المرجعية النجفية بعد آية الله السيستاني
د. علي المؤمن
الرأي العام الحوزوي الذي يصنع المشهد المرجعي
يتشكل الرأي العام الحوزوي النجفي الذي يصنع مشهد ما بعد وفاة المرجع الأعلى في النجف، ويدفع باتجاه المرجع الأعلى الجديد، من عدة محاور، متداخلة ومتكافئة في التأثير غالباً:
1- بيت المرجع الأعلى المتوفي(3)، ويشتمل على قسمين:
أ- أُسرته الخاصة، وتحديداً علماء الدين الذين ينشطون في مكتب المرجعية المركزي، كأبنائه وإخوانه وأصهاره، ومن يشابههم في القرب من المرجع، وخاصة من يمسك منهم بالشؤون الإدارية والمالية.
ب- حاشيته المقربة: كبار تلاميذه الملازمين له، والذين هم فقهاء عادة، وخاصة الناشطين على مستوى الاجتماع الديني.
2- الثاني: وكلاء المرجع الأعلى المتوفي ومعتمديه، وخاصة في المدن العراقية والإيرانية، فضلاً عن باقي دول العالم.
3- الثالث: طبقة الفضلاء، وهم أساتذة السطوح (الدراسات المتوسطة) في الحوزة العلمية وطلبة البحث الخارج (الدراسات العليا) في الوقت نفسه، وخاصة طلبة المرجع الأعلى المتوفي.
4- جماعات الضغط والمصالح، التي تشمل المؤسسات الحوزوية والبيوتات العلمية الدينية، وكذلك مؤسسات المرجعيات السابقة، وخاصة ذات الإمكانيات المالية والإعلامية.
5- بيت المرجع الجديد المرشح ومكاتبه ووكلائه وتلاميذه.
وفضلاً عن النجف الأشرف؛ فإن هذه المحاور كانت هي نفسها المؤثرة في صناعة المشهد المرجعي في حوزة قم قبل العام 1979، ولكن بعد التحولات المؤسسية الكبيرة فيها، والتي تم تفعيلها بوضوح بعد وفاة المراجع الكبار في قم، وخاصة الإمام الخميني (1989) والسيد الگلپايگاني (1993) والشيخ الأراكي (1994)؛ فقد دخلت عناصر موضوعية متطورة في اختيار المراجع الجدد، بعيدة عن الرؤى الشخصانية، وفي مقدمها جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم، والتي تتكون من حوالي (60) مجتهداً معروفاً، وكذلك المجلس الأعلى لإدارة الحوزة العلمية في قم، ثم المجلس الأعلى للحوزات العلمية في إيران، ومجلس الحوزات العلمية في العالم، وشبكة وكلاء الولي الفقيه في المحافظات والمدن الإيرانية، وهم ما يقرب من (50) فقيهاً.
أما الحديث عن وجود تدخلات من بعض الدول، ولا سيما المتخاصمة مع التشيع، ومخابراتها وسفاراتها، في اختيار المرجعية الشيعية؛ فهو مجرد أوهام، ولا يوجد عليه أي دليل واقعي ونموذج حسي؛ فاختيار المرجعية الشيعية العليا ظل يتم منذ نشوئها قبل (1200) سنة، يتم داخل الحوزة العلمية حصراً، دون تأثير من جهة خارجها، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، بما فيها السلطات التي كانت تحكم، أو لا تزال تحكم، الجغرافيا التي تقع فيها الحوزات العلمية المركزية التاريخية في بغداد وقم والنجف وكربلاء وجبل عامل والحلة، والحوزتين المركزيتين اليوم في النجف وقم، وتحديداً الدول العباسية والعثمانية والبويهية والصفوية سابقاً، ثم الدولتين العراقية والإيرانية لاحقاً.
وعلى مستوى الحديث عن التدخلات الخارجية في مرحلة ما بعد آية الله السيستاني، ولا سيما ما يشاع عن تأثيرات محتملة من الأجهزة المعنية في لندن والرياض وأبو ظبي وواشنطن، عبر ضخ مالي أو أشخاص من داخل الحوزة أو مؤسسات شيعية متعاونة؛ فالثابت هو أن أي تدخل، مهما كان حجمه وأسلوبه والميزانية التي يخصصها؛ لن يستطيع خلق مرجع شيعي حقيقي، فضلاً عن المرجع الأعلى. نعم؛ التدخلات الخارجية، السياسية والمخابراتية، قائمة منذ قرون، وقد تنجح في زرع وتوسيع الخلافات أو بث الشبهات أو توظيف بعض المعممين، ومنح ألقاب دينية وعلمية مزيفة لمعممين آخرين، لكنها من غير الممكن أن تنجح في توظيف مرجع ديني حقيقي أو صناعة مرجع ديني حقيقي، بالنظر للسياقات المغلقة العميقة للحوزة العلمية ومنظومة المرجعية، وصعوبة اختراقها، بالرغم من ظاهرها السهل الممتنع، وهي السياقات التي تتسبب في إسقاط أي عالِم دين تدور حوله شبهة في هذا المجال؛ حتى لو كان أعلم علماء دهره.
خيارات مرحلة ما بعد السيستاني
تعدّ مرحلة ما بعد السيد علي السيستاني، البالغ (94) عاماً من عمره (مواليد العام 1930)، مرحلة صعبة ومعقدة؛ إن لم تكن الأصعب قياساً بالمراحل التاريخية التي تشظّت فيها الخيارات؛ كمرحلة ما بعد وفاة شيخ الشريعة الإصفهاني في العام 1920، والذي خلفه أربعة مراجع كبار: الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ عبد الكريم الحائري والسيد أبو الحسن الإصفهاني، ولم يتفرد الإصفهاني بالمرجعية العليا إلّا بعد وفاة العراقي والنائيني والحائري، وهي شبيهة بمرحلة ما بعد رحيل السيد أبي الحسن الإصفهاني في العام 1946، والذي خلّف بعده المراجع الثلاثة: السيد حسين البروجردي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم، ولم تستقر المرجعية العليا نهائياً للسيد الحكيم إلّا بعد وفاة البروجردي في العام 1961، وكذلك مرحلة ما بعد رحيل الإمام الخميني في العام 1989؛ إذ كان هناك السيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد رضا الگلپایگاني والشيخ محمد علي الأراكي، ثم مرحلة ما بعد وفاة السيد الخوئي في العام 1992، والتي كان يشغلها المرجع السيد محمد رضا الگلپایگاني إلى جانب السيد عبد الأعلى السبزواري والشيخ محمد علي الأراكي، ثم أعقبتهم مرحلة السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي والسيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم والشيخ حسين الوحيد الخراساني والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وهي الأسماء التي ظلت الأبرز بعد رحيل السيد الگلپایگاني والسيد السبزواري.
وقد تبدو الخيارات في النجف الأشرف بعد رحيل مرجعه الأعلى السيد علي السيستاني، سهلة ومحددة في ظاهرها؛ لأنّها منحصرة تقريباً في مرجعي الصف الأول المتعارفين حوزوياً: الشيخ محمد إسحاق الفياض، البالغ (94) عاماً (مواليد العام 1930) والشيخ بشير حسين النجفي البالغ (82) عاماً (مواليد العام 1942)، ولكنهما ليسا خيارين نهائيين ويسدان الفراغ فعلياً؛ لأنهما طاعنان في السن أيضاً، ويعانيان من أمراض الشيخوخة المعتادة، ولعلهما يرحلان قبل السيد السيستاني، كما توقعنا بالنسبة للسيد محمد سعيد الحكيم(1)، وفق الموازين الطبيعية المنظورة، أو بعده بوقت قصير.
وتعود صعوبة مرحلة ما بعد السيستاني الى الأسباب الثلاثة الرئيسة التالية:
1 ـ شحة الخيارات: وتحديداً الخيارات التي تستطيع استيعاب الشارع الشيعي العراقي المتحرك، وتمارس الرعاية العامة للنظام الاجتماعي وحركة الدولة؛ بالنظر لما بات يترتب على مرجع النجف من واجبات تجاه النظام العام بعد العام 2003؛ إذ إنّ عراق ما قبل العام 2003 يختلف عن عراق ما بعد العام 2003، وهو اختلاف ينعكس على واجبات المرجعية وأدائها، ويفعِّل تلقائياً ولايتها على الحسبة العامة والنظام المجتمعي العام بشكل واسع. وبالتالي؛ فإنّ المعضلة ليست في موضوعة المرجع الأعلم؛ بل في المرجع الأكفأ في إدارة الشأن العام، والذي يحظى بالمقبولية العامة.
