اغتيال الجامعات ودفن المعرفة
أ.د. محمد الربيعي
لقد تحولت الجامعات، التي كانت يوما ما معاقل للعلم والمعرفة، الى مجرد اذرع تنفيذية لسياسات حزبية ضيقة. بدلا من ان تكون منارات للعلم، اصبحت مصانع لانتاج "الشهادات"، حيث يتم تخرج طلاب غير مؤهلين لسوق العمل، ويتم اغراق جهاز الدولة بهم، وما زاد من الطين بلة الازدياد الهائل للجامعات والكليات الاهلية. وبدلا من ان تكون الجامعات حاضنة للابداع والابتكار، اصبحت سجونا فكرية تخنق كل صوت نقدي او مخالف. وبدلا من ان تكون قلاعا حصينة للعلم، اصبحت ملاعب سياسية تتنافس فيها الاحزاب على النفوذ والمصالح الضيقة. هذا الوضع المزري نتيجة طبيعية لسياسة المركزية المقيتة والمحاصصة التي حولت الجامعات من مؤسسات اكاديمية مستقلة الى اذرع تابعة للوزارة، حيث يتم اتخاذ القرارات من وراء الكواليس، ويتم تعيين القيادات على اساس الولاء الحزبي والمحسوبية والمنسوبية وليس الكفاءة العلمية.
كانت الجامعة قديما، وقبل تأسيس وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، منارة للعلم والمعرفة، حصنا يحمي الفكر الحر والابداع. وبمرور الزمن، تحولت هذه المنارة الى مجرد فانوس خافت، تحكمه ايادي السلطة. فبدلا من ان تكون حاضنة للمفكرين والمبدعين، اصبحت سجنا فكريا يضيق على كل من يحلم بتغيير الواقع. لقد تحولت الجامعات، بفعل سياسات مركزية قصيرة النظر، من مؤسسات اكاديمية مستقلة الى مجرد ادوات طيعة في يد السياسيين. فالسعي وراء الكفاءة العلمية والخبرة قد طغى عليه الصراع على المناصب والمكاسب الشخصية، وتحولت الجامعات الى اسواق تباع فيها المناصب بالولاء السياسي. لقد حُوّلت الجامعة، التي كانت يوما ما معقل الحقيقة، الى مسرحية هزلية، حيث يتقاسم الممثلون الادوار وفقا لمحسوبياتهم وعلاقاتهم، وليس وفقا لقدراتهم ومؤهلاتهم. ان هذا التدهور المريع للجامعات ليس مجرد خسارة للتعليم، بل هو خسارة للبلد باكمله.
لقد ادت سياسة المحاصصة الى ان تصبح الجامعات ساحة صراع سياسي، حيث يتنافس السياسيون على السيطرة على مقاليد الامور، متجاهلين تماما اهمية العلم والمعرفة ولم تعد هناك اهمية للمناهج وطرق التعليم والتعلم الحديثة ولا الى اهمية التدريسي المثابر والنزيه والمتتبع والمتواضع والمحفز وصاحب المعرفة الواسعة والشخصية القوية والمهارات التربوية الفعالة. فالتمركز الشديد للسلطة، الذي فرضته سياسة المحاصصة، قيد حركة الجامعات واجهز على استقلاليتها الاكاديمية. لم تعد الجامعات قادرة على مواكبة التطورات العلمية المتسارعة، بل اصبحت اسيرة لمناهج جامدة وتقليدية ونظرية. ان غياب الحوافز الحقيقية، واستبدالها بحوافز سياسية تعتمد على ما تفرزه التصنيفات الدولية وعلى النشر السريع لابحاث مفترسة، قد ادى الى تراجع مستوى التعليم بشكل كبير، وجعل الغش والانتحال والسرقات العلمية ظواهر طبيعية وتغلبت الغاية على الوسيلة في الترقيات العلمية والشهادات العليا. ونتيجة لذلك، فقدت الجامعات العراقية مكانتها العلمية المرموقة، وتحولت الى مؤسسات تعليمية تقليدية لا تقدم شيئا جديدا للمجتمع.
في الماضي، كانت عملية تعيين اعضاء هيئة التدريس تتم على اساس المنافسة، حيث كان يتم الاعلان عن الشواغر في الصحف وتحديد معايير واضحة للاختيار. اما اليوم، فقد تغير الحال تماما، حيث يتم تعيين رؤوساء الجامعات والعمداء باسلوب المحاصصة السياسية والمئات من اعضاء هيئة التدريس في الجامعات المختلفة من قبل الوزارة بدفعة واحدة دون اعلان او مسابقة، مما يثير الشكوك حول مدى كفاءتهم واستحقاقهم لهذه المناصب او الى الحاجة الفعلية للجامعات لهذه الاعداد الهائلة.
لم يعد من دور للجامعة في اختيار قياداتها واعضاء هيئة تدريسها. لقد فقدت الجامعة حقها في اختيار من يمثلها ويشارك في بناء مستقبلها، وتحولت الجامعات بالفعل الى فروع لجامعة واحدة مركزية اسمها "وزارة التعليم العالي والبحث العلمي".
ان سيطرة الوزارة، ومنذ تأسيسها، على الجامعات وتمركز القرار هي ظاهرة خطيرة ادت الى تدهور التعليم وتهدد مستقبله. يجب العمل على اعادة الاعتبار للجامعات، ومنحها الاستقلالية اللازمة لاتخاذ القرارات، وتشجيع البحث العلمي والابداع عن طريق تمويل الجامعات واساتذتها بناء على درجة نشاطهم في البحث والابتكار. كما يجب العمل على تطوير التشريعات والقوانين التي تحكم عمل الجامعات، بحيث تضمن حصولها على الاستقلالية اللازمة لممارسة دورها الحيوي في المجتمع.