أزمة الأطباء والصيادلة في العراق: دعوات لترك الكليات الطبية في ظل حاجة ماسة للرعاية الصحية
صادق الازرقي
جدل واسع في العراق، بعد تصريحات نقيب الصيادلة، ونقيب الأطباء "وكذلك نقيب أطباء الأسنان" العراقيين، الذين دعوا طلاب الصف السادس العلمي، إلى العزوف عن الالتحاق بكليات الطب والصيدلة بعد التخرج.
ويقول نقيب أطباء العراق، حسنين شبر، "نصيحة لخريجي الثانوية.. لا تقرروا الذهاب لكلية الطب قبل دراسة كل الخيارات.. فكلام الأجداد ليس بالضرورة ملائما للمستقبل ولا حتى القريب».
كذلك قال، حيدر فؤاد الصائغ، نقيب الصيادلة «أبناءنا وبناتنا خريجي السادس العلمي وعوائلهم الكريمة، وأنتم تقررون الكلية التي ستقدمون عليها، فكروا جيدا قبل التقديم على كليات الصيدلة».
ومن منظور الواقع المهني فان تلك الدعوات من نقيبي الأطباء والصيادلة لا تأتي من فراغ، فهما يمثلان النقابتين المعنيتين بتنظيم هذه المهن ويعيشان عن قرب واقع سوق العمل، و عندما يصدران مثل هذه التحذيرات، فهذا يشير إلى تواجد مشكلة حقيقية قد يواجهها الخريجون، وهي التخمة في أعداد الخريجين مقابل قلة فرص التعيين في القطاع الحكومي، الذي يعد تقليديا الملاذ الأول للملاكات الطبية في العراق؛ وعد البعض هذه النصائح بكونها أمينة ومسؤولة، فمن واجب النقابات والجهات المسؤولة توضيح الصورة الكاملة للشباب، وعدم تركهم يتخذون قرارات مصيرية بناء على أفكار قديمة أو نظرة غير واقعية للمستقبل.
إن دراسة الطب والصيدلة تتطلب جهدا كبيرا وتضحيات مالية ومعنوية، ومن الظلم أن يكتشف الطالب بعد سنوات من الجهد أنه لا يجد فرصة عمل لائقة؛ لذا، فإن التنبيه إلى هذا الواقع ربما لا يقصد به إحباط الشباب، بل هو دعوة لهم للتفكير بعمق ودراسة الخيارات المتاحة في سوق العمل، والنظر في التخصصات الأخرى التي قد تكون لها فرص وظيفية أفضل.
قد يرى البعض أن هذه النصائح تثني الشباب عن طلب العلم، لكنها في الواقع دعوة لـ توظيف العلم في المسار الصحيح؛ إن المشكلة ليست في العلم نفسه، بل في عدم تواجد خطة استراتيجية لاستيعاب أعداد الخريجين المتزايدة؛ فبدلا من أن تضيع طاقات الشباب في تخصصات مكتظة، يمكن توجيههم نحو تخصصات جديدة، سوق العمل بحاجة لها، وتواكب التطورات العالمية.
فيما يرى آخرون، ان المشكلات التي يتعرض لها القطاع الصحي في العراق، تتطلب الاستفادة من الملاكات الطبية وليست بنصح الخريجين ترك التوجه الى دراسة الطب.
ان بلدان العالم واجهت تحديات مماثلة في مراحل متعددة، وطوّرت حلولا متكاملة لمعالجة تزايد أعداد خريجي المهن الطبية والصيدلانية، الحلول لم تقتصر على جهة واحدة، بل شملت تنسيقا بين القطاعين العام والخاص، و التركيز على جودة التعليم والتدريب.
ولكن اذا كان مثل هذا الامر يحدث في العراق، فكيف حلت البلدان المتقدمة مشكلة تزايد أعداد الخريجين؟
ان البلدان المتقدمة لم تعتمد على التوظيف الحكومي كحل وحيد، بل اتبعت استراتيجيات متعددة، منها، التحكم في أعداد المقبولين، فبعض الدول تفرض قيودا على أعداد الطلاب المقبولين في كليات الطب والصيدلة، بما يتناسب مع حاجة سوق العمل؛ هذا يضمن أن يكون هناك توازن بين أعداد الخريجين والوظائف المتاحة، ويحافظ على جودة التعليم والتدريب.
و بدلا من التوظيف العام، يجري توجيه الخريجين للتخصصات الدقيقة التي يتواجد فيها نقص، فمثلا، قد يكون هناك فائض في عدد الأطباء العامين، في حين يتواجد نقص حاد في أطباء التخدير أو جراحة الدماغ والأعصاب؛ لذا، يجري تشجيع الخريجين على إكمال برامج الإقامة والتخصص في المجالات المطلوبة.
