"الرواتب مهددة".. انكماش السيولة يضغط على المصارف العراقية
شفق نيوز- بغداد
دخلت المصارف العراقية مرحلة حساسة مع تراجع السيولة المتاحة لديها، وسط ارتفاع الالتزامات المالية وضعف تدفق النقد، ويثير هذا الوضع مخاوف متزايدة من احتمالات تأخر صرف رواتب الموظفين خلال الفترة المقبلة، ما يضع الجهات الرسمية أمام تحدٍ مالي معقد.
وتحذر جهات برلمانية واقتصادية من اتساع الفجوة بين الإنفاق الحكومي وإيرادات النفط، ما يضع البلاد أمام وضع مالي صعب ينعكس مباشرة على حياة المواطنين.
وتأخرت رواتب الموظفين هذا الشهر عن موعدها المعتاد بسبب نقص السيولة لدى المصارف الحكومية، الأمر الذي انعكس أيضاً على صرف رواتب المتقاعدين التي شهدت تأخيراً مماثلاً.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن المصارف تواجه صعوبة في توفير المبالغ المطلوبة في الوقت المحدد، ما أدى إلى تأجيل إطلاق المستحقات المالية لعدة أيام، وسط مخاوف من تكرار الأزمة خلال الأشهر المقبلة إذا لم تعالج مشكلة السيولة بشكل سريع.
تأخير الرواتب
وفي هذا السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي ضرغام محمد علي أن السبب هو ارتفاع سقف العجز في الموازنة والذي تم تقديره على سعر برميل نفط مرتفع لم يتحقق، وهو ما زاد قيمة العجز وولد ضغطاً على حوالات الخزينة التي تبيعها الحكومة للمصارف وفق أدوات الاقتراض الداخلي.
ويضيف علي لوكالة شفق نيوز، أن هذا الأمر قلل الودائع المتاحة للاستثمار ضمن حوالات الخزينة، وهو ما يقلل قدرتها على إقراض الحكومة، وهو ما يولد ضغطاً على تمويل التزامات تشغيلية ضخمة "في ظل إيرادات نفطية أقل بـ25% عن المتوقع".
ويشير إلى أن هذا الوضع ولد تأخيراً نسبياً وإرباكاً إدارياً في تغطية الرواتب في وقتها المحدد على ما يبدو لأن كل الأعذار الأخرى لا تقع في سياق اقتصادي وإنما إداري بحت.
بدوره يؤكد الخبير المالي والمصرفي محمود داغر أنه "لا يمكن إيقاف الرواتب، حتى لو استدعى ذلك الاقتراض من الخارج".
ويضيف داغر لوكالة شفق نيوز أن حماية حقوق الموظفين والالتزام بصرف الرواتب في وقتها المحدد تعتبر "أولوية قصوى"، مهما كانت الظروف المالية أو الضغوط الاقتصادية.
"تجمد 93 تريليون دينار"
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي محمد الحسني ان "الجزء الأكبر من الكتلة النقدية والبالغة 93 تيرليون دينار من أصل 99 تيرليون دينار مودع لدى المواطنين في منازلهم، بدلاً من القطاع المصرفي، وذلك بسبب ضعف ثقة المواطنين بالمصارف المحلية، الأمر الذي أدى إلى خروج هذه الأموال من الدورة الاقتصادية، مما فاقم الأزمة المالية".
ويلفت الحسني في حديث لوكالة شفق نيوز إلى أن السياسة المالية في العراق "دخلت في حالة عجز" عن ضبط المعروض من العملة المحلية، وتوفير السيولة الدينارية، والإيفاء بالتزامات الحكومة الداخلية من رواتب ونفقات تشغيلية أخرى، ويعد هذا الوضع بمثابة "إنذار مبكر للآثار السلبية التي قد تصيب الاقتصاد الوطني بكامله مستقبلاً".
ويدعو الحسني إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز الثقة في القطاع المصرفي العراقي، والعمل على جذب الأموال المودعة في المنازل إلى المصارف، فضلاً عن تعزيز الإيرادات الجمركية والضريبية والقضاء على الفساد وضغط النفقات.
وتُظهر بيانات البنك المركزي العراقي أن نحو 87% من الكتلة النقدية، أي ما يعادل 95 تريليون دينار (نحو 72.5 مليار دولار) من أصل 109 تريليونات، لا تزال محفوظة خارج النظام المصرفي.
وتذهب نحو 80% من الموازنة التشغيلية في العراق إلى رواتب الموظفين والمتقاعدين الذين يتجاوز عددهم السبعة ملايين شخص.
تمويل النفقات
من جانبه، يؤكد المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء العراقي، المنتهية ولايته، مظهر محمد صالح أن الإطار التشريعي النافذ يمنح وزارة المالية مرونة واضحة في إدارة الأموال والسيولة داخل الجهاز المالي للدولة، بما يتيح تدوير السيولة دون الإخلال بملاءة المصارف الحكومية أو آليات العمل المالي المؤسسي.
ويوضح صالح لوكالة شفق نيوز أن "الحكومة، وفي ظل غياب السلطة التشريعية، لا تمتلك أي صلاحية دستورية أو قانونية تتيح لها اللجوء إلى الاقتراض السيادي، سواء داخلياً أو خارجياً".
ومع ذلك، يجيز القانون - بحسب صالح - بصورة قانونية ومشروعة اللجوء إلى السلف قصيرة الأجل من الخزينة، والممولة حصراً من المصارف المملوكة للدولة، باعتبارها إحدى أدوات إدارة السيولة الحكومية، ودون أن تعد هذه الترتيبات اقتراضاً سيادياً بالمعنى القانوني.
ويبين أن السلف تشكل الإجراء القانوني الوحيد المتاح لضمان استمرار تمويل النفقات الأساسية للدولة خلال الفترة الحالية، إلى حين استعادة السلطة التشريعية صلاحياتها وإصدار التشريعات المالية اللازمة.
"انهيار موجودات الرافدين"
وفي ظل هذه الظروف، كشف مصدر مطلع عن تكرار الأزمات المالية في مصرف الرافدين الحكومي وفي مقدمتها أزمة نقص السيولة التي أدت إلى "تعثر المصرف في احتواء الأزمة الأخيرة ما تسبب بتأخر صرف رواتب المتقاعدين".
ويشير المصدر خلال حديثه لوكالة شفق نيوز إلى أن هذه التطورات تثير تساؤلات ملحة حول مصير السيولة المالية للمصرف خلال السنوات الماضية في ظل استمرار الأزمات رغم كبر حجم الموارد المالية التي كان يمتلكها.
ويضيف أن المسؤولية الأكبر باتت اليوم تقع على عاتق الجهات الرقابية وهيئة النزاهة والقضاء من أجل فتح تحقيق شامل والتدقيق في إدارة الأموال وأين ذهبت ومقدار المبالغ التي تم صرفها، والموجودات الحالية في المصرف، وكشف الحقائق أمام الرأي العام حفاظاً على المال العام.
ويقول إن "هناك تراجعاً كبيراً في موجودات مصرف الرافدين خلال السنوات الأخيرة"، موضحاً أن "موجودات المصرف كانت في وقت سابق تتجاوز 20 تريليون دينار فيما انخفضت اليوم لتصل إلى نحو تريليون دينار فقط أو أقل"، بحسب قوله، ولم يتم التثبت من صحة هذا الادعاء والأرقام بشكل مستقل.
ويبيّن أن "هذا التراجع يثير تساؤلات واسعة حول أسباب الانخفاض الحاد في أرصدة المصرف في ظل تصاعد الأزمات المالية وتأخر بعض الالتزامات"، داعياً الجهات الرقابية والمالية إلى "فتح تحقيق شفاف ودقيق لتوضيح مصير هذه الأموال".
وتأتي هذه التحذيرات في وقت يخشى فيه المراقبون من تزايد التحديات المالية التي تواجه الاقتصادي العراقي بشكل مقلق، في ظل الإعلان عن ارتفاع الدين الداخلي إلى نحو 90 تريليون دينار عراقي (نحو 69 مليار دولار)، وهو مستوى غير مسبوق في البلاد.