صورة الماء لن تفارق ذاكرته.. قصة من قلب هور الحويزة: إنه روح وهوية (صور)

صورة الماء لن تفارق ذاكرته.. قصة من قلب هور الحويزة: إنه روح وهوية (صور)
2025-11-21T15:17:11+00:00

شفق نيوز- ميسان   

ما زالت صورة الماء الأزرق المترامي الأطراف عالقة في ذهنه، والضوء الذي يصل إلى قاع المياه يضيف لمعانًا على طحالب الهور يتذكره جيدا، هذا ما يقوله الشاب مصطفى هاشم، عن علاقته بهور الحويزة، الذي اضطر لتركه مع عائلته بعد جفافه.  

ووُلد مصطفى هاشم عام 2002 في قرية تقع على حدود هور الحويزة في محافظة ميسان، لا في عمق الهور نفسه، إذ لم يُسمح للناس بالعيش داخل الهور بعد حملات التهجير التي شهدتها في الثمانينيات والتسعينيات، وما زال المنع قائمًا حتى اليوم.

ويعاني العراق في السنوات الأخيرة من آثار التغيرات المناخية المتسارعة، التي تتجلى في ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة موجات الجفاف، وتراجع كميات الأمطار الموسمية، وهذه الأمور جميعها امتدت للأهوار العراقية، التي كانت ذات يوم موطناً غنيّاً بالمياه والحياة البرية والزراعية، أصبحت اليوم تعاني من التصحر وفقدان التنوع البيئي.

هذه الأزمات المائية والبيئية ليست مجرد تحدٍ عصري، بل امتداد لتاريخ طويل من الإهمال والتهميش، حيث يجد السكان أنفسهم مضطرين للهجرة أو التأقلم مع ظروف قاسية لم تعرفها المنطقة من قبل.

وهنا تبرز قصة هاشم، الشاب الذي نشأ على ضفاف هور الحويزة، كصوت حي ينقل معاناة أهل الأهوار وأثر الجفاف والتغير المناخي على حياتهم اليومية، مستعرضاً كيف تحولت الأراضي المائية التي شكلت هويتهم إلى صحراء جافة وموحشة.

ومنذ طفولته كان يسمع قصص الحياة القديمة في قلب الهور، كيف كان الناس يعيشون بحرية وسط الماء والقصب والجاموس، وكيف كانت الحياة بسيطة ومتصلة بالطبيعة.

يقول مصطفى لوكالة شفق نيوز: "أعيش في منطقة هور الحويزة، وأنا ناشط بيئي ومدافع عن حقوق الإنسان، تتكون عائلتي من ثمانية أفراد".

كان دائمًا يجلس وسط الزورق "البلم"، ويمد رأسه لينظر إلى القاع. ومع والده كان يبيت وسط مسطّح "بركة أم النعاج"، ذلك المسطح المائي الذي تبلغ مساحته 100 كيلومتر مربع وتحيط به غابات القصب الكثيفة التي يصعب اختراقها.

ويروي "في كل مرة كنّا نربط البلم وسط الهور وننام، مشهد السماء المليئة بالنجوم، ونسيم الهواء، وصوت الطيور... أتذكره جيدًا، كان شيئًا ساحرًا".

قبل الجفاف، كان عمل مصطفى الأساسي مع والده هو صيد الأسماك. كانت تلك هي الصورة الأعمق المرتبطة بطفولته، حين كانوا يصحون مع الفجر وينطلقون إلى مياه الهور الهادئة، يصطادون رزقهم من بين القصب والبردي، ويعودون ممتلئين بالطمأنينة. لكن تلك الحياة تبددت مع بداية الجفاف، تحولت مياه الطفولة إلى أرض قاحلة، ولم يعد المكان الذي عرفه سوى صحراء يابسة.

اضطر بعدها إلى ترك الصيد والعمل في أحد الحقول النفطية القريبة بأجور زهيدة لا تتجاوز 20 ألف دينار عراقي يوميًا (حوالي 15 دولارًا).

ومع اكتمال بناء المنشأة، تم تسريحه مثل كثير من الشباب، فانتقل للعمل في محطة كهرباء كعامل. يواصل: "ما زلت أعيش أنا وعائلتي في الأهوار على ضفاف الأنهار، لكن موطننا الأصلي في هور الحويزة صار مجرد ذكرى بعدما التهمه الجفاف".

