش بدأت تظهر تباعاً حكايا عائلات ونساء وفتيات ممن تعرضن لحملة السبي المهولة التي نفذها التنظيم بحق الأيزيديات وأقليات صغيرة أخرى. عادت عدد من النساء والعائلات لكن ما يزال مصير ما يفوق ألفي امرأة مجهولاً.
حياة جديدة
بأناملها الناعمة تلتقط ريم حسن، باقة من ورود الاقحوان الاصطناعية، ترتبها في مزهريات خزفية ملونة وجميلة، وتضعها على الرفوف داخل محلها لبيع الزهور والصمديات، في مدينة منبج شمال شرقي محافظة حلب، والمعروف بمحل “الأمل”، الاسم الذي يشبه إرادتها في رسم حياة جديدة. فرت ريم من مدينة الرقة التي كانت أسيرة وسبية فيها قبل ثلاث سنوات. تقول: “كبّلتني مشكلتي بقيود كثيرة، فكسرتها، وبدعم من عائلتي المؤلفة من سبعة أشخاص وصديقاتي، انطلقت لأعيش أياماً وسنوات آتية بسعادة”.
أصرت ريم على متابعة فيديوات التقارير الإخبارية التي تحفظها في هاتفها النقال، والتي تثبت تهاوي دولة الخلافة في سوريا، ما يمنحها نشوة الانتصار على من نهشوا أمن مدينتها وأمانها، كما تقول.
بكلمات متلعثمة ووجه غاضب سردت الحسن (22 سنة)، تفاصيل حكايتها، التي بدأت ببلاغ تقدم به أحد جيرانها المنتسب إلى التنظيم بحق عائلتها، بتهمة التستر على ارتكاب “الفاحشة”، بذريعة عدم عقد قرانها رسمياً على خطيبها في محاكم دولة الخلافة، فاقتحمت دورية لمسلحي التنظيم والحسبة منزلهم مدججة بالأسلحة، واعتُقلت ووالدها وخطيبها الذي جاءهم زائراً لتهنئتها بعيد ميلادها بحسب روايتها. وتضيف: “قتلوا خطيبي وجلدوا والدي 80 جلدة، وساقوني إلى مدرسة كانت سجناً مكتظاً بعشرات الفتيات والنساء المعتقلات بتهم واهية، لم يتوانوا عن شحذ سكاكينهم لحز رؤوس من طاب لهم بحجج تافهة، فيما الجلد والضرب بالكرباج والصعق بالكهرباء والاغتصاب هو مصير القابعات في أقبية سجونهم المظلمة التي جعلت أحلامنا رمادية”.
ريم في محل الزهور الذي تعمل فيه
اغتصاب ونجاة
بعد أيام على اعتقال ريم وُهبت مع فتيات أخريات إلى لمقاتلي “داعش” بالقرعة واصطحبها عبد الرحمن الأردني، وهو من أمراء التنظيم الى مدينة الرقة، حيث تعرضت للاغتصاب والعنف. بعد مقتله في غارة جوية للتحالف على المدينة، تمكنت ابنة منبج من الفرار: “نجحت بعد ثلاث محاولات فاشلة كادت تودي بحياتي في كل مرة، بالعودة إلى حضن عائلتي بمساعدة أولاد الحلال”.
لم تستسلم ريم للحظات اليأس التي عاشتها، ونجحت في توفير مورد رزق لها لتأمين حياة كريمة: “ليس هناك أجمل من التفاؤل والتمسك بالأمل حتى إن كان صغيراً”.
تقول ريم إن والدتها طرحت عليها فكرة العودة إلى ممارسة هوايتها القديمة في صناعة الزهور والألعاب وصناعة الاكسسوار، ووالدها وشقيقها دعماها في فتح محلها الصغير وبيع الزهور.
وتحرص على متابعة مقاطع الفيديو الجديدة على موقع “يوتيوب”، لتطوير إمكاناتها، ولفتت إلى أنها شاركت في معارض أقيمت في مدينتها.
100 سورية تم بيعهن في الموصل
أحداث شبيهة بكوابيس مرعبة لاحقت ماري، وهو اسم مستعار لشابة مسيحية، من ريف مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، عانت التعنيف الجسدي والنفسي، من قبل مسلحي تنظيم “داعش”، بعد احتلالهم قرى “خابور” الآشورية قبل أربع سنوات، وكغنيمة حرب سيقت إلى أسواق الرق بين الموصل العراقية والرقة ومنبج، ودير الزور والميادين السورية.
