الفيليون.. صرخة مكتومة بين التراب والسماء

الفيليون.. صرخة مكتومة بين التراب والسماء
2025-08-31T09:16:49+00:00

عباس عبد شاهين

منذ أن استولى حزب البعث المجرم على السلطة في العراق عقب انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 بدأت معاناة الكورد الفيليين تأخذ طابعاً مأساوياً، إذ جرى التعامل معهم كغرباء عن الوطن الذي تمتد جذورهم فيه إلى أعماق وادي الرافدين، فوصفوا بالتبعية الإيرانية وجردوا من جنسيتهم وصودرت ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة في واحدة من أبشع صور التمييز والاضطهاد التي عرفها تاريخ العراق الحديث.

ما تعرض له الكورد الفيليون من تهجير لم يكن حدث عابر بل كان عملية منظمة نُفذت على مراحل متعاقبة ابتداءً من عام 1969 ثم عام 1970 لتصل إلى ذروتها الدموية عام 1980 حين انطلقت حملة واسعة استهدفت العائلات بالتشريد واقتلاعها من جذورها وتحولت حياتهم إلى مأساة مفتوحة على المجهول.

وتروي إحدى الناجيات من تلك الحقبة المظلمة وهي تستعيد ذكرياتها بحزن وألم، حيث كانت طفلة صغيرة حين داهم رجال الأمن بيتهم عند ساعات الفجر من عام 1981 فحطموا الباب بعنف وملأوا المكان بأسلحتهم وأصواتهم القبيحة، وتقول إنها لم تنسى مشهد والدها وهو يحاول إقناع عائلته بأن الأمر مجرد إجراءات روتينية لكن الحقيقة كانت أقسى بكثير إذ رأته لأول مرة منكسر القلب عاجزاً أمام قوة غاشمة تسلبه كل شيء.

تضيف الناجية أن رجال الأمن قاموا بفصل العائلة إلى مجموعتين: الرجال في سيارة والنساء والأطفال في أخرى وكانت تلك اللحظة بداية شعور بالخوف والضياع وآخر ما رأته من والدها أنه كان ينظر إلى السماء بعينين ممتلئتين بالحسرة فيما كانت أمها تبكي وتتلو الشهادة مستسلمة لقدرها في بلد لم يعرف الرحمة تجاه أبنائه الاصلاء.

ولم تقتصر المأساة على التهجير والقتل وتغييب أكثر من 20 ألف شاب فيلي التي لا تزال عائلاتهم تجهل مصير رفاتهم حتى اليوم، بل رافقها مصادرة البيوت والأموال والمحلات التجارية وحتى الذكريات قد تم ختمها بالشمع الأحمر أمام أعين الجيران المذعورين الذين كانوا يتابعون المشهد من خلف الأبواب الموصدة، ومن هناك بدأت رحلة جديدة في إيران حيث زُج المهجرون في مخيمات قاسية الظروف قبل أن يتمكن بعضهم من الهجرة إلى بلدان أخرى طلباً للحياة والأمان فيما بقي آخرون عالقين بين وطن مسلوب وواقع جديد لم يختاروه.

إن ما تعرض له الكورد الفيليون يعد جريمة إبادة جماعية استهدفت نسيجاً عراقياً أصيلاً ورغم مرور عقود على تلك الفاجعة ما زال الجرح مفتوحاً وصوت الضحايا يصرخ بين التراب والسماء مطالباً بالعدالة والإنصاف ورد الاعتبار، فالفيليون لم يكونوا يوماً غرباء عن وطنهم بل شكلوا أحد أركانه التاريخية والحضارية والثقافية وإنصافهم اليوم واجب وطني وأخلاقي وضمانة بألا تتكرر مثل تلك المآسي مع أي من أبناء هذا البلد الجريح.

"اذا شعرت بالألم فأنت حي، اما اذا شعرت بالآم الاخرين فأنت إنسان"

ليو تولتسوي - كاتب روسي

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon