بقاء قانون تعادل الشهادات تكريس للفشل والتخلف
أ.د. محمد الربيعي
تعتبر الدورة البرلمانية الحالية اسوأ دورة لنوعية القوانين المناقشة والمشرعة، وللخروقات القانونية والمناهضة لتطلعات الشعب، وأكثر هذه القوانين سوءً هو قانون معادلة الشهادات والذي يقف في صدارة الإجراءات المناهضة للمجتمع الأكاديمي المحلي والعالمي، وباعتباره أغرب قانون في التاريخ الحديث، وفقا للتتبع والتحليل، ودلالة أكيدة على جهل المشرعين بواقع التعليم العالي العالمي.
وصف القانون بأنه "كارثة"، و"مثال بارز لدولة فاشلة"، و"تكريس للجهل"، وأنه "الأسوأ في التاريخ". لم يكن لمجلس النواب الكثير من القوانين، ولم يتم تمرير العديد منها مما يلقي الشك على الاسباب التي ادت الى الاستعجال في اصدار هذا القانون. لربما يؤكد الاصرار على تشريعه هو ما شاع من ان غرضه هو افتعال ازمة في الوسط الاكاديمي بالاعتراف بالشهادات بطرق بعيدة عن الأعراف الأكاديمية ولتسهيل عملية منح الألقاب العلمية للبرلمانيين و اصحاب الدرجات الخاصة والموظفين وأصحاب الشهادات.
حقيقة هذا القانون كما وصف بأنه كارثة ضمن عدد كثير من الكوارث التي أصابت التعليم العالي منذ السبعينات ولغاية اليوم. هذا قانون يستحق ان يكون مثال بارز لدولة معزولة ومحاصرة ذاتيا، لا يعرف نواب برلمانها بما يجري في العالم، وفي غربة تامة عما يحدث للتعليم العالي من تطورات، فيما عدا بعض الأمور السطحية كالتصنيفات العالمية التجارية، وبما يجري في بعض دول الجوار كالاردن. هذا هو الحد الاقصى لما يعرفه كثير من المسؤولين، وأعضاء البرلمان عما يجري من تطور في التعليم العالي في العالم. الطامة الكبرى انه يصدر في وقت انتشر فيه تزوير الشهادات والاقتباس غير المشروع والسرقات العلمية وكتابة الاطاريح تجاريا، واصبح التزوير والسرقة العلمية هما القاعدة، والنزاهة والصدق هما الاستثناء ليزيد من "الطين بَلَّة".
في الأمس كثير من الأكاديميين والمثقفين شجب إصدار القانون ووقف ضده، وكثير من أظهر مساوئه، واليوم بدأنا نلمس نتائجه السلبية وتأثيرها على حركة التعليم العالي، والتي أؤكد انها لن تعود بخير عليه، ولن تصب في مصلحة البلد وتقدمه، وانما ستساهم في تسريع تدهور الرصانة العلمية التي ما انفكت بالتدهور منذ عدة عقود.
سأحاول ادناه تقديم عرض سريع لأهم مساوئ القانون وأخطاره على مسيرة التعليم العالي.
1- منح الألقاب العلمية الجامعية لعموم الموظفين ومن قبل مؤسسات لا علاقة لها بالجامعات.. هذا حقا بعمل خطير وغريب. لا توجد مؤسسة غير اكاديمية في العالم تمنح لقب اكاديمي كلقب بروفيسور. لا يحدث هذا في اي دولة في العالم! اللقب العلمي لا يمنح من قبل مؤسسات غير اكاديمية وغير تعليمية وبحثية ونقصد بها الجامعات ومثيلاتها، فهذا اللقب يحمل كثير من الشروط والواجبات الاكاديمية والعلمية، ويفرض على الجهة المانحة متطلبات مالية واعتبارات وظيفية تتعلق بمهام الجامعات حصرا كمثل التدريس والاشراف، والتوجيه والبحث العلمي، والابتكار ومواكبة التغييرات، وتقديم الاستشارات العلمية والتكنولوجية.
اللقب العلمي خاص بالمؤسسة الاكاديمية كما هو لقب "جنرال" فهو خاص بالمؤسسة العسكرية. هو ليس بجائزة او ميدالية شرف.. انه لقب لوظيفة تتطلب نشاط اكاديمي وتدريسي وبحثي ومشاركة فعلية في عملية التكوين العلمي والمهني للطلبة. انه لقب وظيفي ينتهي مفعوله بترك الاكاديمي للمؤسسة الاكاديمية، أي لا يستطيع الاكاديمي من استخدامه بعد تقاعده او خروجه من الجامعة. يستطيع الاكاديمي ان يّعرف نفسه بانه بروفيسور سابق او بروفسور متقاعد (الا اذا كان يحمل لقب بروفيسور متمرس)، كما لا يستطيع الجنرال ان يستمر بتسمية نفسه إلا بالجنرال السابق او المتقاعد والوزير بالوزير السابق. فكيف يمكن منح الضابط او الموظف في وزارة الشباب والرياضة، او في وزارة النقل، او في الداخلية، او الدفاع لقب بروفيسور؟ وما هي الضوابط والمعايير الاكاديمية التي سيتم على أساسها منح اللقب ومن خلالها تتم عملية الترقية العلمية؟
لقب بروفسور هو وصف لوظيفة تمنحها مؤسسة أكاديمية مثلما تمنح لقب مدرس، وبروفسور مساعد عندما يحقق التدريسي شروط المؤسسة. اما ان يمنح على أساس انه لقب معنوي فهذا حقا تجني على كل بروفسور. وهذا ما لا يمكن ان يحصل الآن إلا في العراق. انها مهزلة واستهتار بالألقاب والوظائف العلمية!
2- اما المسألة الثانية فهي التي تدور حول إلغاء اللجان العلمية لتقييم الشهادات أي ان تقييم الشهادة سيتم من خلال عمليات إجرائية ولن يتم مناقشة الجوانب العلمية للشهادة. هنا حقيقة لا غبار عليها وهي ان العالم يهتم بالجوانب العلمية اكثر بكثير من الجوانب الإجرائية.. العالم عند معادلة الشهادة وتقيمها يعطي اهمية بالغة الى معايير التأهيل كشروط القبول ومدة البرنامج وهيكل البرنامج ومحتواه وطرق الدراسة والتقييم، حالة المؤسسة المانحة، أي ما إذا كانت معتمدة / معترف بها من قبل هيئة عالمية لضمان الجودة والاعتماد، والدرجات العلمية السابقة للدرجة الحالية، أي في حالة شهادة الماجستير ينظر في أهلية شهادة البكالوريوس. كيف سيمكن من تقييم الشهادة من دون الاخذ بالاعتبار هذه المعايير ومن دون لجنة علمية مختصة؟ من سينظر بها؟ تبدو لي الاجراءات التي نص عليها القانون قمة الاستهتار برصانة الشهادة ومصدرها! انها إهانة كبيرة للمجتمع الاكاديمي. كيف يمكن الاكتفاء فقط بمصادقة الملحقية الثقافية على الشهادة بدون الحاجة لمصادقة وزارة الخارجية من البلد المانح ومن دون اعترافها بالجهة الاكاديمية المانحة؟ ..هذه كارثة!
3- النقطة الاخرى كيف يسمح بمنح الشهادات الجامعية للبرلمانيين والوزراء وأصحاب الدرجات الخاصة بدون الحاجة الى تفرغ؟ هل يعني ان الشهادة ستكون بالمراسلة؟ وحول موضوع التفرغ، يبدو لي ان كلا من مجلس النواب والوزارة قد فهموا مسألة الحصول على شهادة من الخارج بصورة مخطئة. يبدو انهم متفقون على تخفيض فترة الإقامة في الخارج من 9 اشهر الى 6 اشهر! استغرب من هذا القرار. الطالب لا يذهب للدول المتقدمة للحصول على مجرد شهادة، و انما على تعليم متكامل، وعلى ثقافة ومعرفة، واخلاق مهنية، وعلى كل ما يمكن الحصول عليه من الجامعة والمجتمع، خصوصا اللغة، وهذه الأمور لن يحصل عليها إلا بالتواجد داخل المجتمع الجديد. و اذا كانت الحجة هي في توفير عملة صعبة للوطن فهذه حجة سخيفة في ظل الفساد الانفجاري في البلد وتهريب البلايين، فالأفضل ان يبقى الطالب في الوطن ويدرس في جامعاته ليوفر كل تكاليف الدراسة. هل الدراسة في الخارج ستصبح بالمراسلة؟ كيف سيتعلم اللغة؟ لماذا يأخذ الطالب شهادة اجنبية من دون وجوده طوال او معظم فترة الدراسة في الجامعة وفي بلد الدراسة؟ لمصلحة من وضعت هذه المواد؟
وأخيرا لابد من الاعتراض بشدة على سن قانون اكاديمي لا تتغير مواده الا بموافقة مجلس النواب بينما يمكن الاكتفاء بتعليمات كما هي عليه الحالة الحالية في وزارة التعليم العالي، او كما ترتئيه الجامعات من مصلحة خاصة بها ضمانا للحريات الاكاديمية. ما من حاجة الى قانون، ولا من سبب مشروع.
لا حل الا بإلغائه فلا يصلح تعديله.