2 ـ بروز الخطوط الخاصة داخل الحوزة: وهذه الخطوط لا تستطيع الآن تحدّي مرجعية السيد السيستاني في حياته؛ لكنها تنتظر رحيله؛ ليكون لها حضورها القوي والفاعل في الشأن العام. وهذا يعني ظهور محاور جادة من الخلافات والتعارضات على المستويين الخاص والعام. وهنا تتضاعف خطورة شحة الخيارات في الخط المرجعي العام، وخاصة إذا أصبحت هذه المحاور محط تجاذب الأجندات السياسية وأجندات الخصوم المذهبيين.
3 ـ تزامن المراحل الصعبة النجفية والقمية والطهرانية: لعل مرحلة ما بعد السيستاني ومراجع الصف الأول في النجف، ستتزامن مع مرحلة ما بعد الخامنئي ومكارم الشيرازي والوحيد الخراساني ومراجع الصف الأول في قم، وجميعهم طاعنون في السن، وهو ما يزيد صعوبة الموقف الشيعي العام، والموقف المرجعي النجفي بشكل خاص؛ إذ إنّ وجود المرجعيات الكبيرة النافذة على المستوى الشيعي العالمي في النجف وإيران، يلعب دوراً في الدعم المتبادل والتعاون؛ لكن غياب مرجعيات قم المؤثرة معنوياً، سيعمِّق المشكلة في النجف؛ بل في أغلب بلدان الحضور الشيعي.
والذي لا شك فيه أنّ مرجع النجف الأعلى بعد السيستاني سيكون من داخل النجف؛ لأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بالمسار التاريخي لمنظومة المرجعية الشيعية، ومركزية النجف التقليدية في هذه المنظومة، والآخر يتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي الشيعي العراقي بعد العام 2003، والثالث يتعلق بوجود خيارات مرجعية ربما تكون مقبولة داخل النجف، وإن كانت شحيحة وصعبة. ولذلك؛ فإنّ احتمال رجوع حوزة النجف إلى مرجعية من خارجها أمرٌ مستبعد، بصرف النظر عن مدخلية شرطي الأعلمية والعدالة والمعايير الترجيحية الأُخر. وليس الحديث هنا عن موضوع مرجعية التقليد وحسب؛ لأنّ التقليد لم يكن يوماً معضلة؛ بل عن المرجعية العليا المتصدّية للشأن العام.
وثمة أربعة مشاهد نجفية مفترضة لمرحلة ما بعد السيستاني، وهي مشاهد تدخل في دائرة الاحتمالات، ونطرحها هنا بصرف النظر عن نسبة تحققها:
1ـ مشهد تسنم أحد الشيخين النجفي والفياض موقع المرجعية العليا في النجف، وهذا المشهد يصطدم بعقبة تقدمهما في العمر وإصابتهما بأمراض الشيخوخة، كما ذكرنا، ولذلك؛ من الطبيعي إلغاء هذا المشهد، والحديث عن مرحلة ما بعد النجفي والفياض أيضاً.
2ـ مشهد تسنم أحد مراجع الصف الثاني في النجف موقع المرجعية العليا، كالسيد علاء الدين الغريفي والشيخ محمد اليعقوبي، وهو مشهد لا يحظى بنسبة يعتد بها من القبول؛ بسبب مشكلة قبول الرأي العام الحوزوي بمرجعياتهم، ولذلك؛ لا مهرب من إلغاء مشهد مراجع الصف الثاني أيضاً، بعد أن تم إلغاء مشهد مراجع الصف الأول.
3ـ مشهد قبول النجف بأحد المراجع النجفيين المقيمين في قم، أي الذين تخرجوا في حوزة النجف، ولا يزالون يحتفظون بمنهجيتها وبارتباطهم النفسي بها، أمثال الشيخ حسين الوحيد الخراساني والسيد كاظم الحائري(2). وهذا المشهد لا حظوظ له أيضاً؛ لأنّ المراجع النجفيين في قم طاعنين في السن ومرضى، ولن يستطيع أيّ منهم العودة إلى النجف. ويدخل في هذا المشهد أيضاً بعض علماء الدين العراقيين والإيرانيين في قم، كالسيد كمال الحيدري، وهؤلاء لا يحظون بمقبولية الرأي العام الحوزوي النجفي، وبالتالي؛ يلغى هذا المشهد أيضاً.
