وإذا الملوك سئلت بأي ذنب قتلت!
خالد الدبوني
سنويا يحتفل العراقيون بأشهر عملية اغتيال جرت في بغداد في خمسينيات القرن الماضي، اغتيال عائلة كاملة خرجت تحمل كتاب الله فوق رؤوسها والراية البيضاء بأياديها المنزوعة السلاح فقابلها اصحاب البساطيل بالرصاص ثم بالتعليق والسحل في ابشع انقلاب عسكري شهده تاريخ العراق.
لا زالوا يحتفلون بإسقاط النظام السياسي الشرعي للبلد وتحويل التداول السلمي للسلطة إلى اسلوب القبض على السلطة بالقتل والسحل والنهب والسلب.
يحتفلون بتاريخ انهيار الدولة العراقية الفتية التي وضعت خطة طموحة نزيهة، كفوءة (مجلس اعمار العراق) لاعمار البلد وفق رؤية استراتيجية تصل الى عام 1969 ليكون العراق مساويا لسويسرا والسويد في ذلك الوقت. فأين اصبح العراق في 1969؟ واين اصبح في 79 ،89، وأخيرا وليس آخرا في 2019؟!!
مقتل العائلة الملكية فجيعة كبرى
لم يكن حدثاً عابراً في حياة العراقيين حين فجعوا بمقتل آخر ملوك العراق فيصل الثاني، ووصي العرش خاله عبد الإله، ومقتل مؤسس الدولة العراقية رئيس وزرائها نوري السعيد، الذي استلم رئاسة الحكومة أربع عشرة مرة، بعد أن خانه أقرب المقربين إليه من حمايته، ورجال كانوا مؤتمنين على حياته أمثال المرافق العسكري الشخصي له، الذي تآمر عليه وأطلق النار - قبيل موته منتحراً - على رأسه ليسحبه الغوغاء إلى الشوارع يسحلون جثته على الأسفلت، كما مثَّلوا بالوصي قبله، ليسدل الستار على واحد من دهاة السياسة في عالمنا العربي، بحسب توصيف اغلب الباحثين والمحللين .
بعد كل هذه الكوارث والنكبات ولا زلنا نحتفل بما فعلناه بأيدينا . والمفارقة اننا لا نعتذر عما فعلنا !بل اننا نطلب من الانكليز ان يعتذروا عما فعله جنرالهم لجمن في 1917 ومن الامريكان ان يعتذروا عما فعلوه في 91 و2003 ولكن لا نفكر نحن ابدا بالاعتذار للعائلة المالكة وللقانون والشرعية عما فعلناه في 58 !!
فترة حكم الانقلابيين العسكر كانت فترة دموية تفتقر للاسس الدستورية والقانونية الصحيحة ، وتفتقر لحكم الشعب لنفسه . وإذا كانت الانظمة السياسية التي حكمت العراق بعد عبد الكريم قاسم هي اكثر سوءاً وشراً منه بكثير فهذا لا يعفي هؤلاء عن جريمتهم التاريخية بحق العراق، التي اهلكت الكثير من أبناء الشعب وزرعت الحقد والفتنة وطلب الثارات بين الفئات السياسية والاجتماعية والدينية المختلفة .
وماحدث في مجزرة الموصل اسوأ مثال لتلك السلطة الدموية ، واللافت للنظر ان عبد الكريم قاسم لم يحاسب أبداً من قام بالافعال الاجرامية في مجزرة الموصل ولم ينطق بأي إدانة بحقهم ولم يشكل اي لجنة تحقيقية في الموضوع على اقل تقدير ! بل على العكس فقد كانت هناك مكافآة لمن ساهم في تلك المجازر ! فبعد فترة قصيرة من احداث الموصل دعا عبد الكريم قائد حامية المدينة وقادة شيوعيي الموصل الى بغداد واطرى إخلاصهم وقدم لهم المسدسات والمنح المالية تكريما لدورهم الكبير في مجزرة الشواف . !!
انقلاب العسكر على النظام الملكي نجح في تقويضه، لكنه أورث العراق عهداً بل عهوداً دموية في تاريخه، وفتح الباب على صراع طويل بين مكوناته الحزبية وفصائله المسلحة، بعد حلول سلطة العسكر التي حكمت بمنطق القوة والعنف وفرض الهيمنة على المجتمع، وألغت الدولة المدنية عملياً. وبالرغم من تأكيدها على كونها نظاماً يؤمن بتداول السلطة، احتكرت السلطات، وساد عصر من الفوضى والاقتتال المجتمعي، وبداية مظاهر حكم الطوائف، وتمرد المؤسسة الدينية التي بدأت بالتدخل في مفاصل الدولة ونشوء أحزاب تحاكي حركة الإخوان المسلمين في مصر
إضافة الى فقدان أدراك قيمة المتغير الدولي، الذي كان النظام الملكي يحظى به، من خلال مساهماته الفاعلة في تأسيس الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية، وفاعلية الدولة العراقية في الإقليم، وعلاقاته المميزة مع جيرانه والعالم، تحول التأييد والقبول إلى الاستعداء والمنافسة القاتلة بعد أن فقد العراق رموزه المعتبرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن انقلاب 1958 ولَّد صراعات داخلية بين الأحزاب والمكونات العرقية، وهز بنية المجتمع العراقي نتيجة فقدان الحكمة، والشطط في قرارات التعامل مع المكونات، كما حدث مع الأكراد وأهالي الموصل، وشيوع ظاهرة الاغتيال السياسي، وتفشي الحركات الباطنية. وشجعت سطوة الجيش على المجتمع المدني نمو عشرات الظواهر الديكتاتورية وتنامي الأحزاب التي دكت إسفين بناء المجتمع بالفرقة والتصارع مع بعضها، وأسست لظاهرة الانقلابات اللاحقة.
ولم ينتج لنا حكم العسكر وتعاقب الأنظمة الشمولية إلا مؤسسات سياسية تصطبغ بعناوين القرية والقبيلة والطائفة، وكانت أبعد ما تكون عن عناوين الدولة. فالدولة الحديثة تتميز عن المجتمعات التقليدية بالمدى الموسّع لمشاركة الناس في السياسة وتأثيرهم وتأثرهم بها عبر وحدات سياسية واسعة النطاق.
لعنة الملوك ستبقى جاثمة علينا ولن تغادرنا ما دمنا لا نعتبر مما فعلناه ولا نشعر بالذنب والندم على ما جرى.
سيبقى الشعور بالذنب (الذي انتاب عبوسي واودى به الى الانتحار) يحوم حولنا ،نتحاشاه وننفي التهمة عن انفسنا في كل كارثة ونكبة تحل بنا . وسنبقى نحتفل ونرقص طربا على سقوط الدولة العراقية الملكية وقيام النظام الجمهوري العسكري وسط الحرائق والفساد والدم الرخيص المهدور .