تركيا في رحلة قلم

تركيا في رحلة قلم

د. علي أحمد الزبيدي

2025-12-24T16:51:29+00:00

على عادتي اليومية، أستيقظ مبكراً وأجهّز نفسي للخروج إلى العمل، فإذا بي أستفيق على وضعٍ غير اعتيادي قرب منزلي، ألا وهو عملية إكساء الشوارع التي طال أمد انتظارها، بعد أن تدهورت حالتها لما يقارب أكثر من عشرين عاماً.

وأكيد هنا لا توجد أي فروقات بين المواطنين، إلا منزلاً لضابط في الجيش العراقي الحالي، احتلّ رصيف الشارع والجزرة الوسطية، وهو كحال الشوارع المتهالكة، لم يتغير وضعه منذ عشرين عاماً أيضاً. من هو؟ وأين عمله؟ ولماذا لم ينله التغيير أو التقاعد أو أي أمرٍ آخر؟ بل استثنى نفسه من أن يعود الشارع كما كان عليه سابقاً، وبقيت الأنقاض تحيط ببيته من كل جانب.

أعود إلى ما أسلفتُ في البداية، وأنا أسير بسيارتي بعد عودتي القريبة من دولة تركيا، فإذا بي أقارن ما نحن فيه وما هم عليه. أية دولة كبيرة كمثلها تاريخاً وحضارةً وقوةً وصلابةً وبناءً وعمراناً وثقافةً وقانوناً. هنا تكمن القضية. فلعل من يمتلك الثقافة الحقيقية ويقرأ مقالي هذا قد يتصور أنه تمجيدٌ لهذه الدولة، لكنه في الحقيقة عكس ذلك؛ فهذا واقع يجب أن يُقال.. لا علينا بأنها دولة ذات سيادة وقوة وقرار، ولا شأن لنا بقطع المياه بعد تغيّر الوضع منذ عام 2003، ولا دخل لنا بتحريك الأجندات السياسية في الداخل لمن يُساق نحو السلطة والجاه. الموضوع ببساطة هو أجواء من التغيير الروتيني، وحسرة على بلدنا ذي التاريخ والحضارة أيضاً.

طيلة سفرتي، لم أشاهد مظاهر مسلحة، ولا فصيلاً يرتدي الزي العسكري، ولم أرَ مجموعة تترجل من عجلاتها لتعتدي على رجل مرور أو مدني في الشارع، ولم أرَ صور شيوخ أو سادة أو سياسيين، دورهم الكلام فقط.

ولم أشاهد فيضانات مياه تغمر الشوارع، ولم ألمس أو أشعر بانقطاع في التيار الكهربائي ولو لثوانٍ معدودة. ولم أرَ ثكنات عسكرية قرب منازل المواطنين، ولم أشاهد عجلات بصافرات تغزو الشوارع، باستثناء سيارات الإسعاف التي يقودها سائقون تابعون لقطاع الدولة. ولم أشاهد أناساً يهتفون أو يطبّلون لزعيم أو مسؤول أو رجل دين أو سياسي.

هذه ليست المرة الأولى التي أزور فيها هذه الدولة، وأنا أرى نظاماً ثابتاً، وقانوناً صارماً، وبناءً شاهقاً، وأنظمة سير عالمية، وطرقاً ومواصلات وخطوط نقل متعددة قد تكون من الأكثر تطوراً عالمياً.

جسور وأنفاق وطرق سريعة، وخطوط عريضة للسير، وطبيعة خلابة وخضرة دائمة. الممرات الوسطية في الشوارع لم تُستغل لتعليق صور الأبطال أو نصب السرادقات، بل جُعلت وسائل نقل حديثة تقلل الزخم المروري وتشجّع على النقل العام. فتجد أغلب المواطنين يستخدمون هذه الخطوط، والجميع متساوٍ؛ لا حماية، ولا أحد يقوم من مكانه لغيره إلا لكبار السن، ولا أحد يركب دون دفع تذكرة الدخول، ولا يقفز فوق الحواجز. لا هذا سيد فلان، ولا شيخ فلان، ولا حجي فلان؛ الكل متساوٍ. بل إن الرقابة الأمنية واضحة، ورجل الأمن حاضر بعمله، لا يحمل هاتفه ولا يترك موقعه، ولا يظهر بمظهرٍ يُرثى له، ولا يخالف النظام إلا النادر من بعض الجنسيات الأخرى.

العجيب في شعب هذه الدولة، ورغم ما لدى بعضهم من عنصرية، أنهم متحابون فيما بينهم، ولا توجد في تعاملاتهم أية مجاملات من نوع: “لا عليك النبي”، أو “بجاه سيد فلان”، أو “لو بروح شيخ علان”. الكل يخضع للنظام، حسب ما رأيت.

والسؤال هنا: لماذا المسؤول في بلدنا الحبيب يُمَنّ علينا، ويجعل ما يقدّمه من عملٍ (مِنّة)، ويريد أن يكون بطلاً قومياً لأنه بنى جسراً أو مستشفى أو مدرسة لا تتجاوز واحداً بالمئة مما رأيته في هذه الدولة؟ ويتوقع أن ذلك إنجاز، ولو علم أن دولاً كانت خلفنا في كل شيء أصبحت اليوم تفكّر بالبناء فوق القمر والمريخ، وقد تجاوزوا هذه “المقاولات” ـ عفواً، عمليات البناء البسيطة ـ فالعالم تغيّر، وتركيا نموذج لما نريد ونتمنى. ولكن كل شيء يهون، وأهم شيء أن نهتف لرئيس الحكومة أو البرلمان القادمين: “كلنا وياك باشا”، وهيهات من الذلّة… وما ننطيها، والسلام.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon