العراق يودّع "يونامي" بجملة "مخاوف"
شفق نيوز- بغداد
يستعد العراق لوداع بعثة الأمم المتحدة "يونامي" بعد أكثر من عقدين من العمل الدبلوماسي والإنساني المعقّد، في تطور يُعدّ من أكثر التحولات حساسية في علاقة العراق بالمجتمع الدولي منذ عام 2003.
يأتي ذلك، بالتزامن مع وصول الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش، إلى العاصمة بغداد، للمشاركة في مراسم الإعلان الرسمي لانتهاء أعمال ولاية بعثة الأمم المتحدة في العراق (اليونامي).
وبينما تمضي الحكومة العراقية نحو إنهاء ولاية البعثة نهاية العام 2025، تتصاعد الهواجس من "فراغ إنساني وسياسي" قد تتركه هذه الخطوة، في وقت يؤكد فيه مختصون أن القرار اتُّخذ على عجل وتحت ضغط الشارع أكثر من استناده إلى قراءة موضوعية للواقع.
وتُعدّ بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي"، بعثةً سياسيةً خاصة أُنشئت في العام 2003 بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1500، واستجابةً لطلب الحكومة العراقية.
وقرر مجلس الأمن الدولي في أيار/ مايو 2024 تمديد مهمة البعثة الموجودة في البلاد منذ العام 2003، لفترة أخيرة حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2025، بناءً على طلب الحكومة العراقية.
وطلب رئيس مجلس الوزراء العراقي المنتهية ولايته محمد شياع السوداني قدم رسمياً في 21 أيار/ مايو 2024، في رسالة موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إنهاء ولاية بعثتها لتقديم المساعدة إلى العراق "يونامي" بشكل نهائي اعتباراً من 31 كانون الأول/ ديسمبر 2025، على أن تقتصر جهودها خلال الوقت المتبقي على استكمال أعمالها فقط في ملفات الإصلاح الاقتصادي، وتقديم الخدمات، والتنمية المستدامة، والتغير المناخي، وغيرها من الجوانب التنموية.
آثار إنسانية وسياسية سلبية
خروج البعثة سيترك "فراغاً إنسانياً واسعاً"، بحسب رؤية المختصين بهذا الشأن، إذ لا تمتلك الحكومة العراقية القدرة على تعويض تلك البرامج أو تغطية الاحتياجات التي كانت تلبيها، ولا توجد جهات أخرى قادرة على سد هذا النقص في الوقت الراهن.
ويقول القانوني محمد جمعة، العامل في إحدى منظمات الأمم المتحدة، إن قرار الحكومة العراقية بإنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة جاء "مستعجلاً" ونتيجة ضغوط شعبية أكثر من كونه مبنياً على قراءة موضوعية للواقع.
بعثة الأمم المتحدة، وعلى غرار جميع البعثات الأممية، تلتزم بمغادرة أي بلد يطلب منها رسمياً إنهاء مهامها، إلا أن القرار العراقي يحمل جوانب سلبية واضحة، لاسيما أن البعثة كانت تشرف على برامج إنسانية تخدم آلاف المستفيدين من الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، بحسب حديث القانوني لوكالة شفق نيوز.
وفي الجانب السياسي، يعتقد جمعة، أن تأثير البعثة لم يكن جوهرياً في المشهد الداخلي، إلا أن إنهاء عملها سينعكس سلباً على صورة العراق الدولية وتقارير التقييم المرتبطة بالالتزامات والبيئة السياسية والمؤسساتية في البلاد، مشيراً إلى أن "القرار اتُّخذ على نحو غير مدروس، وتحت تأثير المزاج العام، من دون الالتفات إلى تبعاته الإنسانية الواسعة التي ستتحملها الفئات الأكثر هشاشة".
ومنذ مباشرة أعمالها، شهدت البعثة توسعاً كبيراً في مهامها، ولاسيما بعد صدور القرار 1770 في العام 2007، حيث يتركز التفويض الرئيس ليونامي على تقديم المشورة والدعم لحكومة وشعب العراق في مجالات عدة، أبرزها تعزيز الحوار السياسي الشامل، ودعم جهود المصالحة الوطنية والمجتمعية، والمساهمة في العملية الانتخابية، وتيسير الحوار الإقليمي بين العراق ودول الجوار.
