هل سيتكرر سيناريو عفرين في شرق الفرات؟
د. محمود عباس
هل المنطقة الكوردية في شرق الفرات، أمام سيناريو مشابه للاتفاقيات العسكرية والسياسية التي جرت بين تركيا وروسيا والسلطة في عام 2018م، قبل احتلال عفرين؟
أم أنها مسرحية يتم ترويجها في الإعلام، تتداولها في الأيام الأخيرة، مصادر قريبة من النظام وروسيا، لعودة السلطة، وتحجيم القضية الكوردية؟
هل هو ترهيب، أم تحذير، أم حقيقة لا تزال في طور الحوارات بين تركيا وروسيا، وبموافقة إيرانية؟
هل هي رسائل لأمريكا قبل أن تكون للإدارة الذاتية؟ أم أنه من ضمن مخطط حول مستقبل سوريا تدرس مع اللجان الأمريكية؟ أم أن تركيا جادة، لتوسيع جغرافيتها بعد تصاعد قوتها العسكرية، والتغطية على تراجع قيمة ليرتها والتضخم الاقتصادي، وصعود المعارضة؟
هل يتناسون أسباب الوجود الأمريكي، وماذا تعني لها، شرق الفرات من كل سوريا، وحماية إسرائيل؟
هل ستتخلى إدارة بايدن عن المنطقة كما تخلى ترامب عن المنطقة؟
هل يتم البحث في قضية شرق الفرات بمعزل عن قادم سوريا؟
معظم المحللين السياسيين بدأوا يعرضون هذه الأسئلة والشكوك، بكل تناقضاتها ووجهات النظر المختلفة، إلى درجة تبينت لنا خلفيات مسرحية العودة إلى كتابة الدستور، والضجة الفارغة (عنوان كتاب ويليام شكسبير) التي خلقها (غير بيدرسون) حول الجولة السادسة والتي كانت سياسيا (وليس من حيث ارتزاق أعضاء اللجان من أموال الشعب السوري ولمدة سنتين) محاولة للتغطية على الخلافات المتصاعدة بين روسيا وتركيا من جهة، وما يخططون له لمواجهة أمريكا في شرق الفرات من جهة أخرى، علما يدركان أن الخلافات بينهما أوسع من ردمها بالاتفاق على شرق الفرات. وما يجري ليس سوى تسابق بينهما لمن يستأثر بشمال شرق سوريا، عودة السلطة بمساعدة روسيا، أم الاحتلال التركي من خلال منظمات المعارضة.
حتى الأن لا توجد أية بوادر أو تصريحات أمريكية لها رائحة الموافقة على أنها ستتخلى عن المنطقة أو ستسمح للسلطة أو لتركيا بالعودة إليها أو اجتياحها، وصمتها تعكس منطقين: التقليل من أهمية التحريض. والرفض المبطن لمطالب روسيا بإعادة السلطة للتفرد بكلية الملف السوري، إلى جانب الرد السلبي للطلبات التركية بتوسيع مساحة احتلالها للمنطقة.
والرفض الأمريكي له مؤشرات عدة، منها:
1- أنها تعني التخلي عن جزء من استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط.
2- عدم تكرار الإدارة الجديدة تجربة أفغانستان لئلا تتفاقم انتقادات الشارع الأمريكي والحزب الجمهوري، والتي قد تؤثر على مستقبل الانتخابات القادمة.
3- ستفتح الأبواب إيران على إسرائيل، أي أنها ستعرض الأمن الإسرائيلي إلى الخطر المباشر.
4- ستعني خسارتها في حربها ضد الإرهاب، وداعش تحديداً، المنظمة التي لا تزال نشطة من خلال خلاياها النائمة والمنتشرة على طول بادية الشام ومنطقة الأنبار.
أما القوة السياسية المتحكمة بالإدارة الذاتية أي الـ ب ي د على الأرجح تدرسها من الأوجه المختلفة، على خلفية تأثيراتها المباشرة عليها، وبالتالي فهي على الأغلب تحاور الاحتمالات المتناقضة:
1- لن تتخلى عن شبه كيان تكرس أبعاد الإيدلوجية الأممية، وتنقلها من البعد النظري إلى الواقع العملي، خسارتها تعني خسارة النظرية وبالتالي قد تكون بداية نهاية المنظومة. وستستمر بالتمسك بالإدارة الذاتية شبه الفيدرالية، ما دامت مقتنعة أن دول التحالف وعلى رأسهم أمريكا يقدمون الدعم، النظري واللوجستي لهم وللمنطقة، خاصة بعد تصريحات الإدارة الأمريكية الجديدة الإيجابية، والتي كرسها تصريح الرئيس جو بايدن حول تركيا.
2- ومن جهة أخرى وحسب تصريحات قيادة قنديل، قد تقبل بعودة النظام، بشروط، لئلا تخسر الحليف السوري، والذي كان الداعم الرئيس لصعود المنظمة، وقيام الإدارة الذاتية على منهجية نظريتهم الأممية، وبالتالي قبول النظام اللا مركزي قد تنقذها من مصير مشابه لعفرين.
3- معارضة المشاركة مع النظام في إدارة المنطقة، قد تزيد من تقارب الحلف الروسي وأدواته، مع التركي وأدواته ضد الإدارة الذاتية، وحيث العامل الكوردي الداخلي المتهاوي، والملائم لنجاح المتربصين بها، وهنا أيضا يظل العامل الخارجي، دول التحالف، له الثقل الأكبر لتحديد الموقف. والذي يجب أن يكون بنظام لا مركزي فيدرالي. حتى ولو كانت تحت أسم الإدارة الذاتية الموسعة، كما هي عليه الأن، دون إملاءات المربعات الأمنية.
بعد رفض جو بايدن قبول الحوار مع أردوغان، وفيما بعد عدم تمكنه من ردم شرخ الخلافات بينه وبين فلاديمير بوتين في قمتهم الأخيرة، الحدثين اللذين تما خلال أقل من شهر، حرك تركيا نحو مسيرة دبلوماسية مغايرة، ما بين الحدة ثم المرونة مع القوى الكبرى المعنية بالقضية السورية، بدأها بالتهديد في اجتياح شمال شرق سوريا، مع أو بدون موافقة أمريكا وروسيا، وإسقاط الدرون الروسي، ومن ثم الاعتذار، وطرد السفراء العشرة نظريا دون فعل، بينهم السفير الأمريكي والتراجع تحت حجج سياسية، إلى جانب غيرها من التصريحات، والتي أظهرت على أن دبلوماسيته بدأت تنجح إلى حد ما مع روسيا والنظام السوري، وليست مع إدارة جو بادين تحديدا، وهو ما أقلقها، ومعها روسيا، ودفع بهما لعرض طروحات متشابهة حول شرق الفرات، ومن ضمنها محاولة إعادتها إلى حضن النظام، أو ما يقال إزالة سلطة الأمر الواقع.
علما أن واقع شرق الفرات مع إشكاليات إدلب المستعصية تنتقلان مع التشدد الأمريكي من حالة التوافق إلى تعميق الخلافات بين روسيا وتركيا، خاصة مع عدم وجود ورقة يمكن لتركيا أن تفاوض عليها معها، إلى جانب أن:
1- أي أتفاق على إدلب، قد تؤدي إلى هجرة كارثية نحو جغرافيتها، خاصة وأن منطقة عفرين غير مفتوحة لهم، ومحاولة احتلال تل رفعت لا تزال تواجه معارضة روسية، وعليه فأردوغان لن يجازف التجارة بورقة إدلب مقابل شرق الفرات، حيث المعارضة الأمريكية، إلى جانب صعود دور المعارضة الداخلية على خلفية الهجرة السورية.
2- كما وأن أقوى المنظمات التي تحكم منطقة إدلب، ترفض الإملاءات التركية، وكثيرا ما تواجهها عسكريا، ولم ترد تركيا عليهم لئلا تفاقم من الخلاف بينهما، وتظهر إشكاليات الهجرة، وبالتالي أصبح اتفاقيتها مع روسيا في قمة سوتشي قبل سنتين، على إيجاد حلا لتلك المنظمات وبالا عليها، وتدفع ثمنها الأن، ومنها تعميق شرخ الخلافات بينها وبين روسيا.
تزامنت مع صعود هذه الموجة حوار للقيادي البارز في قنديل (جميل بايق) مع جريدة “النهار العربي، بتاريخ 26/10/2021م ": تخللها أجوبة لسؤال متعلق بالإدارة الذاتية وعلاقاتها بالنظام، وجوابه تضمن مفهوم (الحزب يقدّر الصداقة التي ربطت أوجلان بعائلة الأسد). تبعه مصادر كوردية قريبة من السلطة وروسيا، تحت منطق المعارضة الداخلية. وهو في الواقع ترهيب للإدارة الذاتية، ورسائل لأمريكا، قبل أن يكون دعما لمسيرة حملة التطبيع مع سلطة بشار الأسد، وأن الحل يوجد في دمشق، وعلى الإدارة الذاتية قبول عودة النظام تحت الصيغة اللا مركزية، وغيرها من الطروحات، والتي معظمها رسائل روسية غير مباشرة ليحل نظام بشار الأسد مكان الإدارة الذاتية، وأن تصبح قوات قسد جزء من قوات النظام، وإلا فإن مصيرها ستكون كمصير عفرين.
المسرحية السياسية التي جرت في عفرين، أكثر من معروفة حيثياتها، ونتائجها، ونحن هنا لن نتحدث عن الاتهامات التي روجت على أن الإدارة الذاتية وأسلوب الـ ب ي د هي التي جلبت تركيا ومعها حثالة المعارضة إلى عفرين. وكيف أن هذه الخدعة الدبلوماسية مهدت للمتربصين بالقضية الكوردية بتسهيل مسيرة التغيير الديمغرافي للمنطقة، وما يقومون به من الجرائم بحق شعبنا الكوردي تحت دعاية محاربة الـ ب ك ك. رغم عدم استبعاد هذه النقطة، والتي لو لم تكن موجودة لخلقت تركيا العشرات من الحجج لتبرر اجتياحها.
بل نتحدث عن الخطر الجديد المتربص بالمنطقة الكوردية الأخرى، من قبل الطرفين والذي لن يزول، حتى لو اشتركت معظم أطراف الحراك الكوردي في تسيير الإدارة الذاتية، لأن جل رهبتهم ليست من حاضرها، ولا من الـ ب ي د، أو من كوادر الـ ب ك ك، بل بما ستكون عليه المنطقة ضمن سوريا المستقبل، مع الوجود الأمريكي كحامية، تحت منطق مصالحها ومحاربة داعش، وحماية إسرائيل.
التصريحات الصادرة من الإدارات الأمريكية حتى اللحظة، ترسخ رفضها للحالتين، عودة السلطة، والاجتياح التركي، وتوضحت من خلال عدم مقابلة جو بايدن للرئيس التركي الذي كان متوقعا أن يتم في إيطاليا، مع جلسات قمة العشرين القادمة في 30-31 من هذا الشهر أي بعد يومين، بل تأجل إلى (حسب الصحافة التركية) جلسات مؤتمر القمة حول البيئة في بريطانيا بتاريخ 1-2 من الشهر القادم أي بعد أسبوع، وهناك، فيما إذا تم اللقاء، ذكر بأن الحوار سيكون حول الإشكاليات المتعلقة بإيقاف مشاركة وتوريد تركيا بـ مئة طائرة ف 35 والمليار والنصف دولار من الأموال التركية المجمدة والتي ستقدم لها أمريكا مقابلها طائرات فـ 16 المعدلة، والسماح لها بإضافة تعديلاتها الخاصة عليها، إلى جانب قضايا أخرى، وعلى الأرجح أن إشكالية شرق الفرات من أهم النقاط التي سيتم البحث فيه، وهو ما لا يباح به على الإعلام، تصغيرا للحدث، وتحسبا لرد الفعل الأمريكي المسبق، والذي قد تدرج ضمن قضية التعرض للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
رغم كل هذا فالسياسية تخدم المصالح، ولأمريكا علاقات عميقة مع تركيا، قد تضطر الأخيرة التخلي من صرامتها فيما لو تعرضت أمنها القومي إلى الخطر، أو تعرض مستقبل حزب العدالة والتنمية إلى التدهور، كما يتبين حاليا من خلال مؤشرات عدة، إلى جانب أن أمريكا الأن تحتاج إلى تركيا وروسيا معا لتحييدهم أو كسبهم لمواجهة خلافاتها المتصاعدة مع الصين، وبالتالي من السهل لها التخلي عن بؤر صغيرة، كسوريا والعراق، على أمل كسب استراتيجي لإمبراطورية تتعرض إلى تراجع أمام قوة الصين المتصاعدة اقتصاديا وعسكريا، وهو ما يجب على الحراك الكوردي وفي مقدمتهم أحزاب الإدارة الذاتية تحضير ذاتها عند حدوث مثل هذا الاحتمال، وقد يكون حديث قيادة قنديل نابع من هذا البعد، بغض النظر عن صحة الموقف أو خطأه، منطقيته أو ضحالته.