4ـ مشهد بروز أحد الفقهاء من أساتذة البحث الخارج المرموقين في النجف، وهم كُثر، وأبرزهم: الشيخ محمد باقر الإيرواني والشيخ محمد هادي آل راضي والشيخ حسن الجواهري والسيد علي السبزواري والشيخ محمد السند والسيد محمد رضا السيستاني والسيد علي أكبر الحائري، وهو المشهد الذي يبدو أنه أكثر واقعية.
الفقهاء المرشحون للمرجعية النجفية
ذكرنا بأن مشهد تقدّم أحد فقهاء النجف الكبار، من غير المراجع الحاليين، لشغل موقع المرجعية المتصدية بعد آية الله السيستاني، هو المشهد الأكثر قبولاً وواقعية لدى الرأي العام الحوزوي النجفي، وأبرز هؤلاء الفقهاء:
1- الشيخ محمد باقر الإيرواني:
من أُسرة علمية دينية نجفية تعود بنسبها إلى الشيخ الفاضل الإيرواني، النازح من منطقة آذربيجان. ولد في النجف الأشرف في العام 1949، ودرس في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها الشيخ محمد رضا المظفر. وخلال مرحلة الدراسة الثانوية انضم إلى الدراسات الدينية في الحوزة العلمية، حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس السيد محمد باقر الصدر والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد علي السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم. وبدأ بتدريس مرحلة السطوح العالية، حتى هجرته إلى إيران، حيث استمر بتدريس السطوح العالية ثم البحث الخارج بدءاً من العام 1991. ثم عاد إلى النجف الأشرف بعد سقوط النظام البعثي، واستأنف دروس البحث الخارج، ويُعدّ درسه أكبر درس في النجف حالياً.
2- الشيخ محمد هادي آل راضي:
من أحفاد الشيخ راضي النجفي، جد الأُسرة العلمية الدينية النجفية المعروفة بآل راضي، وهي فرع من عشيرة آل عِلي، إحدى عشائر بني مالك. ولد في العام 1949 في النجف الأشرف، درس في مدارس منتدى النشر التي كان يشرف عليها الفقيه المجدد الشيخ محمد رضا المظفر، إلى جانب انخراطه في سلك العلم الديني، وتدرج في مراحل الدراسة حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فتتلمذ عند السيد الشهيد محمد باقر الصدر، والسيد أبو القاسم الخوئي وآخرين. ثم هاجر إلى إيران في العام 1980 بعد إعدام أُستاذه السيد محمد باقر الصدر وملاحقة تلامذته. وبعد أكثر من عشر سنوات على تدريس مرحلة السطوع العالية في الحوزة العلمية في قم، بدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1992. وبعد سقوط النظام البعثي، عاد إلى النجف الأشرف وواصل التدريس وأداء واجباته الدينية والعلمية.
3- الشيخ حسن الجواهري:
من أُسرة علمية دينية نجفية شهيرة، تعود إلى مؤسسها مرجع الشيعة في زمانه الشيخ محمد حسن النجفي المعروف بـ «الجواهري» نسبة إلى كتابه الفقهي «جواهر الكلام». ولد في العام 1949 في مدينة النجف الأشرف، وجمع بين الدراستين الأكاديمية والدينية، فتخرج في كلية الفقه في العام 1971. كما بلغ مرحلة البحث الخارج، وحضر خلالها دروس والده الشيخ محمد تقي الجواهري، إضافة إلى السيد أبو القاسم الخوئي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر. واعتقل في العام 1979 بتهمة النشاط السياسي الإسلامي، ثم أُبعد إلى إيران، وحينها استأنف الدراسة والتدريس والعمل العلمي والفكري والواجبات الدينية في الحوزة العلمية في قم، وحضر دروس الميرزا الشيخ جواد التبريزي والشيخ حسين الوحيد الخراساني. وبدأ بتدريس البحث الخارج في العام 1988، وكان عضواً في مجمع الفقه الإسلامي في جدة، وعضواً في المجمع العالمي لأهل البيت، قبل أن يعود إلى النجف بعد سقوط النظام البعثي في العام 2003، ويستأنف في الحوزة العلمية مهامه العلمية والدينية.
4- السيد علي الموسوي السبزواري:
نجل المرجع الديني السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري، ولد في النجف الأشرف في العام 1945 درس البحث الخارج على والده والسيد أبو القاسم الخوئي. ويذكر مطلعون أنّ والده أوصاه ـ قبل وفاته ـ بعدم التصدّي للمرجعية، والاهتمام بالشأن العلمي وقضاء حوائج الناس، ولذلك يستبعد هؤلاء إعلان السيد علي السبزواري نفسه مرجعاً للتقليد، فضلاً عن معاناته من مشاكل صحية مزمنة.
5- الشيخ محمد السند:
ولد في العام 1961 في العاصمة البحرينية المنامة. جمع في بلده البحرين بين الدراستين الأكاديمية والدينية، ثم واصل دراسته الجامعية في لندن، كما استأنف الدراسة في الحوزة العلمية في قم في العام 1980، حتى مرحلة البحث الخارج؛ فحضر بعد العام 1984 دروس مراجع قم الكبار، كالسيد محمد الروحاني والميرزا الشيخ هاشم الآملي والسيد محمد رضا الگلپايگاني والميرزا الشيخ جواد التبريزي، إلى جانب تدريسه مرحلة السطوح، وبعد عشر سنوات بدأ بتدريس البحث الخارج. ثم انتقل في العام 2010 إلى النجف الأشرف، وواصل التدريس في حوزتها العلمية.
6- السيد محمد رضا الحسيني السيستاني:
الابن الأكبرلمرجع النجف الأعلى السيد علي السيستاني. ولد في النجف الأشرف في العام 1962، ودرس في حوزتها العلمية، حتى بلغ مرحلة البحث الخارج، فحضر دروس والده والسيد أبو القاسم الخوئيوالسيد علي البهشتي. برز دوره العام بعد سقوط نظام البعث، من خلال إدارة شؤون والده ومكاتب المرجعية العليا، وشكّل حلقة التواصل بين والده والدولة العراقية والكتل السياسية والمؤسسات الاجتماعية.
7- السيد علي أكبر الحسيني الحائري:
شقيق المرجع السيد كاظم الحائري، ومن أُسرة دينية علمية تعود جذورها إلى مدينة شيراز الإيرانية. ولد في مدينة النجف الأشرف في العام 1948، ودرس في حوزتها العلمية حتى حضر دروس البحث الخارج عند السيد محمد باقر الصدر وغيره من فقهاء النجف. كان من المجاهدين والمعارضين لنظام البعث منذ بدايات شبابه، من خلال قربه من السيد محمد باقر الصدر وانتمائه إلى الحركة الإسلامية العراقية، ولعب دوراً أساسياً في انتفاضة رجب في العام 1979، والتي أدت إلى إطلاق سراح السيد محمد باقر الصدر. وبعد اعتقاله؛ حكم بالسجن المؤبد، ثم تم إبعاده إلى إيران في العام 1980، فواصل عمله الجهادي والعلمي انطلاقاً من مدينة قم، واستأنف حضور دروس البحث الخارج عند شقيقه السيد كاظم الحائري وغيره من مراجع قم، إلى جانب تدريس مرحلة السطوح. ثم شرع بتدريس البحث الخارج في قم، واستأنفه بعد عودته إلى النجف الأشرف في أعقاب سقوط النظام البعثي.
والقدر المتيقن؛ أنّ أغلب هؤلاء الفقهاء السبعة المعترف باجتهادهم وفقاهتهم وفضلهم من قبل الرأي العام الحوزوي، سيبادر إلى طباعة رسالته العملية ويطرح نفسه مرجعاً للتقليد بعد مرحلة السيستاني، وسيرجع إليه جزءٌ مهم من الشيعة. وبرغم تكافؤ الفرص ــ نسبياً ــ بينهم؛ إلّا أن الأنظار تتوجه بشكل أكبر إلى ثلاثة منهم، هم: الشيخ محمد باقر الإيرواني والشيخ هادي آل راضي والشيخ حسن الجواهري(4). وهي المرة الأولى في تاريخ المرجعية الدينية الشيعية والحوزة العلمية النجفية؛ أن يكون جميع المرشحين لتبوء موقع المرجعية الدينية في النجف، هم من مواليد النجف الأشرف، وأنّ أغلبهم من الأُسر العراقية الدينية العلمية المعروفة.
