ماذا لو أضرب قادة العراق عن العمل!
قصي الصافي
على ذكر الاضراب يحضرني حدثان: إضراب عمال النظافة في نيويورك واضراب البنوك في ايرلندا، حدثان لهما دلالات بالغة بقدر ما فيهما من طرافة.
أضرب عمال النظافة في نيويورك عام 1968 م مطالبين بزيادة الأجور، وقد استمر الاضراب لمدة ثمانية أيام فقط، كانت ربيعاً للجرذان والحشرات، فقد سدت الازقة بالمزابل وغصت الشوارع بأكياس القمامة ، وانتشرت الامراض والروائح الكريهة، حتى اضطر السكان الى لبس الكمامات في الشوارع، ورغم مماطلة المجلس البلدي اضطر أخيراً الى تلبية مطالب العمال بزيادة الأجور واحتساب ساعات السبت بمرة ونصف ومضاعفة ساعات الاحد.
عام 1970 قرر مدراء ومجالس ادارات البنوك في ايرلندا الاضراب، و اغلقت جميع مصارف البلد ، وقد تجاوز الاضراب ستة أشهر انتهى بخيبة أمل المضربين والعودة الى أعمالهم دون ان يحققوا شيئاً، فخلال الستة اشهر نظم المواطنون الايرلنديون تحويلاتهم المالية و تعاملاتهم التجارية في البيع والشراء بصكوك مؤجلة نافذة بين بعضهم البعض و كأنها نقود حقيقية، وبعد نفاذ الصكوك شرعوا بكتابة المبالغ على أوراق موقعة ، حتى أن البعض قد آئر أن يسخر من مدراء المصارف المضربين بكتابة الكمبيالات على ورق التواليت.
لم تحتمل مدينة نيويورك العيش دون عمال النظافة لأيام، بينما تمكن الشعب الايرلندي من الاستغناء عن العمل البيروقراطي للمصارف لأكثر من ستة أشهر، فماذا لو تنحى قادة العراق ومعظمهم من الفاسدين، وتم تعيين العدد الكافي من عمال النظافة بدلاً منهم وبأجور ومحفزات عمل مجزية . قد يقال ان الدولة بلا قيادة ستتعثر مؤسساتها وتمضي البلاد الى الهاوية ، ولكن هل من قاع للهاوية لم نبلغه بعد؟! .
بالعمل الجاد والحوافز لعمال النظافة تختفي من الشوارع والمدن القمامة و الاوساخ مما يسهم في تحسين الصحة العامة والتقليل من الامراض وبالتالي التقليل من ميزانية المصروفات للمؤسسات الصحية ، فقد وجدت دراسة بريطانية بان كل جنيه واحد يصرف على عامل النظافة تدخر منه وزارة الصحة 12 جنيها .
اختفاء وجوه القادة من على شاشات التلفزيون، لا يسهم فقط في تخفيض مستوى التوتر لدى المواطن و تحسين صحته النفسية، بل سيكون لذلك أثر ايجابي في تنقية الاجواء الثقافية من فيروسات الطائفية والشوفينية، و باعتزالهم يلتحق معظم الاعلاميين الكسبة الى جيش العاطلين حيث لا تجد قنواتهم الفضائية وجرائدهم مصدراً للتمويل، فتكون فترة نقاهة ثقافية وفرصة تأمل للمواطن العراقي، إذ لم يعد هناك من يستثير غرائزه اللاعقلانية و يستدرجه الى حلبة الصراع الطائفي منتصراً لهذا الطرف الفاسد على خصمه الفاسد هو الآخر.
ملازمة قادة الفساد بيوتهم سيحرر مؤسسات الدولة من ضغوط الترغيب والترهيب، فتكون فرصة لاعادة العلاقة بين المواطن والدولة في مواجهة مباشرة يتوسطها القانون لا الاحزاب والمليشيات. اعتزال قادة الفساد أيضاً يعني توقف صفقات القومسيون والرشاوى في استيراد كل ما يحتاجه وما لا يحتاجه المواطن، والشروع في اعادة ترميم المصانع الوطنية وتطوير الزراعة المحلية.
من الواضح ان السيناريو السابق ضرب من التفكير الحالم، فالقائد الفاسد لن يتنحى طوعاً بعد ان استطاب السلطة و الثروة، و خبر أساليب التضليل واستثارة مشاعر المواطنين واستمالة المؤيدين لشرعنة هيمنته واستدامة سلطته، و لا خيار لعبور تلك المرحلة القاتمة من تأريخنا الا بصحوة المواطن وادراكه بأنه هو فقط من يمتلك مفاتيح التغيير، و إنه - بلغة دوركايم - الخلية الاساسية في جسد بالغ التعقيد يدعى المجتمع ، فاذا ما اصيبت الخلية بفايروس أو توقفت عن أداء وظائفها أصاب الجسد الوهن والعلل المستديمة. يجب ان يدرك المواطن إن القوة الكامنة فيه وقدرته على الفعل التاريخي لا تكمن فيه كفرد، بل بتوحد قوى المجتمع باتجاه هدف محدد وهو ازاحة الطغمة الفاسدة. يكاد يكون ذلك مستحيلاً قبل التطهر من نوازع الكراهية والتفرق التي تعتاش على تأجيجها الأحزاب الحاكمة، و تجنب الانزلاق في الصراع الظاهري فيما بينها، بالوقوف ضد حزب فاسد نصرة لآخر أكثر فساداً منه، فالمفارقة العجيبة في العراق ان الجميع يقر بان معظم قادة العراق قد تمادوا في التخريب والفساد وسوء الادارة، ومع ذلك فان الشعب منقسم الى جماعات داعمة أو مناوئة الى هذا الحزب أو ذاك. يبدو أن طريق التوحد طويل وشديد الصعوبات، ولكن لا خيار لنا سواه .
خاطب الفليسوف الامريكي هنري ثورو ( 1817- 1862) مواطنه قائلا : استثمر صوتك بالكامل لا في ورقة الانتخاب فحسب، وقد قدم بعصيانه المدني نموذجاً للمقاومة، حين أصر على عدم دفع الضرائب لدولة النظام العبودي آنذاك، فاودع في السجن ، وحين زاره صديقه الفيلسوف والدن قال له :لماذا لا تدفع الضرائب ، فانا لا أفهم كيف يكون مثلك داخل السجن ، فأجابه وأنا لا أفهم لماذا يكون مثلك خارج السجن. الهمت تولستوي مؤلفات ثورو ومقاومته السلمية لأنهاء العبودية، وبوحي من افكاره أسس مذهبه الانساني الذي كان بدوره مصدر إلهام لغاندي و حركة الساتياغراها للكفاح السلمي ضد الاحتلال البريطاني، والتي نجحت في تحرير الهند، و على هدى غاندي قامت حركة مارتن لوثر لالغاء التمييز العنصري والدفاع عن الحقوق المدنية للسود الاميركان . تلك التجارب وعشرات غيرها تشير بجلاء الى ان الشعوب اذا ما توحدت قواها الاجتماعية وانخرطت في الكفاح السلمي فان انعتاقها أمر محتوم.