التكنولوجيا على الهامش: لماذا يبقى "العرضحالچي" سيد الموقف في العراق؟
صادق الازرقي
"كتاب العرائض" او "العرضحالچية"، ظاهرة مميزة في العراق وبغداد على وجه الخصوص، وبرغم التقدم التكنولوجي لم تزل الظاهرة تنتشر في البلد.
وبشكل عام، لم يعد تواجد كتاب العرائض كظاهرة أمام الدوائر الحكومية شائعا في معظم دول العالم المتقدمة؛ فمع التطور التقني وانتشار الخدمات الإلكترونية، أصبحت غالبية المعاملات الحكومية تجري عبر الإنترنت أو بوساطة أنظمة ميسرة تتطلب معرفة بسيطة بالقراءة والكتابة أو استعمال أجهزة بسيطة.
ومع ذلك، وبحسب متابعة وضع البلدان المتقدمة، قد تتواجد أشكال متنوعة من المساعدة في تعبئة الاستمارات الورقية أو كتابة الرسائل في سياقات معينة، مثل مراكز المساعدة للمهاجرين أو اللاجئين في الدول التي تستقبل أعدادا كبيرة من المهاجرين، بوساطة منظمات غير ربحية أو مراكز تقدم مساعدة في تعبئة استمارات الهجرة أو طلبات اللجوء للأشخاص الذين يواجهون حواجز لغوية أو تعليمية؛ و في بعض الدول، تقدم منظمات أو محامون مساعدة قانونية مجانية للأشخاص ذوي الدخل المحدود في كتابة عرائض أو رسائل قانونية معقدة.
قد تتواجد شركات خاصة تقدم خدمات تعبئة استمارات ورقية معينة، مثل طلبات التأشيرات أو القروض، ولكنها عادة ما تكون خدمات احترافية وليست مجرد أشخاص يجلسون أمام الدوائر.
بشكل عام، فإن تواجد كتاب العرائض أمام الدوائر الحكومية بشكل يومي مقابل أجر هي أقل شيوعا بكثير في الدول التي تتمتع بأنظمة إدارية متطورة.
وتتعدد الأسباب التي تسهم في استمرار ظاهرة كتاب العرائض في العراق، برغم التطورات التكنولوجية العالمية، فبرغم بعض المحاولات، ما تزال الخدمات الحكومية الإلكترونية في العراق محدودة وغير شاملة؛ كثير من المعاملات لم تزل تتطلب التقديم الورقي والحضور الشخصي، مما يخلق حاجة لمن يستطيع المساعدة في هذه الإجراءات، كما يخلق معاناة ومشكلات تواجه المراجعين في كثير من الأحيان.
كما لا زال هناك جزء كبير من السكان، وبخاصة كبار السن أو أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، لا يمتلكون المعرفة أو المهارات المطلوبة للتعامل مع الأنظمة الرقمية، حتى لو كانت متوفرة.
و تتميز الإجراءات الحكومية في العراق بالتعقيد وكثرة المتطلبات الورقية والتفاصيل التي قد تكون صعبة الفهم على المواطن الاعتيادي؛ هنا يأتي دور كاتب العرائض في تبسيط هذه الإجراءات.
وبرغم تحسن مستويات التعليم، ما يزال هناك أفراد يعانون من الأمية أو مستويات تعليمية منخفضة تجعلهم غير قادرين على قراءة وكتابة الطلبات الرسمية بأنفسهم، و قد يفضل بعض المراجعين التعامل مع كتاب العرائض الذين يرونهم كوسطاء أو خبراء في التعامل مع تعقيدات الدوائر الحكومية، بدلا من محاولة فهم النظام بأنفسهم.
و في ظل عدم تواجد مراكز مساعدة حكومية فعالة أو أنظمة إلكترونية متوافرة وسهلة الاستعمال، يصبح كاتب العرائض هو الحل الأكثر سهولة ووصولا للكثيرين؛ وأصبحت هذه الظاهرة جزءا من المشهد الاجتماعي والثقافي أمام الدوائر الحكومية في العراق، الناس اعتادوا على وجودهم ويعدونهم جزءا من عملية إنجاز المعاملات.
و فيما يتعلق بكتاب العرائض أنفسهم، توفر هذه المهنة فرصة لكسب العيش في ظل ظروف اقتصادية صعبة، حتى لو كانت بمقابل أجور يومية بسيطة.
أي أن تواجد كتاب العرائض في العراق هو نتيجة لمزيج من التحديات البنيوية في الإدارة الحكومية (نقص "الرقمنة" والبيروقراطية)، والتحديات المجتمعية (مستويات التعليم والمعرفة الرقمية)، والظروف الاقتصادية؛ وحتى يجري تطوير أنظمة إلكترونية شاملة وسهلة الاستعمال واعمامها، وتوفير برامج توعية وتدريب على استعمال هذه الأنظمة، فمن المرجح أن تستمر هذه الظاهرة في البقاء.
ويراجع الناس كتاب العرائض في العراق بشأن مجموعة واسعة من القضايا والمعاملات الضرورية، التي تتنوع بين الجوانب الاجتماعية، والوظيفية، والعقارية، والقانونية، وغيرها، الهدف الأساسي هو صياغة طلبات أو استدعاءات رسمية موجهة إلى جهات حكومية أو قضائية.
ومن أبرز القضايا وأنواع المراجعات التي يلجأ الناس لأجلها إلى كتاب العرائض، قضايا الأحوال الشخصية والاجتماعية، ومن ذلك معاملات الزواج والطلاق، كتابة طلبات الزواج (مثل طلب الزواج من أجنبية)، طلبات التفريق أو الطلاق، طلبات إثبات النسب، طلبات الوصاية أو الولاية على القصر.
و في بعض الحالات المعقدة أو التي تتطلب إثباتات خاصة، قد تكون بهم حاجة إلى طلبات لصالح استخراج أو تصحيح بيانات شهادات الولادة أو الوفاة، وكذلك طلبات تصحيح الأخطاء في الأسماء، التواريخ او الفقدان، أو أي بيانات شخصية في الوثائق الرسمية مثل هوية الأحوال المدنية أو البطاقة الوطنية الموحدة، وبطاقة السكن واجازة السوق، وغيرها من الوثائق.
كما يجري اللجوء الى كتاب العرائض لإملاء طلبات للحصول على إعانات اجتماعية، رواتب الرعاية الاجتماعية، أو مساعدات من الجهات الحكومية أو المنظمات، و صياغة طلبات التعيين، والاعتراض على نتائج الامتحانات، أو طلبات النقل والترفيع.
وكذلك الحال فيما يتعلق بكتابة طلبات الإحالة على التقاعد، واستكمال معاملات الرواتب التقاعدية، أو الاعتراض على قرارات تتعلق بالحقوق التقاعدية، و تقديم شكاوى وتظلمات ضد قرارات إدارية، أو طلبات إعادة النظر في قضايا الفصل من الخدمة، أو غيرها من القضايا المتعلقة بالحقوق الوظيفية.
كما يبرز دور كتاب العرائض في طلبات تسجيل الأراضي والعقارات، أو نقل الملكية، و صياغة طلبات للجهات القضائية أو الإدارية بشأن نزاعات على ملكية الأراضي أو العقارات، او طلبات تعويض عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات بسبب عمليات عسكرية، أومشاريع حكومية، أو كوارث مثل الحرائق وغيرها .
ويلجأ الى كتاب العرائض لتدوين شكاوى للشرطة أو المحاكم بشأن قضايا بسيطة لا تتطلب محام، مثل التجاوزات البسيطة، أو طلبات الإخبار عن جريمة، و في بعض الأحيان، يمكن أن يطلب منهم كتابة طلبات تخص إجراءات الكفالة أو الإفراج المؤقت، و لصياغة إشعارات أو تبليغات رسمية موجهة إلى أفراد أو جهات معينة، وكذلك صياغة اعتراضات بسيطة على قرارات إدارية أو أحكام قضائية غير معقدة.
وفي كثير من الأحيان يمكن أن يطلب من المراجع، كتابة طلبات لتجديد وثائق معينة أو استخراج بدل مفقود او تالف، برغم أن بعض هذه الإجراءات تصبح مباشرة شيئا فشيئا، كما تجري كتابة العرائض في صياغة طلبات للحصول على تراخيص مهنية، تجارية، أو غيرها من الرخص، وكتابة رسائل رسمية لجهات حكومية للاستفسار عن إجراءات معينة أو طلب معلومات.
وكما قلنا ان السبب الرئيس لاستمرار ظاهرة كتاب العرائض في العراق هو الجهل بالصيغ الرسمية المطلوبة، التعقيد البيروقراطي، وصعوبة الوصول إلى الخدمات الإلكترونية الميسرة، على اعتبار ان كاتب العرائض يمتلك "الخبرة" في صياغة الطلبات بالشكل المقبول إداريا وقانونيا، ويعرف المصطلحات الرسمية التي يجب استعمالها، وأحيانا الإجراءات المطلوبة لتقديم الطلب بشكل صحيح، و فيما يتعلق بكثير من السكان، فإن كاتب العرائض هو "الخبير" الذي يوفر عليهم الوقت والجهد والإحراج من عدم معرفة كيفية التعبير عن طلباتهم بشكل رسمي.