الأغنية القاتلة
فلاح المشعل
انعطفت الأغنية من مسارها العاطفي الرومانسي السابح بين بفضاء الانوار والازهار والمطر والحب والذي يكثف الجمال البشري ببعديه الروحي والوصفي، بأتجاه تحية موقف النضال السياسي لرموز وطنية مؤثرة بحركة التاريخ، أو للتغني بشجاعة الإنسان حين يدافع عن حريته وحقوقه ووجوده في عالم عادل، هكذا تفاعلت معها شعوب الأرض لتبني عليها مجدها في موسيقى تغترف أنغامها من نوتة البيئة وإيقاع احلامها بأناشيد وأغاني وطنية تكرس العاطفة والجمال .
ذلك الانعطاف الذي أنتج الأغنية السياسية أو الوطنية بالمسمى المحلي ، تكرس سلبيا في عالمنا العربي حين تحول من تمجيد الأمة الى تمجيد "زعيم " الأمة ، فأصبحت الأغنية الوطنية إحدى ماكنات فاشية السلطة بثرثرتها التي لاتتوقف عن إعادة صياغة قاتل تافه ووضعه بقالب إله مجيد يؤشر بيده اليسرى فيهطل الخير ويشهر اليمنى حاملة السيف فتأتي الانتصارات العظيمة ، لعبة نصب واحتيال احترافي متبادلة بين الرئيس "التاريخي " وجوقة الموسيقيين ونظرائهم كتاب الاغاني، كوميديا سخيفة بإيهاب مقدس تفرضه إرادة السلطة التي مهما قدمت لقائدها تجد نفسها عاجزة عن إيفائه حقه لأنه "هبة السماء للأرض " كما قال أحد الدجالين !؟
الأغنية الوطنية التي كانت تهلل للموت على نحو تفوق على خطاب الفاشية الهتلرية، جاءت بثقافة إسقاط الذات الجماعية وتكريس عبوديتها للفرد استعادة زمن العبودية نغميا ً، بعد أن تحولت لأداة قاتلة وورشة للامراض النفسية التي غذت جذورها لدى "الرئيس" والشعب في وقت واحد، الرئيس حينما يدخل الحمام ويردد الاغاني التي تمجد به ،والشعب حين يغنيها ويرقص معها في الاعراس !؟
السقوط مراحل كما هو النجاح ومضت الأغنية الوطنية العمياء بسقوطها الفني، لأنها لاتفرق بين البناء اللحني والإيقاعي للغناء السياسي الذي يؤرخ للحظة سياسية، واختلافه عن الغناء العاطفي وتدرجاته التعبيرية الذي يصلح لجميع الأزمنة كما غنى السومريون قبل الآف السنين ثم لتظهر أصداءهم في غناء داخل حسن وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم ومسعود العمارتلي، النغم حين يكون وشما في السلالة الجينية، كان المرحوم طالب القرغوه لي يغضب حين ينفتح الحوار بهذا الشأن، وهو المسؤول الأول عن وضع الاغنية العاطفية الراقية في خدمة الرئيس وسلطته الفاشية، وكذا الفنان فاروق هلال اعتذر وأنهى اللقاء معي في بيته الكريم حين أخبرته بأنهم يقودون الاغنية الفاشية حين تكرس لتمجيد القاتل .
تواصل سقوط الاغنية .. وكانت مصدرا للرزق لمجاميع كبيرة من المغنين والملحنين وكتاب الاغنية الذين يسوقهم جوع الحصار من البصرة والناصرية والعمارة وبقية مدن الفقر نحو دائرة الاذاعة والتلفزيون، حتى اصبح اسم " الرئيس " إشارة الموافقة لقبول الاغنية وصرف مكافأتها المالية ، هناك أغاني أفظت بصاحبها أن يكون مديرا عاما، وأخرى حققت مكاسب خيالية مثل دخول الجامعة دون شهادة اعدادية مع هدية سيارة حديثة ومسدس يسمح لك بقتل كل من يتجاوز على الرئيس، والأكثرية كانت تحلم بلحظة لقاء الرئيس الذي استلب حكاية الفانوس السحري .
آخر تدوين لأنتهاكات الاغنية الوطنية القاتلة أنها دخلت كعامل سمسرة اضافية بالانتخابات العراقية ، أغاني مضحكة وسخيفة لدرجة الغثيان، فهي تتغزل بشعيط ومعيط من نواب واسماء لقادة احزاب ورؤساء ابرعوا بخراب العراق وقتل أبنائه، ثم تنتهي الى الغناء بالعشاير ومجالسها الأخيرة التي أخذت دور السلطة والسلاح المستهتر بعد تراجع العراق الى مرحلة ماقبل الدولة،كما تراجعت الاغنية الى ماقبل الاغنية والانسان !؟
ابتذلت الأغنية وسقطت كمعطى جمالي ابداعي بعد أن تحولت الى سلعة تجارية يقبل عليها الأميون وذوو العاهات المرضية من اشباه السياسيين، تحت مبدأ غني ماتشاء فلا رقيب ولاحسيب في زمن التفاهة .