و الحكومات في هذه الدول تشجع وتدعم القطاع الخاص في المجال الصحي، عن طريق تسهيل منح الاجازات، وتوفير التمويل، وتقديم الإعفاءات الضريبية للمؤسسات التي تستوعب الخريجين، هذا يخلق فرص عمل جديدة خارج إطار القطاع الحكومي.
و لا يقتصر عمل الأطباء والصيادلة على المستشفيات والعيادات، الدول المتقدمة استحدثت مجالات عمل جديدة، مثل، ما يسمى الصيدلة السريرية، اذ يعمل الصيدلي مباشرة مع الفريق الطبي في المستشفيات لضمان الاستعمال الآمن والفعال للأدوية، كما يجري توفير فرص عمل للخريجين في مراكز الأبحاث الدوائية والطبية.
وفي مجال إدارة المستشفيات والمراكز الصحية يجري توظيف الملاكات الطبية في المناصب الإدارية التي تتطلب فهما عميقا للعمل الطبي، كما يعمل الأطباء والصيادلة في شركات التأمين لوضع السياسات والمعايير الصحية.
ويمثل القطاع الخاص والمستشفيات الأهلية حلا رئيسا لهذه المشكلة، ففي البلدان المتقدمة، تؤدي المستشفيات والعيادات الخاصة دورا محوريا في تقديم الرعاية الصحية، وبالنتيجة تستوعب أعدادا كبيرة من الأطباء والصيادلة، هذه المستشفيات غالبا ما تكون مجهزة بأحدث التقنيات وتوفر بيئة عمل جاذبة.
في مجال الصيدلة، لا تقتصر فرص العمل على الصيدليات فقط، فهناك فرص في شركات الأدوية (تسويق، بحث وتطوير)، وفي شركات تصنيع المستلزمات الطبية وكثير منها من القطاع الخاص، وفي المختبرات.
و يعتمد عدد كبير من الأطباء على افتتاح عيادات خاصة بهم بعد اكتساب الخبرة المطلوبة بتسهيل الحصول على الاجازة والدعم، وهذا يمثل استقلالية مهنية وفرصة لتحقيق دخل أفضل، ويقلل من الاعتماد على التوظيف الحكومي.
إذن، الحل ليس فقط في اشكالية إيجاد الوظائف الحكومية، بل في بناء نظام صحي متكامل يضم القطاعين العام والخاص، وتوجيه الخريجين نحو التخصصات المطلوبة، وتشجيعهم على ريادة الأعمال في مجالاتهم؛ ويظهر ان هذا هو ما تحاول نقابات المهن الطبية في العراق الإشارة إليه، اذ أن الاعتماد الكلي على التوظيف الحكومي لم يعد حلا مستداما.
وعند النظر الى التصريحات بترك دراسة الطب في العراق لابد من الاشارة الى الدوافع من وراءها، ومن ذلك ان النظام الصحي في العراق يعاني من عديد المشكلات والتحديات التي تؤثر على جودة وكفاءة الخدمات الصحية المقدمة للسكان، من بين ذلك تدهور البنية التحتية، الفساد الإداري، ضعف التمويل، وتأثير النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية.
ادى ذلك إلى نقص في المرافق الصحية والمعدات الطبية الحديثة، وبرغم ان العراق يعاني من نقص حاد في عدد الأطباء والممرضين، فلا تتواجد خطط للتعيين والتأهيل، بخاصة في المناطق النائية، كما أن هناك هجرة للأطباء المهرة إلى الخارج.
ويؤدي الفساد المالي والإداري، إلى سوء إدارة الموارد الصحية وهدرها، فضلا عن تفشي ظاهرة "الموظفين الوهميين" التي تكلف الدولة مبالغ كبيرة، ويمنع ذلك تعيين خريجين جدد، اذ يعتمد النظام الصحي العراقي بشكل كبير على التمويل الحكومي، وهذا يجعله عرضة للتأثر بتقلبات أسعار النفط وتغيرات الموازنة العامة.
كذلك تتسبب الحروب والنزاعات وتلوث الهواء والمشكلات البيئية في زيادة الضغط على النظام الصحي، وزيادة أعداد المصابين والمرضى، وتشريد السكان، والتأثير على صحة الناس وزيادة انتشار الأمراض، و ارتفاع معدلات الأمراض غير السارية مثل السكري وأمراض القلب والسرطان، مما يتطلب جهودا كبيرة في الوقاية والعلاج، يقابل ذلك ضعف في خدمات الرعاية الصحية الأولية، مما يؤدي إلى ضغط على المستشفيات وتأخر في تشخيص وعلاج الأمراض، يقابل ذلك انعدام الخطط فيما يتعلق بتعيين خريجي كليات الطب الجدد.