ورغم أن المشهد الرابع هو الأكثر مقبولية وواقعية؛ لكنه لن يوحِّد المرجعية النجفية، ولن يفرز مرجعاً أعلى بديلاً للسيد السيستاني؛ بل إنّه يفرز تعددية تلقائية في المرجعية لفترة من الزمن، ربما لا تقل عن عشر سنوات تعقب رحيل السيستاني؛ لأنّ أياً من الفقهاء المذكورين لا يمكنه أن يحظى بالإجماع النسبي من الرأي العام الحوزوي؛ لأسباب موضوعية وشخصية كثيرة. وستكون الجهة الأهم التي يعوّل عليها حسم المشهد، هي مرجعية السيد السيستاني نفسها، والتي يستمع إلى رأيها أغلب أساتذة البحث الخارج والسطوح العالية في النجف، والذين يشكلون شبكة حقيقية لأهل الخبرة. وبما أنّ بيت السيد السيستاني في النجف ومكتبه في قم؛ ركنان أساسيان في مرجعيته؛ فإنّ إشارة المرجع الأعلى السيد السيستاني ودعم بيته ومكتبيه في النجف وقم؛ ستكون مفصلية في تحديد مرجع النجف لمرحلة ما بعد السيد السيستاني.
أما الذين يطرحون أنفسهم مراجع تقليد خارج الأعراف الحوزوية والسياقات التقليدية الصارمة للتدرج المرجعي، سواء كانوا عراقيين أو إيرانيين أو باكستانيين أو لبنانيين، بمن فيهم أغلب أصحاب الرسائل العملية الحاليين في النجف وكربلاء والكاظمية وقم ومشهد وغيرها؛ فإنهم سيبقون خارج دائرة الترشيح لموقع المرجعية العليا أو مرجعيات الصف الأول؛ لأن حرق المراحل والسعي غير المشروع وغير المتوازن والمتعجل لبلوغ مستوى الاجتهاد ثم المرجعية، يلفت أنظار أهل الخبرة في الحوزة (أساتذة السطوح والبحث الخارج) لهذا الخلل الكبير في الالتزام بالسياقات الدراسية والاجتهادية، وهو يؤدي إلى توقف تقدم عالم الدين، وإن أصبح ـ فيما بعد ـ أعلم المراجع الأحياء وأكفأهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
«الاجتماع الديني الشيعي»، ط 1، ص 300.
أعلن السيد كاظم الحائري في آب/ أغسطس 2022، عن اعتزاله العمل المرجعي؛ لأسباب صحية، ورغم كون هذا القرار نادراً على طول التاريخ الشيعي؛ إلّا أنه يستند الى قاعدة شرعية أساسية من قواعد الفقه السياسي الإسلامي، وشرط من شروط تولي المرجعية، وهو شرط الكفاءة، أي القدرة الواقعية على ممارسة مهام المرجعية في ولاية الحسبة وحفظ النظام العام، بصرف النظر عن أسباب عدم القدرة، ولكن لا شك أن القدرة البدنية والذهنية أحد هذه الأسباب. وبالتالي؛ فإن موضوع الاعتزال لا يرتبط بالمتغيرات السياسية أو الإيثار الشخصي أو التنازل لمرجعية أخرى، لأنه ليس موضوعاً شخصياً، بل موضوع فقهي صرف.
المراد من البيت في الاصطلاح الحوزوي، ليس المنزل أو المسكن، وإنما مقر المرجع ومكتبه وكيانه المعنوي.
اللافت للنظر أن الشيخ محمد باقر الإيراوني والشيخ محمد هادي آل راضي والشيخ حسن الجواهري يشتركون في كثير من المواصفات؛ ففضلاً عن كونهم أصدقاء مقربين؛ فإن الثلاثة من مواليد النجف في العام 1949، والثلاثة ليسوا من السادة، ومن أسر علمية دينية نجفية، وقد دخلوا الحوزة النجفية في وقت متقارب، ودرسوا البحث الخارج عند السيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر في الدورات نفسها، واستطاعوا التوفيق في مناهجهم الفقهية والأصولية وسلوكهم العام بين مدرستي الخوئي والصدر، أي أنهم متطابقون تقريباً في هذا المجال، ثم هاجروا إلى إيران خلال سنة واحدة، وسكنوا قم ودرسوا في حوزتها، وبلغوا درجة الاجتهاد وشرعوا بتدريس البحث الخارج في أوقات متقاربة، والثلاثة عادوا إلى النجف الأشرف بعد سقوط نظام البعث في أوقات متقاربة. ثم سيتصدّون للمرجعية في وقت واحد، ويُتوقع أن يتحولوا إلى مراجع كبار خلال بضع سنوات.