يصف مصطفى أن حياة عائلته كانت صعبة دائمًا: "كشخص ينحدر من ثقافة أصيلة تعتمد على المياه في أسلوب حياتها، لا أعتبره مبالغة حين أقول إنني شهدت شعبي يموت ببطء كلما حُرم من مياهه".

ويشير إلى الاعتقالات والتنكيل وحتى الموت الذي واجهه أبناء منطقته خلال صراعهم من أجل البقاء. يقول: "لقد ترعرعت في دولتي كمواطن من الدرجة الثانية، كما ترعرع والدي وعائلتي وكل من أعرف".

ويرى أن التغيرات المناخية أصبحت ذريعةً بيد الحكومة العراقية لتبرير فشلها في الحصول على الحصص المائية.

"نحن بلا نصيب في مياه دجلة والفرات، لا من تركيا التي تحبس المياه خلف سدودها، ولا من إيران التي تحولها إلى مناطقها المركزية، ولا من حكومتنا التي تتركنا للجفاف وتمنح أراضينا للشركات النفطية" يقول مصطفى

بعد 2022 تغيّر كل شيء، يتحدث مصطفى :"الهور محاط بساتر أمني، ولا يمكننا دخوله إلا بتصريح خاص يُجدَّد كل ستة أشهر أو سنة. نحن السكان الأصليين مطالبون بتسليم هوياتنا الشخصية عند الدخول، ونتسلّم باجًا مكتوبًا عليه (صياد أهواري)، وعلينا الخروج قبل الرابعة عصرًا.

النساء ممنوعات من دخول الهور تمامًا بحجة أنه لا يمكن تفتيشهن، فيما يُفتَّش الرجال بطريقة قاسية. حتى إن جلبتَ حشائش من الهور فعليك إنزالها بالكامل عند الحاجز الأمني لتفتيشها، وهي عملية مرهقة. هذه الإجراءات تزداد تعقيدًا عامًا بعد عام، كأننا نعيش تحت سلطة لا ترى فينا مواطنين بل غرباء على أرضنا".

لمصطفى الهور ليس مكانًا فحسب: "الهور بالنسبة لنا ليس مجرد مكان، بل هو روح وهوية، لذلك نسمي ما يحدث اليوم احتلالًا وهيمنة على أراضينا، لأنهم لا يمنعوننا من الدخول فقط، بل يمنعون عنا الذاكرة والحياة التي شكّلتنا".

قبل الأزمة كان لدى مصطفى قطيع من عشرين جاموسة، عاش معها عمرًا من الألفة.

يقول: "كنت اتكلم معهن كأنهن بشر، لأن بينّا عشرة وعمر".

يتذكر أول جاموسة نفقت: كانت غارسة بالطين ولا تستطيع الخروج، حاول هو وأبوه بكل الطرق إنقاذها، لكنها ماتت أمام أعينهم: "بالأخير نفقت ماتت وبكينا عليها، لأن مستواها المعنوي كان فرد من أفراد العائلة".

الآن لم يتبقَ لديهم سوى نحو عشر رؤوس جاموس، بين النفوق والبيع فُقد الباقي.

“كل وحدة ذهبت لها حكاية، واحدة نفقت عطشا، وأخرى مرضت، والأخريات تم بيعهن لعدم وجود ماء وعلف، كل بيع كان وجع، نشعر كأننا نودّع أحد من أهلنا".

ويُعدّ هور الحويزة واحداً من أبرز وأوسع الأهوار في جنوب العراق، إذ يستمد مياهه من نهر دجلة، وتتقاسمه إداريّاً محافظتا البصرة وميسان، بينما تحدّه من الشرق الحدود الإيرانية، ومن الشمال منطقتا الشيب وهور السناف.

وتبلغ مساحة الهور نحو 1377 كيلومتراً مربعاً، بعرض يصل إلى 30 كيلومتراً وطول يقارب 80 كيلومتراً، ويتميّز بتنوع كبير في مصادر تغذيته، سواء من الأمطار الموسمية والسيول أو من فروع نهر دجلة، إضافة إلى تمتّعه بتنوع ملحوظ في الأنظمة البيئية والأحيائية التي تجعله من أهم أهوار العراق.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon