مدينة المنصور .. المدينة الفاضلة وانحدارها في عهد الحكومات المتلاحقة
صفوة فاهم كامل
لم يتخيّل أهالي مدينة بغداد في منتصف القرن الماضي أن مدينةً جديدةً ستولد في عاصمتهم، تقترب مواصفاتها من مواصفات المدينة الفاضلة (Utopia)، التي حلِم بها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وألهبها في فلسفته الخيالية وذَكرها في كتابه (جمهورية أفلاطون). ويقصد فيها تلك المدينة التي يسكنها أُناسٌ طيبون يعيشون فيها بسلام ووئام، لا يعرفون الغل ولا الحسد، ويعمّها الأمن والأمان وتعدُّ رمزًا للكمال الإنساني والاجتماعي، وتَبرزُ فيها كل أنواع الرّقي الحضاري والمظهر العمراني الحديث، وتكتمل فيها كل الخدمات الإدارية والصحية والأداء الحكومي المميّز. بحيث تصبح هذه المدينة الأفضل من بين أقرانها من مدن العراق الأخرى أو مدن دول الجوار، وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ سامية تحمل المثل المثالية على المستوى المحلي للتكوين العمراني وخلق مساحة واسعة للعيش برفاهية وليس على المستوى الثقافي أو الحضاري فحسب، على أن تتبعها بهذه المواصفات شقيقاتها الأُخر من المدن العراقية. وفي تاريخنا الإسلامي فأن المدينة الفاضلة في الواقع الحقيقي المؤرَّخ التي تنطبق عليها جزء من خيالات أفلاطون، هي المدينة التي أسسها الرسول محمد ﷺ في المدينة المنورة والتي تآخى فيها المهاجرون والأنصار، وانصهرت وذابت بينهما كل الفوارق والنزعات الجاهلية، فلا فرق في اللون أو النسب أو الجنس أو الحسب أو العرق أو الدين.
ففي خمسينيات القرن الماضي قررت الحكومة العراقية تشيّد مدينة عصرية جديدة بمعالم عمرانية حديثة في إحدى ضواحي مدينة بغداد، تكون إنموذجًا لبقية المدن في العراق الجديد، أُطلق عليها أسم (مدينة المنصور) عرفانًا من الدولة العراقية بالخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، واعتزازًا منهم بباني عاصمتها المدورة سنة 762م.وهذه البقعة من الأرض كانت فيما مضى أراضي زراعية تعود مُلكيتها لأشخاص، اشترتها منهم شركة المنصور العقارية المساهمة التي تأسست عام 1946. قامت هذه الشركة ببيع أغلب أراضي هذه المدينة لفئات مختلفة من المواطنين من غير تحديد شرائح معيّنة للشراء، وقامت بعض المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية بشراء مساحات كبيرة وبيعها على منتسبيها. وقُدّرت مساحة كل قطعة أرض مباعة ما بين خمسمائة متر إلى ثلاثة ألاف متر. وقُسّمت هذه المدينة إلى أربعة أحياء كبيرة، وأُطلق عليها أسماء: حي دراغ، وحي المنصور، وحي المتنبي، وحي الأندلس (الداوودي)، ورُقّمت أحياؤها وشوارعها وأزقّتها في السبعينيات على وفق نظام ترقيم حديث ومتطور بدأت بالرقم 601 و603و605. . . ولغاية محلة 615، وشمل هذا الترقيم الجديد أيضًا كل أحياء مدينة بغداد.في عام 1960 ابتاع والدي واثنان من أصدقائه قطعة أرض من هذه الشركة بمساحة ثلاثة ألاف متر وأُفرزت بالتساوي بينهم، ومن حسن الحظ أن موقعها كان في قلب أحياء هذه المدينة وهو (حي المنصور) محلّة 609، وكانت قطع الأرض المباعة في ذلك الحي لا تقل مساحتها عن ثمانمائة متر.وبعد أن وضعت شركة المنصور، التصاميم الرئيسة للمدينة الجديدة بدأ أهالي هذه الأحياء ببناء دورِهم الواحد تلو والآخر وتسابق المهندسون العراقيون في وضع أبدع التصاميم الحديثة لتلك الدور بتشطيبات وواجهات فخمة وغريبة، مواكبين التطورات الحاصلة في الهندسة والعمارة، بما ينسجم والبيئة الاجتماعية العراقية الجديدة والمنفتحة نحو حياة أفضل مراعين في الوقت نفسه مناخ مدينة بغداد والطقس الحار فيها صيفًا، والبرد القارص شتاءًا.ومن أوائل الدور التي بُنيت في مدينة المنصور هما دارا الأميرتين بديعة وجليلة أبنتي الملك علي بن الحسين، ولا زالت الداران اللتان تسميان بـ (القصر) قائمتين حتى اليوم، والشارع المار بجانبهما لا زال يعرف بشارع الأميرات، وهي تسمية شعبية لا حكومية، وهو من أجمل شوارع المدينة وأهدؤها، وعقاراتها الأغلى ثمنًا ...!أما دار عائلتي فصممها المهندس المعماري المرحوم سعيد علي مظلوم، وبُدئ العمل بتشييده مطلع عام 1960، وانتقلت إليه العائلة عام 1962، وبعدها بسنة ولدّت في هذه الدار لتبدأ رحلة طويلة من حياتي بين جدران هذا البيت وفضاءاته وأزقة المدينة ومدارسها وتنعّمَت بمرافقها العامة والخاصة، إلى أن غادرت العراق عام 2005، ولا زلت أحتفظ بعلاقات طيّبة مع من بقيَّ فيها أو غادرها. فكان إلزامًا عليَّ أن أوفي مدينتي بهذه السطور المتواضعة وأذكرها جليًّا قبل أن أفقد ذاكرتي وعقلي وأرحل عنها بعيدًا وبعدها أُغادر هذه الدنيا.إنَّ ما يميّز دُور مدينة المنصور بشكل عام، احتواء مُعظمها على حديقة أمامية أو خلفية أو الاثنتين معًا وأحيانًا جانبية، وأغلب هذه الحدائق هي بمساحات كبيرة نسبيًا تُغطيها المروج الخضراء وتُحيط بأسوارها الأشجار المثمرة من الحمضيات وخاصة أشجار النارنج والنفضيّات والورود الموسمية والمستديمة وتسقى من ماء نهر دجلة الخام مباشرة أو ما يسمى (بالماء الخابط)، وبعض الدور أُنشئت فيها حديقة داخلية صغيرة احتوت على نباتات ظل ونباتات زينة طبيعية، وبعضهم بنى بُركة سباحة لإفراد العائلة، فيما حرص أغلب الأهالي أن يكون للدار مرآب يستوعب أكثر من سيارة. أما أرصفة شوارع المدينة فقد قامت بلدية المنصور بزراعتها بأشجار النخيل واليوكالبتوس، وبمسافات متساوية لتبدو بمنظر خلاب يزين شوارعها والتفيء بظلها على مدار السنة، كذلك زُيّنت الجزرات الوسطية بأشجار الياس والدفلة. وهناك أفكار أخرى وتصاميم مبتكرة أضافها المعماريون العراقيون لتلك الدور كلٌ حسب اجتهاده وسِعة خياله ورؤيته للواقع المعماري الجديد.
- بايسكل أبو السلّة
وتلاميذ المدارس الابتدائية.
من نهر دجلة الخالد يتفرّع رافد مائي يخترق مدينة المنصور من جنوبها إلى شمالها سمي بـ (نهر الخرّ) أو (شطيّط) ومنها ينتقل الماء عبر سواقي منتظمة تلف المدينة الرئيسة وبموازاة شوارعها لتروي الأشجار والمزروعات العامة. وفي الليل يُسمع نقيق الضفادع من هذه السواقي، أما في الصباح فأن زقزقة العصافير على أغصان الأشجار تُطرب المارّين في الشوارع. هذا النهر الذي سميّ فيما بعد بـ (نهر الخير) لم يتم للأسف كريه باستمرار وبانتظام كي يكون مركزًا سياحيًا أو رئة تتنفس منها المدينة، فتمّ طمره بالكامل نهاية التسعينيات بعد أن أصبحت مياهه آسنة، ومرتعًا للحشرات والنفايات...! كان ذلك النهر حالة نادرة للمدينة لكن ...!وكما هو معلوم ومتعارف عليه لدى مصمّمي المدن فأن الأحياء السكنية الحديثة يجب أن تحتوي على فسح خضراء تكون متنفسًا للمدينة بما يتناسب ومساحة الدور والكثافة السكانية. وفي مدينة المنصور وتحديدًا حي المنصور فقد أُنشأت البلدية ضمن مخططها حديقة كبيرة مربعة الشكل تقع في نهاية شارع الأميرات تقريبًا، قُدرت مساحتها بعشرين إلف متر مربع وتحيط بها سياج حديدي وأشجار جوز الهند العالية، وصمّمت الحديقة بشكل هندسي جميل بحيث قُسّمت إلى مجاميع خضراء متساوية، وإلى وممرات تخترق وتلف الحديقة تسمح لزائرها مزاولة رياضة المشي والتنزّه وقضاء أوقات رومانسية هادئة. يطلق الأهالي على هذه الحديقة تسمية (المشتل) ويأتون الصبيان والشباب إليها باستمرار أما للتجوّل بدراجاتنا الهوائية أو للعب الكرة. لكن هذه البقعة الخضراء أهملت تدريجيًا في التسعينيات حتى أصبحت أرضًا جرداء ومكبًّا للأوساخ. وبعد عام 2003، سُلمت لمستثمر غير معروف لبناء مول لكنه لم ينجزه لحد الآن وأصبحت الحديقة وللأسف أثرًا بعد عين.ونظرًا لجمالية هذه المدينة وهدوئها واستقراها النسبي وتوفر كل المستلزمات الضرورية والخدماتية، وسِعة مساحات دورها فقد اتخذ السفراء الأجانب المعتمدون في بغداد من هذه الدور سكنًا لهم واتخذ بعض الدبلوماسيين، والشركات الأجنبية أيضًا مقرًّات لهم. وصارت في المدينة حركة دؤوبة ونشطة، مليئة بالأجانب والدبلوماسيين فضلًا عن أهلها الأصليين، وتجوب فيها سيارات كثيرة تحمل عبارة (هيئة دبلوماسية) و(إدخال كمركي مؤقت).في عام 1979، بدأ العمل بشكل جاد ومكثّف مع شركات عالمية رصينة لإنشاء شبكة مجاري للمياه الثقيلة وتصريف مياه الأمطار بلغت كلفتها 174 مليون دينار عراقي من مجموع مبلغ كلي قدره مليار ونصف مليار دينار عراقي وقعها أمين العاصمة مع هذه الشركات. لتكون بغداد مهيأة لاستقبال زعماء دول عدم الانحياز، في قمّتهم عام 1982. إن العمل في إنشاء شبكة مجاري، رافقه إنشاء شبكة كهرباء كاملة وحديثة تحت الأرض لتصل إلى كل منزل في مدينة المنصور، لتحلّ محل الأعمدة الظاهرة والأسلاك المعلّقة، زيادة على إنارة الشوارع الرئيسية والفرعية، أعقبها بعد ذلك تبليط كل الشوارع والأزقّة تبليطًا فنّيًا، وأصبحت المدينة بحلّة جميلة وراقية والتطور بانَ للجميع. كل ذلك جرى في عهد أمين العاصمة الأسبق الغيور سمير الشيخلي، الذي تركة بصمات واضحة في مدينة بغداد ما زالت أثارها شاخصة إلى اليوم. لكن مع بداية الحرب العراقية-الإيرانية، توقفت الكثير من المشاريع الإنمائية الجديدة والمخطط لها سابقًا وأهمها مترو بغداد الذي خُطط له أن يمر تحت مدينة المنصور ويتوقف فيها.يخترق مدينة المنصور من وسطها شارع رئيس يسمّى بـ (شارع المعرّي) يبدأ من ساحة الفارس العربي وينتهي بتقاطعه مع شارع 14 رمضان، ويبلغ طوله 2,5 كم. وفي بداية إنشاء المدينة كانت أغلب جانبي هذا الشارع دور سكنية كأي دور أخرى من دور المدينة والعمارات التجارية قليلة جدًا ولكن بمرور الزمن ومع التطور العمراني للمدينة وتحسن العائد المالي للمواطنين، تحول هذا الشارع إلى شارع تجاري وتحّولت هذه الدور تدريجيًا إلى محلات وعمارات تجارية أضفت على المدينة جمالية أخرى وحركة اقتصادية مكتظّة، تجذب الناس بكثافة من كل مكان للتبضّع والتنزّه والاستمتاع بأجوائها المريحة. وفي الثلث الأخير من هذا الشارع وأمام مصرف الرافدين هناك ساحة خضراء أو دوّار بأربعة تقاطعات. في وسطها أنشئت تلّة صغيرة من التراب تكون منظورة للقادم أو الخارج من المدينة. وضعت على التلّة من الجانبين أرقام كبيرة على شكل جرّات مليئة بالمزروعات والورود تدل على تاريخ اليوم، (يوم /شهر/سنة) وتستبدل الأرقام فجر كل يوم من عامل مُعّين من البلدية. وهكذا تميّزت أغلب ساحات بغداد بجمالية خضراء وتفنّن في التصميم قبل تحويلها إلى إشارات مرورية، وإنشاء النافورات والنصب، من أبرزها تمثال رأس الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، أحبّها ورعاها وأشرف عليها بشكل خاص أمينها الأسبق البغدادي إبراهيم محمد إسماعيل.في عام 1970، افتتحت سيدة عراقية تدعى بثينة سعيد الباجة جي، والمعرّفة بــ (أم غسان) -وهي من سكنة المدينة-محلًا لبيع الملابس النسائية في ذلك الشارع، خاص بالمطرّزات والحياكة والأشغال والملابس اليدوية المنزلية، ثمَّ تطوّر إلى ملبوسات وأزياء مستوردة راقية. هذا المحل حَمَل اسمًا لافتًا في حينها أزياء (لا فام-La famé) وتعني (المرأة) بالفرنسية. كانت شَجَاعَة منفردة منها، وتحدّيًا غير مسبوق لأول امرأة في بغداد تفتتح محلًا تجاريًا، تديره بنفسها وبتشجيع من زوجها وعائلتها، ما ميّزها عن أقرانها السيدات في ذلك الوقت، وميّز شارع المنصور التجاري بهذا الوقع الفريد، واستمرّت هذه المرأة العزوم بإدارتها المحل شخصيًا لأكثر من ربع قرن وحتى منتصف التسعينيات.
في نهاية السبعينيات وقعت وزارة النفط مع شركة يابانية عقدًا لإنشاء محطتي تعبئة وقود (بانزين خانة) جديدة لم يألفها المواطن، من حيث طريقة الإملاء أو طريقة التسديد، واختارت الوزارة مدينة المنصور في جانب الكرخ لتشييد إحداهما، فيما شيّدت الأخرى قرب الجامعة المستنصرية في جانب الرصافة فكانت حالة بهيّة للمواطن أن يرى مثل هذه المحطة الحديثة، وبات يقصدها دون غيرها لغرض التزوّد بالوقود، لكن تلك المحطتين أُهملت صيانتهما بمرو الوقت وتعطّلتا ورفعتا بعد سنوات لتعاد المحطات القديمة للعمل محلها، مثلما عادت حليمة إلى عادتها القديمة...! وكما هو حال كل المدن العراقية فأن لدور العبادة من مساجد وجوامع مكانتها الطبيعية المنتشرة في أحياء مدينة المنصور، وإلى جانب هذه الدور، تأسست في مدينة المنصور ثلاث كنائس في أماكن متفرقة يرتادها بانتظام أصدقاؤنا من أبناء الطائفة المسيحية من داخل المدينة وخارجها صباح كل يوم أحد، وفيه تصدح أجواء المدينة بطنين أجراس تلك الكنائس، أما في الأعياد فيقام فيها القدّاس والطقوس والشعائر الدينية الأخرى. وهكذا هو جمهور مدينة المنصور ومنذ نشأتها كانوا متنوعين في الأجناس والأعراق ومختلفين في الديانات والطوائف، لكنهم متعايشون، متحابّون، متآلفون، أخوة كرماء لا يفترقون، لكن اليوم تغيّرت النفوس والقلوب والعقول وتغيّر معها كل شيء.من مميّزات مدينة المنصور الأخرى هو كثرة عدد المدارس الابتدائية والثانوية الحكومية لكون غالبية أبنائها هم من طبقة اجتماعية متعلّمة مثقفة ومتحضّرة، لذلك فإلى جانب تلك المدارس الحكومية تأسست مدارس أهلية مرادفة لها كي تستوعب ذلك الكم الهائل من التلاميذ، وعُرف عن هذه المدارس الأهلية برصانتها العلمية ونجاح إداراتها وكفاءة مدرسيها، وتخرّجَ فيها كوكبة من العلماء والمبدعين، ومن أبرزها مدارس المنصور التأسيسية (الروضة والابتدائية والثانوية)، ومدرسة نجمة الصبح وكذلك ثانوية الأمريكان، التي سمّيت لاحقًا بثانوية بغداد للبنات في المنصور، ويلتحق الطلاب بها من كل أنحاء مدينة بغداد وتنقلهم بباصاتها الصفراء المميّزة. إلا أن الحكومة أمّمت جميع هذه المدارس والجامعات الأهلية عام 1974 وساوتها مع مثيلاتها الحكومية من مبدأ تطبيق النظرية الاشتراكية في الدولة العراقية التي ثبتَ فيما بعد فشلها العلمي والعملي، وفيه قضت على التعليم المتقدّم. وأيقنت الحكومة ذلك الخطأ (بعد خراب البصرة)، وبدأت بالتراجع عنه تدريجيًّا حينما سمحت في التسعينيات بفتح مدارس ابتدائية وكليّات أهلية خاصة ...!في عام 1983، تأسست أول قاعة فنية أهلية في المدينة، أسستها الفنانة التشكيلية الرائدة وداد الأورفة لي وأسمتها (قاعة الأورفة لي للفنون) واتخذت من بناية مدرسة الرافدين الأهلية سابقًا مكانًا لها. وفي جانبها وضمن مقتربات هذه القاعة افتتحت الأديبة والروائية ناصرة السعدون، مكتبة صغيرة في حجمها لكنها كانت كبيرة بمحتواها من كتب وإصدارات حديثة وصحف يومية محلية وعربية. وافتتح أيضًا الفنان رافع الناصري، مشغلًا خاصًا لإبداعاته الفنية، وأصبح هذا المكان رمزًا من رموز المدينة وعنوانًا للحركة الثقافة الفنية المتجددة بشكل عام، وملتقى الفنانين والمثقفين يقصدونها من كل صوب لزيارة معارضها ونشاطاتها الفنية الأخرى، ويحلمون بعرض نتاجاتهم فيه. وهذه القاعة الفنّية الرائدة انتقلت عام 2000، إلى مكان آخر أكبر بجانب نادي الصيد العراقي وتوسعت نشاطاته الفنية واستقطبت أجيالًا جديدة من الشباب الواعد والفنانين الكبار في مجالات متعدّدة إلا إنها وبعد احتلال بغداد عام 2003، تعرضت للتخريب والنهب، وسرقة كل لوحاتها الفنية.خلال تاريخ مدينة المنصور الطويل والجميل فأن أربع حوادث غريبة مرّت عليها، لن ينساها سكان المدينة، وستظل عالقة في أذهانهم إلى ما شاء الله.الأولى عندما ارتكبت عصابة أبو طبر، في وضح النهار، ظهر يوم الثلاثاء 24/4/1973، أولى جرائمها البشعة، بالسطو على دار السيد مراد رشيد مراد، وقَتلَ زوجتهُ المرحومة السيدة ماجدة الحمامي، وخادمتها في بيتهم الكائن في نهاية شارع نادي الصيد، أعقبتها جرائم أخرى ارتكبتها العصابة نفسها، هزّت مدينة بغداد وأرعبت أهلها ردحًا من الزمن حتى ألقي القبض عليهم.والثانية، عندما استضافت بغداد القمة العربية التاسعة في الثاني من تشرين الثاني عام 1978، ولأول مرّة. ولعدم وجود دور ضيافة لائقة تستوعب هذا العدد من الزعماء العرب والوفود المشاركة وبقية الضيوف، فقد قررت الحكومة إسكانهم في دور المواطنين في حي المنصور واستقطعت جانبًا من ذلك الحي، ونقلت أصحاب هذه الدور إلى فنادق متفرقة في العاصمة لشهر من الزمن.والثالثة، خلال الحرب العراقية الإيرانية، حينما سقط صاروخ إيراني غاشم على حي المتنبي السكني أسفر عن استشهاد مدنيين أبرياء وهدّم دور متعدّدة وتضرّر أخرى. ورجّت المدينة بكاملها من دوي صوت الانفجار. كذلك سقوط صاروخ أمريكي على بيت الفنانة التشكيلية ليلى العطار، في شارع الأميرات عصر يوم 27/7/1993 أدى إلى استشهادها وزوجها، وإصابة ابنتها الصغرى بجروح بليغة، فكانت صدمة هائلة لأهالي الحي وخسارة كبيرة للوسط الفني والثقافي.والرابعة، عندما قامت مجموعة مسلحة مساء يوم 12/12/1996، بمحاولة اغتيال عدي، صدام حسين، بينما كان يتجول بسيارته في أحد أهم شوارع المدينة، فأنقذته العناية الإلهية من موت محقّق بعد أن اخترقت جسده ست عشرة رصاصة إحداها تبعد 2,5 سم عن قلبهومن خلال نظرة سريعة لتاريخ مدينة المنصور نجدها إنها بدأت تزدهر عمرانيًا واجتماعيًا بصورة ملحوظة منذ تأسيسها، ما لبث أن بدأ هذا الازدهار بالانحدار السلبي تدريجيًا نتيجة التطورات السياسية في العراق ودخوله في إرهاصات وحروب جعل الاهتمام بها مسألة ثانوية حالها حال جميع المدن والمحافظات الأخرى. لكن الانحدار السريع أصبح ملموسًا ومؤسفًا خلال الحصار الاقتصادي في التسعينيات وتلتها الحرب الأمريكية على العراق عام 2003،وإلى يومنا هذا، فالانحدار السكاني والخدمي والاجتماعي، بات واضحًا في كل مرافقها، ولا أبالغ إذا قلت إن 97% من سكان حيّنا حي المنصور، قد هَجروا دورهم إلى خارج العراق وأغلبهم باعوا عقاراتهم وبقية أملاكهم ومصالحهم وبعضهم اجتثَّ حتى جذوره من بلده وأصبحت بالنسبة لهم من الماضي الجميل الذي لا يعود، وحلَّ محلهم غرباء دخلاء غالبيتهم من أغنياء الصدفة، ومالكي السحت الحرام من المال، وهذا ينطبق أيضًا على بقية أحياء مدينة المنصور والمدن العراقية الأخرى ولكن بنسب أقل، بل إن بعض الدور الكبيرة هدّمت وبنيت مكانها مساكن متعدّدة في قطعة واحدة وبمساحات صغيرة جدًا لا تتلاءم وطبيعة المنطقة وبنيتها التحتية، ولا من رقيب أو حسيب نزيه على ذلك، وشُوّهت جمالية المدينة وأناقتها ورقيّها ...!إن جيل السبعينيات والستينيات والخمسينيات وما قبلها مّمن سكن هذه المدينة سيتذكّر حتمًا تفاصيل تلك الذكريات، وربما أكثر وسينتابه الأسف واللهفة عليها، ومن بينهم كاتب هذه السطور الذي ولِدَ وتربّى واشتدّد عوده في هذه المدينة وما زال يجاري عاديات الزمن الذي نحن فيه وأحداثه المتلاحقة. أما الأجيال القادمة فليس لها سوى قراءة هذه السطور ومقارنة وقائعها مع واقعهم الحالي المزري بالتأكيد، والتمني لعودة تلك الأيام لحياتهم وإن كانت شبه مستحيلة ...!لذلك لم تَعد مدينة المنصور، تلك المدينة الراقية والهادئة التي كنُّا نعيش وسطها وبين أهلها العراقيين بكل ألوانهم وأطيافهم، وهكذا هو حال أغلب أحياء بغداد التي كنّا نردّد دائمًا ما قاله الشاعر علي بن الجهم عنها:التي كنّا نردّد دائمًا ما قاله الشاعر علي بن الجهم عنها:
عيون المها بين الرصافة والجـــسرِ | جلبنا الهوا من حيث أدري ولا أدري |
بل صرنا نسمع بأسف وألم قول الشاعر العربي عبد الرحمن العشماوي:
عيون المها بين الرصافة والجـسر | بكينا عِراق المجدِ من شدّةِ الـقهرِ |
مُستل من كتاب (من ذاكرة الأيام والأزمان