القابلة تظهر من جديد في الموصل
شفق نيوز/ مهنة القابلة التي اندثرت منذ سنوات بعد تطور الخدمات الصحية تعود إلى الموصل من جديد لتنافس مستشفيات الولادة رغم انخفاض تكاليف العلاج فيها، والأسباب مرتبطة بسيطرة تنظيم "داعش" على المدينة.
فوق سرير حديدي ملتصق بجدار غرفة صغيرة مطلة على قارعة الطريق تم إغلاق نافذتها بإحكام لتحجب الرؤية وتقلل نفاذ الصراخ الشديد الى الحي الشعبي الواقع وسط مدينة الموصل، وضعت ريم طفلها الرابع بعسر شديد.
اختارت ريم (25 عاما) هذه المرة ان تضع مولودها على يد القابلة، وشجعها على ذلك بعض قريباتها اللائي سبقنها الى هذه التجربة التي تبدو جديدة على جيل الشباب.
تقول ريم عبر اتصال هاتفي اختلط فيه صوتها بصراخ الرضيع، "لم اخطط يوما للإنجاب بهذه الطريقة لكنني وجدت نفسي مجبرة، فعندما شعرت بآلام المخاض ذهبت مرتين الى مستشفى (البتول) الذي وضعت فيه اطفالي الثلاثة، الا ان الطبيبات رفضن استقبالي بحجة ان موعد ولادتي لم يحن بعد".
"ليس المضطرات أمثالي يلجأن الى هذا الحل، فهناك نساء أخريات أصبحت القابلة خيارهن الاول"، تضيف.
الخدمات في مستشفيات الولادة بالموصل تراجعت كثيرا حيث يوجد نقص واضح في عدد طبيبات الاختصاص والكادر الوسطي، بسبب النزوح والتهجير على ايدي مسلحي "داعش" المتشددين. الاحصائية الرسمية الصادرة عن مديرية صحة نينوى تشير الى نزوح نحو 30% من الاطباء والممرضين في الاشهر الستة الاولى لسيطرة التنظيم على المدينة، ويبدو ان النسبة ارتفعت فيما بعد.
ضحى محمود هذا اسم مستعار لواحدة من اشهر الطبيبات الموصليات المختصات في التوليد تقول ان "ابرز 15 طبيبا وطبيبة في اختصاص أمراض النساء والتوليد غادروا المدينة، الى جانب مجموعة من اطباء التخدير ومساعديهم، واغلب الممرضات العاملات في مشافي الولادة تم تهجيرهن على يد داعش مع عائلاتهن، لأنهن مسيحيات او من المكون الشبكي".
وفاقم المشكلة ان وزارة التعليم العالي والمجلس العراقي للاختصاصات الطبية اغلقت المراكز التدريبية في الموصل ونقلت المقيمين الأقدمين المتدربين إلى مراكز تدريبية في إقليم كردستان أو تحت سيطرة الحكومة الاتحادية، ما تسبب بنقص حاد في اطباء الاختصاص، كما لم تتلق المستشفيات والمراكز الصحية أطباءً جددا لتوقف الدراسة في كليات الطب بالمحافظة منذ حزيران (يونيو) 2014.
وبرغم ان الموصل تضم سبع مستشفيات اثنان تتخصصان بالتوليد وامرض النساء، الا ان عدد المرضى بات اكبر من طاقة الكوادر الطبية، فعدد سكان المدينة يفوق حاليا (1.5) مليون نسمة، ونسبة الانجاب بينهم عالية وفق أرقام صحة نينوى التي تفيد بان المعدل لم ينخفض في ظل هذا الظرف الاستثنائي، "فثمة اكثر من (200) حالة ولادة يوميا منها (50) تجرى بعمليات قيصرية".
لحسن حظ ريم ان ولادتها طبيعية، لذا حملت حقيبة صغيرة محشوة بملابس الطفل المنتظر وسارت خلف زوجها مثل بطة متباطئة مكللة بسواد النقاب الذي يفرضه داعش على النساء، وقد برزت بطنها التي انتفخت كالبالون ومن خلفها امها، وصلوا بسيارتهم الى منزل متواضع يتوسط حي الزنجلي.
دخلتا الغرفة الصغيرة التي كانت دكانا متواضعا، حيث استقبلتهما بابتسامة عريضة ام علي وهي سيدة اربعينية، ثم قالت وهي تنظر الى ريم التي شحب وجهها ووضعت يدها على بطنها من شدة الالم : "استلقي على السرير ولا تخافي ستكون الامور سهلة، هنا ولدت عشرات النساء، كما ان أمهاتنا وجداتنا كن ينجبن في المنازل حتى وقت قريب".
الزوج أصر على البقاء امام نافذة الغرفة المغلقة وهو في حالة تأهب لأي طارئ، فهذه تجربتهم الاولى مع القابلة.
عندما بدأ صراخ ريم يتجاوز النافذة فسمعه زوجها والجيران، ارتبك الجميع الا ام علي فهي لم تعبأ للأمر وغادرت الغرفة بهدوء الى زوجها المعاق الذي كان يحتاج مساعدتها بين حين واخر.
أم علي تعيل عائلة مكونة من ستة افراد، زوجها عاجز وابناؤها عاطلون عن العمل، وهي موظفة في مستشفى البتول للولادة وتعمل يومين في الاسبوع مقابل راتب زهيد لا يتجاوز (50) دولارا يدفع لها من التمويل الذاتي للمستشفى، لذا تضطر لممارسة المهنة في منزلها.
ثمة الكثير من امثال هذه المرأة اصبحن قابلات في سبيل العيش، بعدما قطعت الحكومة الاتحادية رواتب جميع الموظفين في الموصل منذ حزيران (يونيو)2014، سيما وانه لا توجد حاليا رقابة او شروط تمنع مزاولتهن العمل.
يبدو ان التاريخ يعيد نفسه، فالموصليون المحاصرون في مدينتهم منذ (26) شهرا يتذكرون ان مهنة القابلات القديمة ازدهرت آخر مرة في فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضه المجتمع الدولي على العراق عام 1991 واستمر (13) عاما، بسبب تردي الخدمات الصحية آنذاك، واليوم يتكرر الأمر ذاته.
الطبيبة ضحى محمود تحذر من الإنجاب على ايدي القابلات لأنهن لا يحسنّ التعامل مع أي انحراف في مجرى الولادة او الأعراض التي قد ترافق الولادة كارتفاع ضغط الدم او النزيف.
الواقع داخل الموصل يفرض نفسه على السكان بقوة، تكاليف العلاج في المستشفيات الحكومية منخفضة نوعا ما، فالولادة الطبيعية بـعشرة دولارات فقط والعمليات القيصرية بـ(60) دولارا وهي اسعار مناسبة قياسا بالعيادات الخاصة التي تصل تكلفة العملية فيها الى (300) دولار، لذا يكون الاقبال على المستشفيات الحكومية كبيرا يفوق طاقة الطواقم العاملة فيه، وهذا ينعكس سلبا على مستوى الرعاية والاهتمام بالمريضات.
عندما بدأت مرحلة المخاض الاخيرة واشتد الصراخ، وضعت ام علي قطعة قماش في فم ريم وطلبت منها ان تعض عليها بقوة لتكتم صوتها الذي ملأ الحي.
بعد ساعتين، سكتت ريم وانطلقت صرخات المولود، اخيرا تنفس الزوج الذي لم يبرح مكانه امام النافذة.
ام علي تقبض (20) دولارا في العادة لكن بما ان زوج ريم عاطل وعائلتها تعيش وضعا معيشيا حرجا قبلت بـ (15) دستهن في جيبها. لما تحركت السيارة التي حملت ريم ومولودها واختفت سريعا، بقيت عينا ام علي تراقبان الطريق بانتظار زائرة اخرى.
المصدر: موقع نقاش