عقدة المثقف العربي
د. محمود عباس
عانت، وعلى مدى قرن من الزمن، أغلبية الحركة الثقافية العربية من الاستعباد، سخرتهم الأنظمة الشمولية العنصرية كأدوات لمحاربة الحركات الكوردية والأمازيغية وغيرهم داخل العالم العربي، مثلما فرضت عليهم تلطيف استبدادها ووجوهها العنصرية أمام مجتمعاتهم والعالم، علما أنها في المراحل الزمنية المتأخرة، وعلى خلفية اللغة والمجالات المتوفرة، كانت ومن حيث الأغلبية تتقدم الحركة الثقافية الكوردية في تراكمها المعرفي وسويات التحليل، إلا أنها لم تملك جرأة المواجهة ولا قدرة على التغيير الديمقراطي بقدر ما قامت به الحركة الكوردية، لذلك ظلت نتائجها هزيلة وضحلة.
وفي بعد أخر عاشت الشريحة الوطنية منها؛ الويلات الأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، بسويات لم تعانيه أية مجموعة أخرى، فمن حيث البعد الثقافي كانت تدفع بها لمواجهة الطرف الأخر من المعادلة، أي الحراك الكوردي، السياسي والثقافي، وتفرض عليها تشويه مفاهيم الشعب الذي كان ولا يزال يعاني من الاحتلال الإقليمي، المشابه للاحتلال العثماني لشعوب المنطقة على مدى أربعة قرون، الذي كان يختلف عن الاستعمار الأوروبي. فكما نعلم؛ ما بين الاستعباد؛ والاحتلال؛ والاستعمار؛ مسافات مرعبة في كل المجالات وفي مقدمتها، الثقافية.
فما يعانيه الحراك الثقافي العربي اليوم من التردد في اتخاذ المواقف الوطنية العملية وتعتيمها بمفاهيم نظرية طوباوية عن الوطن ودولة المواطنة، وعدم قدرة التخلص من العقد الثقافية-السياسية، هي نتائج ترسبات العقود الطويلة من سيطرة القوى السياسية العنصرية الدكتاتورية على المسارات الثقافية، وتسخيرها لمصالحها، وحالت دونها ومحاولة تعديل ما رسخ في ذهن أغلبيتهم من الصور النمطية المشوهة.
علما أن نسبة غير قليلة تملك نسبة عالية من التراكم المعرفي، وقدرات قيمة على التحليل المنطقي لمجريات الأحداث ولواقع المجتمع، وأن شريحة واسعة بدأت تدرك ما كانت تعانيه، وما كانت تهيمن على مفاهيمهم، وتعلم خلفيات ترددها، ولماذا لا تزال تعيش الرعب الداخلي، وأسباب الصراع ما بين الشعور واللا شعور، مع ذلك لم تقدم النشاطات الكافية للتخلص من الاستعباد.
ورغم أن شريحة غير قليلة تخلصت من جغرافية هيمنة الأنظمة الدكتاتورية لكنها:
1- إما أنها سقطت في مستنقع مفاهيم جديدة بدأت تسود، وهي لا تقل هيمنة من الاستعباد الفكري السابق.
2- أو أنها عادت وتقبلت الثقافة الماضية لتحافظ على منطق الاستعلاء التي أوهمتها السلطات العنصرية.
لهذا فالمجتمع العربي يحتاج إلى فترة زمنية أخرى وانتفاضات سياسية واجتماعية أعمق، لتتمكن حراكها الثقافي التحرر من الاستعباد وعقدها التي أصبحت بعدة أوجه الأن، قبل أن تحمل راية التنوير.
البعض سيشمئز ويمتعض، من ذكر الحقيقة، والبعض الآخر يستهزئ للتغطية على ما يدركه، والجميع هنا معنيون بالأمر لمعالجة هذه العقدة، عقدة الاستعباد، وتقبل أو عدم محاولة أو عدم قدرة التخلص منه، والتي تؤثر على مجتمعاتنا، وعلاقات شعوبنا، ومسيرتهم نحو الاتجاه الوطني، وعلى حواراتهم مع الحركات الثقافية للشعوب الأخرى وفي مقدمتهم الحراك الكوردي، وهو ما يؤدي إلى الوقوف على الطرف النقيض من وضع الحلول لقادم شعوبنا وأوطاننا، ومن ضمنها مستقبل سوريا، والمنطقة الكوردية.
ومن الغرابة أن تأثيرات الاستعباد تشعبت إلى درجة أضعاف الثقة بالذات الفكرية أو الثقافية-السياسية، وقيام مجموعة من الأخوة؛ الكتاب العرب، بالدعاية لمفاهيم كتاب بلاط سلطتي تركيا والفرس، الذين يعيشون الاستعباد مثلهم، ليس على خلفية تبادل الآراء، والمفاهيم، والتقارب الثقافي، بل لأنهم في خندق واحد في مواجهة القوميات الأخرى المتصاعدة قضاياها. وجل ما يترجم وتنشر كمقالات، طروحات ساذجة، توسع الشرخ بين شعبينا العربي والكوردي. وقد شاهدنا مثل هذه النصوص منشورة في موقع الحرمون التابع للمركز العربي للاستراتيجيات ودراسة السياسات، القطرية، المتأثرة بالمسيرة السياسية الإسلامية القومية لحزب العدالة والتنمية الأردوغاني، وعلى سبيل المثال، مقالات الكاتبة مروة شبنم أوروج، والتي تهاجم فيها الكورد وتعالج قضيتنا بأحكامها وإسقاطات النظام التركي، فهي كانت رئيسة تحرير الإعلام لقناة ت ر ت العالم، وتعرض ذاتها كمتخصصة في الوضع السوري والشرق الأوسط، والسياسة الخارجية التركية.
مثل هذه الاهتمامات تعكس سياسة الموقع المعادية للكورد، وليس مساندة المعارضة السورية أو مواجهة نظام بشار الأسد. وتبرز، ما نوهنا إليه، على أن منطق الاستعباد يدفع بأغلبية المثقفين العرب إلى عدم التمييز بين ما يضر المجتمع العربي وعلاقاته مع الشعب الكوردي والتي تحتضنهم الأوطان، وما يتوجب عليهم تقديمه لمنفعة شعبينا في المنطقة، الأغلبية لا تزال لا تبحث عن الحلول لإنقاذ المجتمع بقدر ما تحاول إيجاد جدليات نظرية يهادنون بها ذاتهم، رغم ما بلغته من المعرفة. كما وأن ترسبات العقد السابقة؛ وعدم الجرأة في مواجهة المجتمع عند تقبل الرأي الأخر غير العربي، يرفضون ما يصدر من الكوردي مهما كان منطقيا وصائبا.
ومن أحد أغرب المفاهيم (الفيدرالية تتعارض والديمقراطية) بدأت تروجها شريحة مشكوكة في أمرها، تدعمها مجموعة من المثقفين والكتاب، تنشرها وتسند بمفاهيم ساذجة، وتأويلات ضحلة، وذلك من خلال مقالات تفتقر إلى: منطق الاستنتاج، والخلفية المعرفية للأنظمة الديمقراطية، المؤدية إلى الابتعاد عن عقلانية الطرح حول مستقبل سوريا والعالم العربي.
وكنا قد ذكرنا أن معالجة هذه الإشكالية رغم ضرورتها ستجرنا إلى نوع من النقاش السفسطائي، لأن عرض الجدلية، في جميع الحالات تسند بمفاهيم مجموعة لا تزال تعيش منطق الرعب من القادم الجديد، والرهبة من التغيير في الواقع الحالي.
من الأهمية ذكرها، أن أغلبية الحراك الثقافي العربي، دون النخبة الصاعدة، لا تزال مقتنعة بالمنهجية الشمولية؛ تحلل دساتير أغلبية الأنظمة السياسية العالمية من خلال منظور السيادة والموالي، وترفض الاستفادة من خبرة الحضارة الديمقراطية في أوروبا، والتي معظم أنظمتها فيدرالية لا مركزية، ولأن شعوبها بلغت مرحلة راقية من الوعي العام والتطور المعرفي، وأصبح التعامل الحضاري الديمقراطي من سلوكياتها اليومية، فلم تعد تتحاور على نوعية النظام، بل تبحث عن رفع سويات المعيشة وتجاوز نقصان الثانويات بعدما تخطت مرحلة تأمين الضروريات، لذلك نتيه كحراك ثقافي بين أنظمتها كما وردت في الدساتير وما يتم ممارستها على أرض الواقع.
كما وأن ديمومة العقدة عند المجموعات التي تلهث وراء المصالح الذاتية كسياسيين، تدفعهم لخدمة قوى إقليمية بدون تأنيب ضمير، وخداع العامة من الشارع العربي لتمرير غايات: إما تقسيم سوريا، أو ترسيخ السلطة العربية المركزية العنصرية، خاصة أولئك الذين يدركون أن النظام الفيدرالي سوف تحرر الحركة العربية من العبودية الفكرية، والكوردية من الاحتلال، وبالتالي توثيق الرباط الوطني الحضاري بين شعوب المنطقة.
ففيما لو تحررت الحركة الثقافية-السياسية: العربية من الاستعباد؛ والكوردية من الاحتلال، ستكون نتائج الحوارات باهرة، وستقبل الحلول المطروحة من قبل الشعب الكوردي، حيث النظام الفيدرالي اللا مركزي المتلائم مع الواقع السوري الميداني، والاجتماعي، والسياسي، والتي دونها ستكون عودة إلى الدكتاتورية، ومنها ربما الى التقسيم.