كما تضطلع البعثة بدور محوري في التنسيق بين المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني من جهة، ووكالات وبرامج وصناديق الأمم المتحدة من جهة أخرى، بهدف تنظيم الجهود الإنسانية والإنمائية داخل العراق.
وعلى الرغم من أن "يونامي"، لا تنفذ برامج إنسانية وتنموية بشكل مباشر، فإنها تعمل على إبراز التحديات ذات الصلة وربط الشركاء العراقيين بالخبرات الفنية المتاحة ضمن منظومة الأمم المتحدة.
ويتولى رئاسة البعثة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، ويساعده نائبان، أحدهما يشرف على الشؤون السياسية والمساعدة الانتخابية، فيما يتولى الثاني إدارة الجهود الإنسانية والإنمائية للأمم المتحدة، ويعمل كذلك منسقاً مقيماً ومنسقاً للشؤون الإنسانية في العراق.
وفي مطلع الشهر الجاري، قال الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، محمد الحسّان خلال إحاطته أمام مجلس الأمن بشأن الوضع في العراق وقُبيل انتهاء ولاية "يونامي"، إن "هذه الإحاطة تأتي قبيل انتهاء مهمة يونامي وتعد الأخيرة"، مشيراً إلى أن "انتهاء مهام بعثة الأمم المتحدة في العراق لا يعني نهاية التعاون معه بل بداية فصل جديد".
ملفات البيئة وحقوق الإنسان في خطر
ويحذّر رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان، علي العبادي، من التداعيات السلبية التي قد ترافق إنهاء أعمال بعثة الأمم المتحدة في العراق، مؤكداً أن خروجها سيؤثر في قدرات المؤسسات المحلية على معالجة ملفات معقدة تحتاج إلى خبرات دولية متخصصة.
ويقول العبادي، في حديث لوكالة شفق نيوز، إن البعثة كانت توفر دعماً فنياً مهماً في ملفات التلوث، البيئة، حقوق الإنسان، وتمكين المؤسسات الرقابية، مضيفاً أن فرق الأمم المتحدة تمتلك صلاحيات دولية لا يمكن تعويضها بسهولة داخل المؤسسات الوطنية.
هناك العديد من ملاحظات سابقة تتعلق بآليات عمل البعثة، من بينها التمويل، وسلوك بعض الموظفين، إضافة إلى ما وصفه العبادي، بـ "تصورات عن انحيازات" في التعامل مع بعض الملفات الحكومية، وهو ما دفع جزءاً من المجتمع المدني إلى توجيه انتقادات لأداء البعثة في سنواتها الأخيرة.
وبحسب الحقوقي، فإن مغادرة الأمم المتحدة قد تخلق من جهة "مساحة إيجابية" للكشف بشفافية عن مسارات التمويل والبرامج التي كانت تديرها، لكنها ستترك من جهة أخرى فراغاً كبيراً في دعم المنظمات المستقلة التي لم يُتح لها العمل بحرية كافية خلال وجود البعثة.
ويضيف العبادي أن أحد أبرز الإشكالات تمثل في عدم نقل الصوت الاحتجاجي العراقي بوضوح إلى المجتمع الدولي، مؤكداً أن كثيراً من الملاحظات والملفات الحقوقية لم تُعكس بالصورة المطلوبة.
وفي الختام، يلفت إلى أن إنهاء عمل البعثة "سيضع المؤسسات العراقية أمام اختبار حقيقي" لتعويض غياب الخبرات الدولية ومواصلة العمل على الملفات الإنسانية والبيئية والرقابية التي كانت الأمم المتحدة تشرف على جزء كبير منها.
وعلى الصعيد الإنساني، عززت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) دورها بشكل لافت خلال الحرب ضد تنظيم "داعش"، حيث ركزت أولوياتها على تقديم الدعم والإغاثة لملايين النازحين، وتنسيق جهود وكالات الأمم المتحدة في مجالات إعادة الإعمار والخدمات الأساسية وإعادة الاستقرار في المدن المحررة، كما أسهمت البعثة في دعم البرامج الصحية والتعليمية ومشاريع توفير مياه الشرب، بالتعاون الوثيق مع مؤسسات الدولة العراقية.
أما في مجال حقوق الإنسان، فقد أصدرت "يونامي"، عشرات التقارير الدورية التي رصدت أوضاع السجون، والاختفاء القسري، وحالات الاغتيال السياسي، واستهداف الأقليات، بالإضافة إلى توثيق الانتهاكات التي ارتكبها تنظيم داعش بحق الإيزيديين، حيث اعتمدت هذه التقارير كمراجع أساسية من قبل المؤسسات الدولية والجهات التشريعية العراقية.
انتقادات حادة لدور الأمم المتحدة
إلى ذلك، وجّه الباحث في الشأن السياسي، الناصر دريد المقيم في كندا، انتقادات شديدة للأمم المتحدة على خلفية ما وصفه بـ "المرحلة الختامية" لوجود بعثتها في العراق، معتبراً أن إرسال المبعوث الأممي الأخير محمد الحسان لم يكن بهدف متابعة الملفات الجوهرية، بل لوضع "الفصل الأخير" لإنهاء مهمة المنظمة الدولية في البلاد.
ويقول دريد، في حديث لوكالة شفق نيوز، إن مهمة الحسان لم تتعلق بمتابعة ملفات حقوق الإنسان، والمرأة، والمعتقلين، وحرية التعبير، ولا بمراقبة تطورات النظام السياسي، بل جاءت، لإنهاء الدور الأممي “بأقل خسائر ممكنة” وتقديم “شهادة مخففة” لا تعكس الواقع العراقي، بحسب تعبيره.
هذا النهج يبتعد كثيراً عن جهود الممثلة السابقة للأمم المتحدة جينين بلاسخارت التي حاولت التواصل مع الشباب العراقي ونقل مطالبهم، والكلام لدريد، الذي تابع قائلاً إن "التقرير الأخير للمبعوث الأممي لا يعبر عن حجم الانتهاكات والتراجع المستمر في الوضع الداخلي، وأن استمرار هذا التوجه سيُسجّل في المستقبل كإخفاق كبير للأمم المتحدة لأنها رأت ما يجري وابتعدت عنه".
ووفقاً للباحث العراقي، فإن حالة الصمت والركود الشعبي داخل العراق شجّعت المجتمع الدولي على تجاهل ما يحدث، مبيناً أن ضعف المشاركة الشعبية في الانتخابات الأخيرة، وعدم بروز احتجاجات واسعة، منح القوى الدولية “مبرراً إضافياً” لخفض اهتمامها بالملف العراقي.
ويختتم دريد، حديثه قائلاً إن "انتهاء عمل يونامي ليس حدثاً بروتوكولياً بل واقعة حزينة تشبه التشييع:، معتبراً أن "البعثة لم تنسحب فحسب، بل انتهت فعلياً نتيجة ثلاثة عوامل وهي أداء السلطة السياسية، وتخلي المجتمع الدولي، وسلبية العراقيين تجاه ما يجري".
وتتطلب بعثات الأمم المتحدة عادة موافقة الدولة المضيفة، فقد أقر مجلس الأمن الدولي أمس الخميس بالإجماع طلب تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة في العراق. وقرر المجلس تمديد عمل البعثة لفترة أخيرة مدتها 19 شهراً، تنتهي في 31 كانون الأول/ديسمبر 2025، وبعد هذا التاريخ ستنهي البعثة عملها وعملياتها بشكل كامل.
وتأسست البعثة عام 2003 عقب الغزو الأميركي والبريطاني للعراق، وشملت ولايتها، التي تم تعزيزها في عام 2007 وتجديدها سنوياً، تقديم الدعم للحكومة العراقية في مجالات عدة، أبرزها تعزيز الحوار السياسي الشامل، المصالحة الوطنية، تنظيم الانتخابات، وإصلاح قطاع الأمن.