كوردستان والعودة بعد الفاصل
صبحي ساله يي
قبل الحديث عن أهمية زيارة السيد نيجيرفان بارزاني الى إيران التي تدرك كغيرها أن هناك سباقاً بين الدول العظمى والقوى الإقليمية، وتعرف جيّدا ظروف هذا السباق وطبيعته، وتأثيرات موقعها الإستراتيجي والمجالات المتحاتة أمامها في تنفيذ مشاريع معيّنة وتعزيز مكانتها، عبر ممارسة (مصالح ومنافع وثقة متبادلة وإحترام متبادل) مع كوردستان البعيد عن جحيم الصراعات المذهبية والدينية والقومية والذي يتميز إقتصاده ومجتمعه بالديناميكية والحيوية، لتكون علاقاتها بعيدة عن الحسابات الضيّقة وعن الاستغلال والأفكار المسبقة. وإجتماعه مع كبار المسؤولين هناك، وأبعاد هذه الزيارة ودلالاتها العميقة وتأكيد الإيرانيين على تقديرهم لشعب كوردستان وحكومتهم وحرصهم على استمرار العلاقات الثنائية، لابد من التذكير بآثار الإجراءات الإقتصادية والسياسية والعسكرية الصارمة التي فرضت على مواطني إقليم كوردستان عقب إجراء الاستفتاء في (25) إيلول المنصرم، والأوضاع الشاذة وحالة الفوضى في كركوك وبعض المناطق جراء الاستيلاء عليها بالقوة. حيث وسط حالات الخلط بين الأمور والاحتقان والتحريض ولغة التخوين، عبر الكوردستانيون عن قلقهم تجاه ما حدث بأشكال مختلفة، ودعت فئة معينة الى محاسبة المتهمين بالتواطؤ والخيانة، وآخرون نادوا بإستخدام القوة لإستعادة المناطق التي خسرناها، وأخرى دعت الى تناسي الخلافات وتوحيد الصفوف ودعم حكومة الإقليم ورئيسها (نيجيرفان بارزاني)، والتصرف بطريقة حضارية تبقي المصالح العليا للشعب في الأولوية، عبر فتح الأبواب للحوار والتفاهم والإتفاق حول الخيار الأفضل والأسلم لكل الخطوات التالية، ومعالجة الحساسيات والمشكلات والعقد والأزمات بعقلانية بعيدة عن العنف والتعصب. وفئة أخرى عبرت عن موقف يدعو الى الأسف والإمتعاض، وهو الدعوة الى حل حكومة إقليم كوردستان، وتشكيل حكومة جديدة.
الذين دعوا لمحاسبة المتورطين والمتواطئين، وكذلك الداعين الى إستعمال القوة، خفت أصواتهم، ربما لتوصلهم الى قناعات محددة تدحض آرائهم السابقة، أو لحسابات الربح والخسارة أو بسبب ضرورات الإهتمام بالأهم قبل المهم وعدم الإنشغال بالتفاصيل الصغيرة، وربما بسبب الإستفادة من نعمة النسيان التي لولاها لما وجدنا على الأرض السلام والأمان والإستقرار جراء عمليات الثأر والإنتقام ومحاسبة المخطئين.
