لمن نكتب نحن المتقوقعين
د. محمود عباس
تطرق الكاتب عباس عباس إلى إشكالية في غاية الأهمية في مقاله (قنديل وسور الصين) المنشور في 25/2/2021م، وهي أن الحراك الكوردستاني يعيش ضمن بوتقة الحصار الذاتي، الذي بناه منذ قرابة نصف قرن وأكثر لحماية الذات من الأعداء، أدت إلى التقوقع والتآكل الداخلي، ومن الغرابة أننا كحراك لا ننتبه لهذه المعضلة الكارثية، ونعاتب البشرية على إهمالهم لنا ولقضيتنا، دون الإدراك إلى أننا نحن من عزلنا ذاتنا عن العالم الخارجي، ملتهين بواقعنا الافتراضي بعدما ملئناه بالخلافات السلبية والحوارات العقيمة، كما عزل وجمد الشعب الصيني حياتهم ضمن سور الصين وتحت مفاهيم كونفوشيوس على مدى قرون عديدة.
هذا الواقع السلبي عتمت على قضيتنا، ولم تسمح لها بالوصول إلى الساحات الإقليمية والدولية بالشكل المطلوب، فخرجنا وبعد عقود طويلة من الصراع المرير متقاعسين أمام القوى المحتلة لكوردستان؛ مكتفين بمجتمعنا الكوردي وحراكنا، ولا نزال في كثيره نعيش العزلة ذاتها، رغم الحركة الانترنيتية المتسارعة، والنسبة الواسعة من المجتمع الكوردي الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي وبشكل يومي وفي كل المجالات؛ والتي فتحت جميع الآفاق العالمية أمامنا.
بدراسة بسيطة لمجمل كتاباتنا؛ كحراك ثقافي وسياسي، سنلاحظ كيف أننا لا نزال منغلقين على ذاتنا، نبحث عن أخطاء بعضنا أكثر من نجاحاتنا، إلى درجة يمكن فيه تسمية معظمنا بكتاب الموضوع الواحد، أو أحياناً المقالة الواحدة، كالشعراء الذين يوصفون بشعراء القصيدة الواحدة رغم غزارة الإنتاج لبعضنا، نعيش داخل السور الكوردي، ونراقب سلبيات الأخر وليست ايجابياتهم، فمن النادر من يكتب عن قضية كوردية تعرضت إلى الطعن من القوى الإقليمية، ولا شك هذه الناقصة، يمكن التغاضي عنها؛ فيما لو كان هذا التخصص يؤدي إلى توعية المجتمع وتصحيح مسار الحراك العام، لكن عندما نسخر أقلامنا لتوسيع الشرخ بين المجتمع، وديمومة الخلافات بين الحركة، ونتناسى الأعداء، نزيد من نواقصنا الذاتية ونؤثر بدورنا على الوعي العام بين الشعب. بالمناسبة الردود البسيطة على تجاوزات بعض الشخصيات المبتذلة المعادية للكورد لا تفي بالمطلوب.
ففي إعلام المجتمعات الحضارية، وبين كتابهم، تتواجد شريحة تحصر نشاطاتها ضمن بوتقة ذاتية الصنع وتختص بالقضايا الداخلية، تستمد منها بشكل رئيس موادها الفكرية، لا ترى خارج بعدها الجغرافي، والتي فيها الكثير من الإيجابيات لتركيزها على التوعية ونشر النقد البناء، لكننا نحن في الحراك الثقافي الكوردي إن لم تكن أغلبيتنا، فمجموعة لا تستهان بنا، ننتمي إلى هذه المجموعة الفكرية، لكن بعكسهم ملهمنا عدد من أحزابنا الرئيسة، كالأنكسي ومجموعتها، والإدارة الذاتية والأحزاب التابعة لها، أو كما هو معروف، ألـ ب ي د وما خلقته من الإتحاد الحزبي، وحزبين أو ثلاث خارج هذين الإطارين، نقلبهم على بعضهم، ننقدهم، ونهاجمهم، ونوبخ ونخون قياداتهم وننعتهم بما خلق الله من الأوصاف الدونية، منا من تجف أقلامنا عندما لا تخطأ أحد الأطراف، أو يرتطم حزب ما بمطب، ننتظر سقطة من أحدهم لتستيقظ الموهبة وتظهر مادة الكتابة، علما أن الخارج الكوردستاني بل والداخل مليء بالمواضيع التي يتوجب معالجتها ودراستها، صمتنا يترافق ومسيرة ليس فقط هذه الأحزاب، بل أحيانا عمل شخصية ثقافية أو كاتب ما، أو هفوة فنان أو إعلامي تسقط منه كلمة غير مناسبة، أو شاعر مبتدأ يخطأ النطق، دونها إما يسيطر الصمت أو العشوائية في التسطير.
علينا أن ندرك أننا في الحراك الثقافي والإعلام الكوردي، أو من في حكمهما، نعيش الأزمة، الفكرية والسياسية، والوعي العام، ولا تعني كثرة قراءة المراجع والكتب تراكم معرفي يؤدي بالضرورة إلى وعي الذات ومتطلبات المرحلة، بل يتطلب منا الإبداع؛ وتنوير المجتمع والحراك السياسي، وعلى خلفية غياب الأخيرة نجد ذاتنا ضمن خضم الخلافات التنظيمية الحزبية، والنشاطات الكلاسيكية الروتينية، علماً أن ما هو متوفر لنا في ساحات الأنترنيت، وحيث شبكات التواصل الاجتماعي والأقنية الافتراضية كافية لتوعية الذات والأمة من كل أطرافها.
وللخروج من هذه الأزمة، لا بد من تقبل الخلافات كبعد حضاري، والنقد وتقبله كتحقيق للديمقراطية، وبالمناسبة كثرة الأحزاب لربما هي حلول بدائية للمعضلات التي استعصت على الأحزاب الرئيسة المهترئة. دونها تبقى الطامة، وستستمر تعمية بصيرة المجتمع، وتوسيع شق الخلافات في الشارع الكوردستاني، وتكريس نشاطات الأحزاب لإزالة الأخر من الساحة، وإعاقة تطوير أساليب الحراك السياسي.
قد يكون الحكم قاسيا، عند القول أن أغلبيتنا نعيش الضحالة الفكرية، ولا قدرة لنا كحراك سياسي-ثقافي تقديم خطوة لتوعية الذات والمجتمع أو رفع القضية درجة في المحافل الدولية أو مع القوى الإقليمية، ولهذا وجدنا ذاتنا ضعفاء على مدى السنتين الماضيتين؛ إيصال قضية عفرين، على سبيل المثال، بالمستوى المطلوب، إلى المحافل الدولية، مثلما لم يكن لدينا الإمكانيات لإيصال قضية أهلنا في شنكال إلى العالم، ولولا الدول الكبرى التي أدعت مصالحها تفعيلها لظلت في شبه عتمة، والحالتين في الواقع لا تزال دون سوية ما يجب أن تكون عليه الاهتمام العالمي، فهما جونسايد بشري، لكنهما لا يزال يدرسان كبشائع لمنظمات إرهابية.
وبالمقابل نملك قدرات واسعة في محاربة الكوردي الآخر، نحارب الأنكسي أو الـ ب ي د، أو الوحدة أو التقدمي خاصة عندما كان المرحوم حميد حجي درويش لا يزال قائما على رأس الحزب، وقد كان أخر الأحياء من مؤسسي الحزب. أو الأحزاب الكوردستانية، الديمقراطي أو الإتحاد أو الـ ب ك ك، وهناك من سيقول حتما وكيف يتم المساواة بين هذه الأحزاب، كما يقال في واقع جنوب غرب كوردستان كيف يتساوى المجرم مع الضحية، فالمعادلة مرعبة وكارثية، كل طرف له مواليه، ومريديه ومهاجميه، والاتهامات خطيرة، وهكذا نستمر؛ لا ندرك كيف نطور ذاتنا لمجارات المراحل الفكرية وخلق أساليب عصرية لإنقاذ الذات ومواجهة المتربصين بنا. أي عمليا نعيش السجن الذاتي، وهو ما نوه إليه الكاتب عباس عباس.
نكاد في الحراك الكوردي والكوردستاني نعرف بعضنا البعض، ماذا كتبنا وماذا سنكتب، وماذا سيتحدث الحزبي ذاك، في حواره القادم، وما سيقدمه الكاتب أو الشاعر هذا أو ذاك قبل محاضرته أو سيمناره، وماذا سيقدم الإعلامي على منبره الافتراضي. نكاد لم نعد نقرأ للبعض، لأننا نعرف سلفا ما يتضمنه كتابه أو دراسته أو مقاله، أي عمليا نعيش قوقعة كوردية، لا أقولها ضحالة تقديرا، لأننا نحرث في الحقل ذاته منذ عقدين وأكثر دون تطوير يذكر، وهي مدعاة للأسى، حراك ثقافي-سياسي نمثل أربعون مليون ندور في الحلقة ذاتها، نسير على الدروب نفسها، ونتحدث ومنذ عقود في القضايا المتشعبة بنفس الصيغ الكلامية ونكتب على المنهجية ذاتها.
فهل سنتمكن وبهذه الأساليب من تغيير الواقع الكوردستاني؟ وهل نخدم أمتنا أم الأعداء؟ وجميعنا نعلم أن عدم وعي المتغيرات العصرية خدمة مجانية للمتربصين بنا وبأمتنا.
من شبه المستحيل أن نغير الكوردي الأخر ليعمل مثلما نريده، فما نراه خطأً قد يراها هو جادة الصواب، وبالعكس، لكننا نستطيع أن نقف في وجه العدو كل بطريقته، إما نقنعه بقضيتنا أو نحده من محاربتنا أو نحاربه بأسلوبه، لذا علينا جميعا التحلي باحترام رأي الأخر، ولا تعني هذا التخلي عن النقد والنقد الحاد، بل تعني عدم نقل الخلافات الفكرية الداخلية إلى سوية الصراع الكوردي-الكوردي المؤدي إلى ضعف الذات.
ومن مهماتنا كحراك ثقافي بكل جوانبه وليس الحزبي، توعية المجتمع، وخلق التفاهم والتقارب في الشارع الكوردي، وإلغاء منطق الخيانة، وتفهم الحرية على أنها تعني ما يريده الأخر وليس ما نريده نحن، ونتقبل النقد؛ وننقد للتوعية وتصحيح المسارات وليس لدكتاتورية شمولية فكرية، أو لعبثية ما، أي كما نوه الكاتب عباس عباس، نعمل كما قدم أتباع كونفوشيوس لبلدانهم في اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها في بدايات نهوضها.