رسائل نارية في توقيت سياسي.. ما هو أبعد من استهداف كورمور
نيران مشتعلة في حقل كورمور الغازي
شفق نيوز- أربيل/ السليمانية
تحليل خاص
في غضون ثوانٍ، تحوّل وهج البرج الغازي في حقل كورمور إلى كرة نار برتقالية اخترقت ليل سهل چمچمال. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة والنصف ليل الأربعاء، عندما اصطدمت طائرة مسيّرة مفخخة (صاروخاً بحسب رواية ثانية) بأحد مرافق الحقل الذي يزوّد إقليم كوردستان بمعظم غازه المستخدم لتوليد الكهرباء. خلال أقل من ساعة، كانت أحياء في أربيل والسليمانية ودهوك تغرق في العتمة، فيما أعلنت السلطات أنّ ما يصل إلى ثمانين في المئة من إنتاج الكهرباء في الإقليم خرج عن الخدمة.
الهجوم، الذي لم تتبنّه أي جهة حتى الآن، أصاب قلب مشروع طاقة يعتبره المسؤولون في أربيل قصة النجاح الأهم في ولايتهم الحالية. فحقل كورمور لا يغذي محطات الكهرباء الكبرى في الإقليم فحسب، بل يشكّل العمود الفقري لمبادرة روناكي التي أطلقتها حكومة الإقليم لتوفير كهرباء على مدار الساعة لغالبية السكان، حيث طوابير المولدات الأهلية وظلام الطاقة كانت لسنوات.
وزارة الكهرباء في حكومة الإقليم قالت إن الضربة على كورمور أدت إلى توقف كامل لضخ الغاز نحو محطات التوليد، وخسارة ما يقارب ثمانين في المئة من القدرة الإنتاجية، مع تراجع حاد في تجهيز المدن بالتيار واستمرار انقطاعات واسعة في أربيل والسليمانية ودهوك.
مشروع روناكي، الذي يعني اسمه الإنارة باللغة الكوردية، أُطلق بوعد واضح بتأمين كهرباء أربعٍ وعشرين ساعة لأكبر عدد ممكن من المشتركين. خلال أقل من عام، التحق ملايين المواطنين ومئات آلاف المتاجر والمنشآت بالشبكة الجديدة، وأُطفئت آلاف المولدات الأهلية في المدن الرئيسة للإقليم. لكن الهجوم الأخير أعاد التجربة إلى نقطة ضعفها الأصلية، فالمشروع يعتمد عملياً على خط إمداد واحد بالغ الحساسية ينطلق من كورمور إلى محطات التوليد، وأي ضربة للحقل تعني إطفاء روناكي من المصدر.
كورمور تحت النار
في بغداد، قدّمت قيادة العمليات المشتركة أول رواية رسمية لما حدث. في بيان لها قالت إن الحقل "تعرّض في الساعة 11:30 من ليل الأربعاء إلى استهداف غادر، ما أدى إلى احتراق إحدى الخزانات الرئيسة في هذا الحقل الغازي المهم، من دون تسجيل أية خسائر بشرية".
وأكدت أن الهجوم "يشكل تهديداً مباشراً لمصالح العراقيين وعملاً إرهابياً خطيراً لعرقلة وتأخير الجهود الساعية لترسيخ الاستقرار الأمني والاقتصادي".
هذا التوصيف لا ينظر إلى كورمور باعتباره مشروعاً محلياً في السليمانية، بل باعتباره جزءاً من منظومة طاقة وطنية، على الرغم من التوترات المستمرة بين بغداد وأربيل حول ملف النفط والغاز.
كورمور، الواقع بين كركوك والسليمانية وتديره شركة دانا غاز الإماراتية وشركاؤها، تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى أحد أكثر حقول الطاقة استهدافاً، فمنذ 2022، تعرّض الموقع لسلسلة من الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة تكرّرت على فترات متقاربة.
في حزيران 2022، سقطت عدة صواريخ كاتيوشا قرب الحقل خلال ثلاثة أيام متتالية. في كانون الثاني 2024، أدّت ضربة بمسيّرة إلى إيقاف الإنتاج مؤقتاً وحدوث انقطاعات واسعة للكهرباء، وفي نيسان من العام نفسه، قُتل أربعة عمال أجانب وأصيب آخرون في هجوم آخر بطائرة مسيّرة، تسبّب بتوقّف إمدادات الغاز وقطع الكهرباء عن مناطق واسعة. وفي شباط 2025، استهدفت مسيّرة جديدة منشآت في الحقل، قبل أن تقترب طائرات مسيّرة مجهولة مجدداً من أجوائه قبل أيام من الهجوم الأخير، ما دفع إدارة الحقل إلى رفع حالة الإنذار.
ليلة الأربعاء، بدا أنّ هذه الإنذارات لم تكن كافية. فالمسيّرة هذه المرة أصابت خزاناً أو منشأة تخزين رئيسة، بحسب مصادر أمنية وتقارير شركات عاملة في الموقع لوكالة شفق نيوز، ما أدى إلى حريق كبير وتعطيل شامل للإنتاج، وتوقّف إمدادات الغاز لمحطات توليد الكهرباء في الإقليم.
لهجة شديدة
في أربيل، سارع رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني إلى إصدار بيان ندّد بالهجوم، واصفاً ما جرى بأنه "جريمة" تستهدف منشأة حيوية يعتمد عليها ملايين المواطنين. كما أشار إلى أن الضربة "أدت إلى توقف إمدادات الغاز لمحطات توليد الكهرباء"، وحمّل الحكومة الاتحادية والمؤسسات الأمنية مسؤولية "بذل جهود جدية في أقرب وقت ممكن واتخاذ التدابير اللازمة والفعالة للتحقيق في هذه الجريمة ومعاقبة مرتكبيها ومنع تكرارها".
رسالة بارزاني وضعت الكرة بوضوح في ملعب بغداد. فالهجوم وقع في منطقة تقع على تماس مع ما تسميه السلطات الاتحادية "المناطق المتنازع عليها"، حيث تتداخل صلاحيات الجيش العراقي وقوات البيشمركة، فيما تبقى مسؤولية السماء، عملياً، بلا مظلة دفاع جوية فعالة ضد المسيّرات.
بالمقابل، دعا رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني الولايات المتحدة وشركاء دوليين آخرين إلى تزويد كوردستان "بمعدات دفاعية" لحماية البنى التحتية المدنية، ودعم كوردستان في اتخاذ "إجراءات جدية" لردع الهجمات التي تستهدف "شعبنا ومسار التقدم" في الإقليم، بعد أن أدان على منصة إكس ما وصفه بـ"الهجوم الجبان" على كورمور، وحثّ الحكومة الاتحادية على العثور على الجناة وتقديمهم للعدالة.
وآكد أنّ "الإرهابيين المعتادين أو أيّاً كان يقف وراء هجمات الليلة، لا يجوز السماح لهم بتكرار هذه الجرائم أو الإفراج عنهم بكفالة كما حصل في السابق".
في السليمانية، وصف زعيم الاتحاد الوطني الكوردستاني بافل طالباني- حيث المنطقة المستهدفة تقع تحت نفوذ حزبه- في بيان الهجوم بأنه "إرهابي" يستهدف "معيشة مواطنينا في اقليم كوردستان والعراق وتخريب الاستقرار في بلدنا"، وتعهد بأن يكون الرد "حاسماً وعنيفاً".
كما أعلن أن "السلاح يجب أن يكون بيد الدولة فقط، أما الميليشيات التي تعمل خارج سيادة القانون فيجب أن تُحل أو تُدمّر".
بهذه العبارات، وجّه طالباني الاتهام بصورة غير مباشرة إلى الفصائل المسلحة الخارجة عن إطار الدولة، في وقت يتهم فيه مسؤولون في الإقليم تلك الفصائل بالوقوف خلف هجمات سابقة على الحقول والمنشآت النفطية والغازية في الإقليم.
في بغداد، عبّر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في اتصال هاتفي مع مسرور بارزاني عن إدانته للهجوم، معتبراً أنه "هجوم على العراق بأكمله".
بيد أن وزير الكهرباء والثروات الطبيعية في كوردستان كمال محمد صالح إن الوزارة لفت إلى أن إنتاج الطاقة في الإقليم هبط حالياً إلى نحو 1400 ميغاواط، الأمر الذي يتيح للحكومة تجهيز المواطنين بالكهرباء لساعات محدودة. وأقر بأن حجم الأضرار الناجمة عن الهجوم ما زال غير واضح بانتظار نتائج التحقيق الفني.
كما دعا إلى نصب منظومات دفاع جوي حول حقول النفط والغاز في إقليم كوردستان وسائر أنحاء العراق لحمايتها من الهجمات المتكررة، مذكّراً بأن حقل كورمور وحده تعرّض حتى الآن لأحد عشر هجوماً.
من يطلق المسيّرات؟
رغم هذا التوافق الظاهر في لهجة الإدانة، ما تزال الهوية الحقيقية لمن يقف خلف الهجوم محل جدل سياسي وأمني. بيانات سابقة للحكومة الكوردية نسبت هجمات مماثلة إلى "ميليشيات عراقية مدعومة من إيران"، في حين نفى قادة في الحشد الشعبي مراراً أن تكون منصات الإطلاق خاضعة لهم.
وبهذه الأثناء، يقول مصدر مقرب من دائرة صنع القرار في أربيل لوكالة شفق نيوز، إن "الجماعات الخارجة عن القانون ترى في تنامي دور الإقليم في إنتاج الغاز وتصديره تهديداً مزدوجاً، فمن جهة، يمكن للغاز الكوردي أن يضعف أوراق نفوذ إيران الطاقية في العراق، إذا استُثمرت الحقول المحلية وربطت بالشبكة الاتحادية. ومن جهة أخرى، يتيح مشروع مثل روناكي لحكومة حليفة للولايات المتحدة أن تعرض نموذجاً مختلفاً في إدارة ملف الكهرباء، في بلد باتت أزمته الكهربائية رمزاً لفشل الدولة.
سياسياً، يأتي هجوم كورمور بعد أسبوعين من انتخابات برلمانية في العراق، وخضم تشكيل حكومة جديدة، ومباحثات معطلة بين القوى الكوردية لتكوين حكومة وبرلمان في الإقليم، معطل منذ أكثر من عام، في هذا السياق، يقرأ سياسيون الضربة بوصفها رسالة في هذا الحقل، أكثر مما هي رسالة إلى منشأة غازية بعينها.
كما أنّ الضربة جاءت قبل أيام من زيارة متوقعة لمبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الجديد إلى العراق، مارك سافايا، رجل الأعمال من أصول عراقية الذي عُيّن مبعوثاً خاصاً إلى بغداد، في خطوة رأى فيها كثيرون بداية مرحلة أكثر تشدداً في التعامل مع الفصائل المقرّبة من إيران. في بلد تتداخل فيه خرائط السلاح والنفط والغاز، تصبح أي مسيّرة تصيب خزاناً في چمچمال جزءاً من اختبار أكبر لحدود هذا التشدد.
ويرى الباحث في الشأن السياسي ياسين عزيز أن توقيت ونوعية الهجوم على كورمور يعكسان أجندة داخلية أو خارجية للضغط على إقليم كوردستان عبر ضرب اقتصاده والبنية التحتية فيه، وربما استغلال الحدث لتوسيع الفجوة بين القوى الكوردية في لحظة يُفترض أن تتجه فيها نحو موقف موحد.
ويرجّح خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، أن فصائل مسلحة تعمل ضمن مشروع إقليمي لا مصلحة له في استقلال العراق غازياً تقف خلف الهجوم، لأن كورمور مرشح لأن يكون بديلاً عن مزودين إقليميين للطاقة يستثمرون تبعية بغداد لهم سياسياً واقتصادياً.
كما يفيد الخبير الاستراتيجي د. كارزان عبد الرحمن بأن استهداف حقل كورمور لا يمكن عزله عن تشابك المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، وأن أكثر من طرف داخلي وإقليمي قد يستفيد من استمرار هذه الضربات.
ويرى خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، أن كورمور، بوصفه عصباً رئيسياً للكهرباء في إقليم كوردستان، يُستخدم كنقطة ضغط في الخلافات بين بغداد وأربيل حول ملكية الحقول والعوائد وآليات التصدير، وأن ضربه يربك بيئة الاستثمار ويضغط على الشركات الأجنبية. كما يشير إلى احتمال تورط مجاميع مسلحة مرتبطة بأطراف إقليمية تستغل الطائرات المسيّرة لإرسال رسائل سياسية وأمنية معقّدة، مستفيدة من الأزمات الكهربائية والضغط الشعبي الناتج.
ويخلص إلى أن الهجمات تعكس صراع مصالح يتجاوز حدود الإقليم، ما يستدعي تحقيقات شفافة وإجراءات أمنية أكثر صرامة لحماية أحد أهم مشاريع الطاقة في العراق.
وبعيداً عن حسابات النفوذ وحدود الصواريخ، بدت الضربة على كورمور بالنسبة لكثيرين عودة غير معلنة إلى زمن ظنوا أنهم تجاوزوه. في أحياء الإقليم التي لم تكن أنوارها تنطفئ إلا نادراً، بدأ الناس يضبطون ساعاتهم مجدداً على جدول الانقطاع، ويعيدون ترتيب تفاصيل يومهم وفق مزاج المولد. هناك، عند الخط الفاصل بين مصباح يشتعل ومصعد يتوقف، تتساقط الرسائل النارية من سماء متنازع عليها، فيما يبقى السؤال معلّقاً حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الصراع عندما تصبح الطاقة جزءاً من ميدان معركة؟