أما الفئة التي دعت الى تناسي الخلافات وتوحيد الصفوف ودعم حكومة الإقليم ورئيسها، فهى على قناعة بأن الكوردستانيين يتطلعون بجدية وبعين الأمل والترقب الى المستقبل والحوار الإيجابي الداخلي والخارجي، ويعتبرونها خطوات صحيحة على المسار الصحيح، مسار الحوار والتفاهم وإحترام الآخر والتوقيع على إتفاقات سياسية ملزمة، تطلق إشارات إيجابية مشجعة على إمكانية إحتواء الأزمات ومعالجة القضايا العالقة والمستفحلة، وتضع الأسس العملية للمشاركة الحقيقية في إدارة البلاد وصنع القرار، وتلغي التشنج والفرقة والتباعد وتتجاوز الخلافات بحلول موضوعية، دون المطالبة بالإعتراف بأخطاء المرحلة السابقة، ودون ذكر وإستعراض المشكلات التي واجهت الاقليم خلال السنوات الماضية وأسماء وعناوين المتسببين وغاياتهم، لأن ذلك سيطول، خاصة لو تم ذكر آثار سياسات التحدي والتنافس التي أدت الى خسائر فادحة, والتأكيد على ضرورة عدم إستمرار التهاون مع المشكلات أو حتى مسايرتها، وعلى تسريع الخطى نحو فتح الأبواب المغلقة والإجتماع في أروقة مؤسسات صناعة القرار، وصنع فرص جديدة للتعاون السياسي الأمثل بين الكوردستانيين بالإستناد على قاعدة المصالح العليا للاقليم وشعب كوردستان ومغادرة لغة التصلب والتشدد وإلغاء نظرية المؤامرة والإحتكام الى مبدأ المواطنة الحقيقية والمساواة في الواجبات والحقوق لأنه الخيار الافضل والأسلم لشعب كافح لعقود متعددة ضد أعداء في منتهى الشراسة والوحشية، كما دعوا الى توحيد المواقف وتنسيق الجهود وإعادة النظر في الحسابات المصيرية وفك التداخل والخلط بين المنافع الشخصية والحزبية والإستحقاقات التي تتطلب الصبر ومنح الفرصة والوقت الكافيين لإيجاد الحلول الآنية للمشكلات الجديدة والقديمة المتراكمة، ورؤية الواقع والتمهيد الى تجديد التفاؤل وإعادة الرشد الى الخطابين السياسي والإعلامي.
نيجيرفان بارزاني، رئيس حكومة الإقليم ونائب الرئيس مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني، لاعب بارز وأحد أقطاب المعادلة الجيوسياسية في المنطقة، وأحد صناع القرار السياسي الكوردي، يقف بشموخ على رأس الدبلوماسية الكوردية ويحظى بمكانة مرموقة في مراكز القرار الإقليمي والأوروبي والدولي كرجل له حضور قوي أظهر مهارة في حل أزمات عديدة وهو رجل المرحلة دون منازع ورجل المهمات الصعبة خصوصاً في ظل الأزمات التي تعصف بإقليم كوردستان وفي ظل بقاء العديد من الملفات العالقة بين أربيل وبغداد. حاول فك الحصار على كوردستان وفتح القنوات الدبلوماسية أمام الكوردستانيين وايصال همومهم ومعاناتهم الى ألاروقة الدولية، وما يجب أن يقال بهذا الخصوص هو أن الأتراك أحدثوا الشرخ الأول في الحصار الذي فرض على كوردستان وذلك عن طريق تسهيل سفر رئيس حكومة الإقليم الى فرنسا والإجتماع بالرئيس الفرنسي في قصر الأليزيه وألمانيا والفاتيكان واستقباله بصفته الرسمية الرفيعة كرئيس للوزراء من قبل البابا فرنسيس بابا الفاتيكان.
لقد قاد بارزاني في الكثير من المواقف الصعبة الدبلوماسية الكوردستانية بحكمة وتأني ومرونة وأسلوب حضاري ومدني وعالج إشكاليات معقدة كالصراعات والمشكلات الداخلية والأزمات السياسية بين الأحزاب الكوردستانية، ونجح في حلها أو تهدأتها، وحرص على وحدة الصف والأمن والسلم الاجتماعيين في كوردستان، وتعاطي مع الأحداث إعتمادا على نهج البارزاني الخالد. ونجح في إرساء علاقات دبلوماسية رصينة مع الكثير من بلدان العالم، على أسس متوازنة تحكمها العلاقات الاقتصادية والسياسية، وتلك الأسس بلورت ديناميكية دبلوماسية تعتمد العمل المنتج بعيداً عن التهويل والتشنيج، كما دفعت الكثير من بلدان العالم إلى افتتاح ممثليات لها في اربيل. وأن النجاح الذي تحققه زيارته لإيران وإجتماعاته مع الرئيس حسن روحاني، ورئيس البرلمان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني لتطوير العلاقات والتعاون بين ايران وإقليم كوردستان ولبحث آخر التطورات في العراق وإقليم كوردستان والمنطقة، تعد نجاحًا لكل الكورد، وتظهر أن هناك تغييراً واضحاً فى المواقف التي تبنتها طهران تجاه أربيل، وترسل رسالة لبغداد مفادها ان العودة الى منطق العقل ولغة التفاهم والحوار والإعتراف بالحقوق المشروعة للاقليم تخدم الوضع الراهن والمستقبل وتشكل عاملا أساسيا وضروريا لمعالجة كل الأزمات العالقة بين أربيل وبغداد.