تقول: “دخلت مجموعات مسلحة من داعش القرية، وهددت بقتلنا، وجمعنا العناصر نحن النساء والفتيات وأخذونا إلى مدينة الموصل العراقية. كان يوم جمعة حين عرضونا في سوق قريب من جامع، للبيع. كنا حوالى 100 سورية، بيننا مسيحيات وعلويات وشيعيات، باعونا على دفعات إلى جانب مئات الأيزيديات العراقيات”.
كشفت وزارة حقوق الإنسان في العراق في تموز/ يوليو 2015 أن “تنظيم داعش أنشأ في مدينة الفلوجة سوقاً للنخاسة والاسترقاق الجنسي، مستقدماً حوالى 100 من النساء اللاتي يحملن الجنسية السورية، كسبايا وتم بيعهن في سوق مجاور لجامع الفلوجة الكبير”. ولفتت إلى أن “أسعار البيع تراوحت بين 500 إلى 2000 دولار بحجة بدعة جهاد النكاح”.
ماري تحاول استئناف حياتها
نجاح وذكريات مؤلمة
لملمت ماري الندوب النفسية المحفورة في قلبها، وأعادت ترتيب حياتها من جديد. تعلمت صناعة الحلويات في مدينة الحسكة، وصناعة المعجنات الشرقية وتجهيز طلبات الأعراس والمناسبات السعيدة كرأس السنة وعيد الفصح وأعياد الميلاد وغيرها.
وإذ تتفنن ماري في كل ما تصنعه، يقدّر زبائنها الأمر ويتهافتون إلى محل “دوق وتهنى”، وهو لصديق والدها، وتعمل فيه ماري 8 ساعات متواصلة.
تعلمت ماري من والدتها وشقيقها أصنافاً جديدة من الحلويات التي تضفي لها بدورها نكهات جديدة، وأشكالاً وملامح ترسمها بالكريمة الملونة. تمضي جل وقتها في الدراسة والعمل والعزف على آلة “الكمان” لعائلتها المؤلفة من خمسة أشخاص وصديقاتها اللواتي كن عوناً لها في أزمتها.
ترتسم على وجه الشابة ذات العشرين ربيعاً علامات التعب والوجع، وتعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامة ما زالت تخفي وراءها ذكريات أليمة وتقول: “ما أصعب أن ينتهك جسدك بدعوى تطبيق شرع الله، الرب بريء منهم”.
وتعرضت الشابة خلال فترة اختطافها للاغتصاب مرات لا تحصى وتضيف: “أنيابهم نهشتنا بالقرعة، وبالقرعة تقاسمونا، وتلذذوا بتعنيفنا وانتهاك كرامتنا”.
تردف بنبرة خافتة: “كم تمنيت حينها أن أنزع جلدي لأتخلص مما علق عليه من دنسهم، لم يراعوا الخالق في أجسادنا ولم يبالوا لآلامنا، كانوا يتركوننا جياعاً لأيام، ناهيك بالضرب المبرح والإهانة والشتم، خبزنا اليومي آنذاك”.
وعثرت عائلة ماري على صورتها معروضة في أحد أسواق النخاسة الإلكترونية الذي يديره التنظيم، وتمكنت من تحريرها عبر شبكة مهربين حرروها من مدينة الميادين قبل نحو ثلاث سنوات. كان لدعم العائلة والأصدقاء أثره الكبير في دفع ماري لرسم مستقبلها بيدها والعودة الى الدراسة من جديد.
وتتحضر الشابة العشرينية لدخول امتحانات الباكلوريا بمعنويات عالية، لتحصل على علامات تؤهلها لدخول كلية التاريخ، الفرع الذي لطالما أحبت دراسته، إلى جانب عملها في صناعة الحلويات وبيعها.
تستبعد ماري فكرة الهجرة إلى أوروبا، على رغم المغريات الكثيرة في بلاد الأضواء الجميلة كما تقول، لكنها لا تحبذ الغربة، وتؤكد أن مستقبلها في أرضها وداخل بلدها. وتسعى ماري لتؤسس محلها الخاص، وربما تكون لها علامة تجارية خاصة، تمكنها من التصدير إلى الخارج.
لقد تمكنت فظاعات داعش من تشريد وتشويه مصائر فتيات ونساء عديدات، لكن من خلال حكايات راشال وريم وماري وغيرهن، نشهد محاولات استعادة هؤلاء الفتيات حياتهن واستكمالها من جديد.